الأحد، 7 ديسمبر 2014

الاثنين، 1 ديسمبر 2014

فيسبوك - "البيت أسود The House Is Black"


شاهدت قبل عدة أسابيع الفيلم الوثائقي القصير "البيت أسود" من إخراج الشاعرة الإيرانية القديرة فروخ فروخزاد.

قبل أن أبدأ بالحديث عن الفيلم أود التنويه على أنه فيلم صعب، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لذا هو ليس للجميع. (ألست أقول هذا عن كل الأفلام التي أشاهدها؟ عموماً...)

لم هو صعب؟ لأنه يتحدث عن القبح، يستفتح الفيلم بهذه الكلمات: "هذا العالم لا ينقصه القبح. لو أغمضنا أعيننا عنه، لرأينا منه المزيد." ثم يتبين لنا أنه يتحدث عن مستعمرة لمرض الجذام في إيران، ولا يخفى عليكم بكل تأكيد مدى قسوة هذا المرض على من يصيبه إذ أنه يسبب تقرحات وتشوهات جلدية شديدة، تصل في بعض الحالات إلى الإعاقة والعمى. كما أن تاريخ هذا المرض، وخصوصاً في القارة الأوروبية خلال العصور الوسطى، مرتبط بالسجون والعار.

ولكن يوضح لنا الفيلم من البداية أن هدفه هو محو هذه الصورة النمطية والتخفيف عن المصابين بالجذام. يصوّر لنا الفيلم نمط الحياة التي يعيشها هؤلاء المرضى من دراسة ولعب للأطفال إلى رتابة الحياة اليومية من طعام ونوم وغناء إلى مناسبات خاصة كالزواج وأخيراً محاولات وطرق العلاج، معتمداً في سرده على أكثر من طريقة، قصائد تلقيها الشاعرة فروغ فروخزاد وتلاوة من القرآن والعهد القديم (وجمال القصائد والآيات يشكل تناقض صارخ مع صور الفيلم الصعبة والمربكة) وسرد تثقيفي عن المرض.

أجده تحدياً بالنسبة لي أن أصف لكم ما الذي أعجبني تحديداً في الفيلم، وربما أعرفه تماماً ولكن لا أريد ذكره لدواعي عاطفية، ولكنه بصدق مسّني وأثر بي كثيراً وقدم لي صورة جديدة تماماً علي.

تقييمي له 10/10.

وصلة الفيلم على موقع IMDb:
http://www.imdb.com/title/tt0336693/

وصلة الفيلم على YouTube:
https://www.youtube.com/watch?v=5WL4w5ceO7w

وصلة الفيلم على Vimeo:
http://vimeo.com/11482249

_____________

I watched several weeks ago the short documentary film "The House is Black" directed by the great Iranian poet Forough Farrokhzad.

Before I talk about the film I'd like to say a disclaimer: this film is hard to watch, and is not for everybody. Why? Because it talks about ugliness, from the opening scene a man narrates: "there is no shortage of ugliness in this world. If man closed his eyes to it, there would be even more." Then it appears that the film is about a leper colony in Iran. Needless to say how leprosy causes skin disfiguration that may lead in some cases to blindness and physical disability. The history of this disease especially in Medieval Europe was associated with confinement and social stigma.

But the film declares from the beginning that its motive is to wipe out this ugliness - and thus this stigma - and to relieve the victims. The film is very minimal in the sense that it only shows the regular daily lives of the people living in this leper colony; from school and playing for children, to daily habits like eating and singing, to special occasions like marriage traditions, and it also shows the process of treatment. The film's voice-overs divides between Farrokhzad's own poetry, and some verses from the Quran and the Old Testament (which provides a stark contrast between the meaning of these verses and the disturbing images that appear on the screen) as well as some educational excerpts.

I find it difficult for me to say what I liked exactly about this film; perhaps I know it deep inside but I wouldn't want to reveal it. I would only say that it has deeply affected me, and watching it was an unforgettable experience.


الأحد، 9 نوفمبر 2014

حول ابتلاع العالم والقنابل الرمّانية - رواية "أطفال منتصف الليل"


لعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا حين نسمع اسم (سلمان رشدي) هو روايته التي سببت جدلاً كبيرًا في العالم العربي والإسلامي «آيات شيطانية» والتي أفتى بسببها آية الله الخميني بجواز قتل سلمان رشدي بسبب ما كتب في الرواية، ولا يزال الجدل قائمًا إلى يومنا هذا رغم مضي ستة وعشرين عامًا منذ صدورها. ولكن الرواية التي حازت على شهرة عالمية وجوائز كثيرة هي روايته «أطفال منتصف الليل» الني نشرت عام 1981م. حصدت الرواية جائزة البوكر لذلك العام، ثم حصدت جائزة أفضل البوكر، أي أفضل كتاب بين جميع الكتب الفائزة بجائزة البوكر منذ بدايتها، في الذكرى الخامسة والعشرين، ثم مرة أخرى في الذكرى الأربعين.

حين بدأت بقراءة الرواية، كنتُ متشككة إلى حد ما في إبداعها ومنزعجة قليلاً من طولها، حيث إني قرأتها لغرض جامعي – وربما سنتفق أننا نستثقل أي قراءة واجبة علينا – ولكن مع تقدم الصفحات والفصول وجدتني منجذبة إليها وأنتهز الفرص لقراءتها حتى أتممتها فتمنيت لو أنها كانت أطول! الرواية مدهشة على جميع الأصعدة في نظري، كقصة وسرد وشخصيات ولغة وعوامل المكان والزمان وصوت الراوي، حتى تفاصيلها الكثيرة والتاريخية التي تمنيت لو أنها أقل، تفهمت ضرورتها مع إنهائي للرواية. في نفس الليلة التي أنهيت فيها الرواية قررت مباشرة أن أشاهد الفيلم المقتبس عنها، إخراج ديبا مهتا وبإشراف وسيناريو سلمان رشدي نفسه. كان الفيلم متعة بصرية مدهشة إذ احتوى على عدد من المشاهد الجميلة مثل مشهد استقلال الهند ومشهد الزفاف، ولكنه مخيب للآمال قليلاً لأنه لم ينقل سحر الرواية وكانت أحداثه سريعة وغير متماسكة كما أن تطور الشخصيات لم يكن واضحًا مثلما وجدتُ في الرواية. كل هذا مفهوم من ناحية لأن الرواية فيها كثير من التفاصيل والأحداث المتشابكة وكأنها لوحة واحدة كبيرة، وهذا صعب نقله إلى فيلم مدته ساعتان ونصف تقريبًا – لا بد أن يضيع شيئًا ما في عملية النقل هذه. أود التركيز في هذا المقال على موضوعين مهمين تناولهم رشدي في «أطفال منتصف الليل»، وهما تصوير الدين، وذاتية الحقيقة.


لا بد أولاً من إعطاء مقدمة بسيطة عن «أطفال منتصف الليل» من غير سرد الكثير من التفاصيل التي قد تفسد إثارة القصة على القارئ الذي يود قراءة الرواية. تتحدث الرواية عن قصة سليم سيناي، الذي ولد في الخامس عشر من أغسطس عام 1947م، أثناء تشابك أيدي الساعة في المنتصف تمامًا، مرحبةً بقدومه مثلما يؤمن هو، أي الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل، اللحظة إياها لاستقلال الهند من الاستعمار البريطاني. كانت ولادته وولادة الهند الجديدة – توأمته – متزامنة، وهكذا هي أحداث الرواية: قصة حياته بالتوازي وأحيانًا التطابق مع قصة الهند التاريخية والسياسية. يمتلك سليم موهبة التوارد بالخواطر لأنه ولد في هذا اليوم التاريخي المميز، وكذلك أطفال منتصف الليل، الذين ولدوا ما بين الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الواحدة صباحًا وهم 581 طفلا، كل منهم يمتلك قوى خارقة فريدة وكلما كان موعد ولادتهم أقرب إلى منتصف الليل، كانت قواهم أشد وأعظم. شيفا، الذي ولد في نفس لحظة ولادة سليم، يمتلك موهبة الحرب والقوة، في حين أن بارفاتي التي ولدت بعد ثوان معدودة من منتصف الليل تمتلك موهبة السحر. بينما يكتب سليم سيناي قصته، يقرأها على بادما، صديقته التي تعتني به، وهي تمثل صوت القارئ المتشكك والساخر والعاقل، وهي تحاول غالبًا أن تجعله يسرع في سرد الأحداث ولا ينغمس كثيرًا في التفاصيل. في إحدى شكاويها المضحكة – والتي قالتها في الفصول الأولى حيث يسرد سليم قصة عائلته قبل ولادته – تلح عليه: «من الأفضل لك أن تسرع قليلاً، وإلا لمتّ قبل أن تكتب عن ولادتك!» ولكنه يؤكد لاحقًا ويكرر دائمًا أنه «مبتلع حيوات» ولكي نفهمه جيدًا يجب أن نبتلع العالم بأكمله.

الدين في رواية سلمان رشدي محرك أساسي في تسلسل الأحداث، فمنذ الصفحات الأولى نرى كيف أثر قرار آدم عزيز -جد سليم سيناي- على حياته وحياة أولاده وأحفاده من بعده. في إحدى الصباحات الكشميرية الباردة، أصاب آدم عزيز أنفه أثناء السجود في الصلاة، ونزف دمًا تجمد فورًا إلى كرات من الياقوت، ثم بكى وتجمدت دموعه وأصبحت كرات من الألماس. بعد هذه الحادثة قرر الجد ألا يسجد مرة أخرى لرب أو لإنسان، مما كوّن فجوة بحجم قبضة اليد في بطنه جعلته هشًا ومتشككًا طوال حياته. هذه الفجوة انتقلت إلى ابنته ممتاز –أو اسمها بعد الزواج أمينة سيناي– التي ستحمل معها شعورًا بالذنب، ورآها سليم بسبب قدرته على التوارد بالخواطر. هذه الفجوة لاحقت سليم سيناي حتى بعد وفاة جده لأنه الوحيد الذي استطاع أن يراها، وهي موازية في رمزيتها لاعتقاد سليم وإيمانه التام بأنه سوف يموت في عيد ميلاده الحادي والثلاثين في الذكرى الحادية والثلاثين لاستقلال الهند. من الفصول الأولى يعلل سليم رغبته بالكتابة عن حياته بإحساسه بأنه سوف يموت ويطلب من القارئ أن يقبل بأنه في النهاية القريبة سوف يتداعى إلى جسيمات ترابية منسية ولا صوت لها.

من أكثر المشاهد المروعة التي صوّرتها الرواية هو مشهد مقتل شهيد، صديق سليم وجندي باكستاني شاب. حلم شهيد بالشهادة، تحقيقًا لأمنية والده الذي أراد له أن يستحق اسمه. كان يحلم برمانة تحلق خلفه وهي تمثل موته ونيله للشهادة، إلا أنه شهد رمانة من نوع آخر –إذ سقطت قنبلة عليه أثناء الحرب الباكستانية الهندية وفقد رجليه إثر ذلك. حمله سليم إلى مئذنة قريبة، ليواجه حربًا أخرى لأن مجموعة من النمل انتقلت من التهام صرصار إلى افتراس دم شهيد وسط صراخه. همّ سليم إلى مساعدته وضرب مرفقه مفتاح كهربائي شغل مكبر الصوت الخاص بالمئذنة، وبعد ذلك «لن ينسى الناس كيف ارتفعت الصرخات المنددة بعذابات الحرب الفظيعة من المسجد». من خلال هذه الصورة المروعة، عبر سلمان رشدي عن استنكاره للحرب والموت اللامنطقي والعبثي، حيث أن هذه الصرخة كانت حقيقية وليست جوفاء ولامرئية مثل فجوة آدم عزيز، وهي تمثل الرفض القاطع لآلاف الفظائع التي شهدتها الهند وباكستان في تلك الفترة. شهيد الذي حلم بالشهادة كان موته عنيفًا ومأساويًا وكانت شهادته بلا معنى وكأن رشدي يريد عبر إيصال هذه الصرخة عبر المئذنة أن يرينا أن الموت واحد، سواء كان لمسلم أو هندوسي، وأن الكل خاسر في الحرب.

الثيمة الأخرى المتكررة في الرواية هي ذاتية وعدم موثوقية الحقيقة والذاكرة. في فصل «السلم والثعبان» يتحدث سليم عن حبه لهذه اللعبة وهو طفل صغير، وكيف أثرت في تفكيره ونظرته نحو الأمور. لعلنا جميعًا نعرف قواعد اللعبة: السلم يصعد بك إلى الأعلى وهو جيد ويجعلك تفوز، والثعبان يهبط بك إلى الأسفل وهو سيء ويجعلك تخسر. وقد أدرك سليم منذ الصغر أننا كلما صعدنا سلمًا وجدنا ثعبانًا ينتظرنا ليوقعنا. ولكن ما لا توضحه اللعبة هو عدم حتمية ومطلقية هذه العلاقة، إذ قد تكون السلالم ثعابين، وقد تكون الثعابين سلالم في الحياة. يقص علينا سليم كيف وهو صغير أصيب بحمى التيفوئيد وكيف عالجه جارهم الذي يسكن في غرفة في علية منزلهم وهو مختص بدراسة الثعابين عبر إعطائه سما مخففا لثعبان الكوبرا. أدرك سليم من خلال هذه الحادثة «غموض الثعابين»، أي عدم حتمية الشر وتلازمه مع الخير حد التماهي في بعض الأحيان. هذا الصراع ما بين قوتين خارجيتين الذي ما يلبث أن يتحول إلى صراع داخلي بين قوى متشابكة متكرر طوال الرواية ونراه في أوضح صوره عبر العلاقة بين سليم وشيفا، سليم الذي يؤمن بالأفكار والمبادئ وشيفا الذي يؤمن بالمال والقوة.

أخطأ سليم في تواريخ بعض الوقائع التاريخية مرتين، في حدث انتخابي وفي اغتيال غاندي، ولكنه لا يعتذر عن هذه الأخطاء بل يؤكد أنه يسرد قصته منطلقًا من ذاتية حياته وذاكرته. يقول: «الذاكرة لها نوعها الخاص، فهي تختار، وتمسح، وتبدل، وتبالغ، وتقلل، وتمجد، وتذم، ولكنها في النهاية تكون حقيقتها الخاصة، نسختها اللامتجانسة ولكن المتماسكة من الأحداث». في آخر فصل من الكتاب يضع سليم عدة أسئلة تجعل القارئ يتساءل عن صحة الأحداث، بل ويشك في حدوثها، مثل «لم احتاج سليم لحادثة لكي يكسب قواه الخارقة؟»، وأسئلة أخرى لن أضعها لكي لا أفسد على القارئ المفاجئات التي تخبأها الرواية. ولكنه ينهي هذه الفقرة بتأكيده على أن الأمور حدثت هكذا لأنها حدثت هكذا، ولا تفسير آخر غير ذاك. هنا مرة أخرى نرى عدم موثوقية السرد ونتذكر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، رائد النظرية التفكيكية، الذي يؤكد على لامركزية اللغة وعدم وجود مفاهيم كالذات والحقيقة والوعي لأنها جميعًا مختلقة ومصطنعة، كما أنه يعارض التفكير الثنائي الذي يقسم الأشياء والأفكار إلى متناقضات وبالتالي يؤدي إلى صفها في ترتيب هرمي، جاعلاً أحدها أفضل من الآخر، ويقترح بدلاً من هذا أن «نفكك» اللغة ونبين أن الأشياء في الحقيقة ليست متناقضة بل معنية ببعضها وربما أيضًا متطابقة. يؤكد سليم هذه اللاحتمية ويقول: «الحقيقة مسألة نسبية، لذا بقدر ما تنأى عن الماضي، يبدو لك هذا الماضي محسوسًا ومعقولًا أكثر، وبقدر ما تقترب من الحاضر، يبدو لك أبعد وأبعد عن المعقولية». مثلما ذكرت في بادئ المقال، عندما انتهيت من مشاهدة الفيلم كنت غاضبة لأنه غير دقيق، وغيّر من تسلسل الأحداث، ومسح بعض الأحداث المهمة، وأهمل بعض الشخصيات الرئيسية، إلى أنني وبعد مضي فترة من الزمن، أدركت أن الرواية بأكملها ليست مطلقة، وأن سلمان رشدي لا يريد لنا أن نتقبلها بالضبط كما هي، لأن سليم بنفسه شك في حقيقية بعض الوقائع. ولكن ما يهم في النهاية هو إدراكنا أنها «رغم كل شيء نابعة عن حب»، مثلما يؤكد سليم في نهاية الرواية.

ومرة أخرى، مقالي هذا يتناول موضوعين فحسب من الرواية، وفي الحقيقة هي نظرتي الذاتية والنسبية التي جعلتني أركز على هذين الموضوعين خاصة دون الأخرى. يمكن قراءة الرواية في سياقها التاريخي وتحليل الكثير من أحداثها مثل الانتخابات، والحروب بين الهند والباكستان، واستقلال البنغلاديش، ودور رئيسة الوزراء إنديرا غاندي التي تعتبر محورا أساسيا في الرواية (وفي تاريخ الهند الحديث أيضًا)، كما يمكن قراءة الرواية من منطلق صراع الطبقات الاجتماعية ما بين البرجوازية والبروليتارية والاستعمارية، وأيضًا من زاوية أنها بأكملها ترمز إلى الهند بكافة شخصياتها وعوالمها السحرية والواقعية. لكي نفهم الرواية، كما يبدو لي، يجب أن نبتلع الهند بحدودها الحديثة والقديمة، وهذا حتمًا شيء مدهش وساحر.


————————-

*تُرجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية، وأصدرتها دار الجمل بترجمة عبدالكريم ناصيف.


————————-

نُشر المقال في مجلة أكثر من حياة بتاريخ 09 نوفمبر، 2014:

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

فيسبوك - "Who's Afraid of Virginia Woolf?"

I thought to myself: 'I wanna watch a light film for tonight, not heavy as most of my films are'. I chose "Who's Afraid of Virginia Woolf?" because genius Wikipedia decided it's black comedy and drama, which I normally love and enjoy.

This turns out to be one of the most devastating films I've watched in a long time. Think Bergman plus a lot of shouting/cursing/drinking. God, this was so uneasy. I'm almost glad it's over because I'm emotionally drained. But now that I'm thinking about it, it is completely powerful and marvelous. Highly recommended but not for the fainthearted.


عن كتاب "معذبوا الأرض" لفرانز فانو


أنهيت قراءة كتاب "معذبوا الأرض" لفرانز فانو والذي يعتبر من أهم ما كتب عن نظريات ما بعد الاستعمار، إلى جانب كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد.
يعرض الكتاب تحليلاً سيكولوجياً عميقاً للجوانب المختلفة للاستعمار التي تؤثر بشكل مباشر على المستعمَر والمستعمِر. على رغم أني قرأته على عجالة، لأن علي تقديمه في الفصل بعد يومين، إلا أني استمتعت به كثيراً. فصله الأخير، بشكل خاص، كان مؤثراً وقوياً بالنسبة لي. سرد فيه فانو حالات كثيرة شهدها خلال عمله كطبيب نفسي في إحدى مستشفيات الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، من طرفي الصراع: الجزائريين والأوروبيين، ونرى فيه سايكولوجية الضحية والجاني، بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم السياسية وتصنيفاتهم المجتمعية.

مثلاً: المراهقين الذين قتلا صديقهم الأوروبي رغم أنه لم يفعل شيئاً لهما، ولكنهما شهدا مآسي الحرب على أهليهما وكان فعلهما ذاك انتقاماً طفولياً محضاً.
أو المحقق البوليسي الأوروبي الذي كان يعذب المقاومون وأدى ذلك إلى إصابته بنوبات غضب وهستيريا أفقدته أعصابه حتى أمام زوجته وأطفاله.
أو الشاب الجزائري الذي لم يرد أن يخوض الحرب وأراد التركيز فقط على دراسته وتخصصه التقني، ولكن نظرات الناس له وتصنيفهم له بأنه خائن جعله يسمع هلوسات لثلاث ساعات متواصلة في الليل، أصوات في رأسه تشتمه وتصفه بالخيانة والجبن، مما قاده إلى حافة الجنون.
أو الفتاة الأوروبية المصابة بالقلق والهوس لأن أباها كان يعذب المقاومون في سرداب منزلهم، وكانت تسمع صرخاتهم دائماً.

هذا الفصل الأخير على وجه خاص كان متعباً ولكنه ضروري لنفهم ضراوة الحرب وأثرها السايكولوجي العميق على طرفي الصراع، ومنه فهمت قول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر واصفاً هذا الكتاب: "يجب أن تتحلى بالشجاعة لكي تقرأ هذا الكتاب."

الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

فيسبوك - "ديرسو أوزالا"


شاهدتُ قبل عدة أيام الفيلم الياباني/السوفييتي "ديرسو أوزالا" للمخرج الياباني القدير أكيرا كوروساوا، ومثلما توقعت، كانت مشاهدة رائعة بحق.
الفيلم مقتبس عن مذكرات المستكشف الروسي فلاديمير آرسينيف، ويحكي عن صداقته بالصياد ديرسو أوزالا من السكان الأصليين لشعب الناناي في روسيا والذي عاش معظم سنين حياته في الأدغال.

هنا ثلاثة أسباب حسبما أرى لجمال هذا الفيلم وأهميته:
١) طبيعة الإنسان الجاهلة تجعله يحكم على كل من يعيش حياته بخلاف السائد بالبدائية وعدم التحضر، وكانت هذه الفكرة المسيطرة على العقلية الاستعمارية البريطانية والفرنسية. هذا الفيلم يرينا كم نحن مخطئون في أحكامنا! هذا الرجل الذي قد يبدو لنا من الوهلة الأولى بدائي وغير متعلم يعلمنا الفلسفة الحقة لاحترام الآخر والطبيعة والحيوانات، وقد أسترسل وأحكي عن الفروقات بين الايديولوجيات المسيطرة علينا من قبل دولنا والعقلية السائدة وتلك اللاممسوسة من قبل المجتمع، وعن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والمدينة، وكل ذلك مستوحى من الفيلم، ولكن لن أفعل ذلك أولاً - وهذا هو السبب الأقوى - لأني أريد الاختصار قدر الإمكان، وثانياً لكي لا أفسد عليكم متعة مشاهدة الفيلم :)

٢) الصداقة التي تتشكل بين فردين من بيئتين مختلفتين تماماً جديرة بالتحليل والمناقشة. لا يعتمد الفيلم كثيراً على إثارة عواطف المشاهد مثلما قد نتوقع من فيلم يتحدث عن مشاعر نبيلة كالصداقة أو الحب، فعلاقتهم بسيطة وأحاديثهم قليلة ولكننا كمتابعون للأحداث التي تتطور ببطء نرى أثر هذه الصداقة على كليهما ونستشعر عظمتها عبر لحظات قليلة ولكنها مؤثرة.

٣) السينماتوغرافيا بكل تأكيد! تصوير الطبيعة بجمالها وقسوتها كان الأكثر إبداعاً هنا من بين الكثير من الإفلام التي شاهدتها قبلاً. رغم اختلاف الأساليب، ولكني استحضرت فيلمين مهمين كانا ربما في نفس مستوى هذا الفيلم من ناحية السينماتوغرافيا، وهما "الرسالة التي لم ترسل" لكالاتوزوف، و"آغير غضب الآلهة" لهتزوج. سأضع لاحقاً بعض الصور البديعة التي أخذتها من الفيلم.






السلبية الوحيدة على الفيلم، وربما أقول هذا لأني شاهدته وبي نعاس وحاجة للنوم، هو أني شعرت أنه طويل وبطيء، وتمنيت لو كان أقصر. نهايته، على العموم، بكل تراجيديتها وسخريتها السوداوية على الواقع جعلت ذلك محتملاً ومفهوماً.

تقييمي 9/10
وصلة الفيلم على الـIMDb:
http://www.imdb.com/title/tt0071411/

الأحد، 12 أكتوبر 2014

فيسبوك - "الطلاق على الطريقة الإيطالية"


Wanted to watch a comedy after this heavy and kinda depressing day!

This is satire at its best!

The whole movie I was hating on its main lead; a man in love with his young and beautiful cousin, but is married to an older-uglier wife, and can't divorce her because it was illegal at the time in Italy. However, he comes across a law that supports honor killing by giving the man who commits it a light verdict, and thus tries to lure his rather faithful wife into an adulterous relationship so that he can get rid of her and marry his cousin.


I threw all my feminist rage at him, only to realize by the last half an hour or so that the whole thing is a satire on laws, religion, tradition, and the patriarchal society. So now I am declaring it is genius.

____________

رغبت مشاهدة فيلم كوميدي بعد هذا اليوم الثقيل، واخترت الفيلم الإيطالي "الطلاق، على الطريقة الإيطالية" وقد كان نعم الخيار. هنا كوميديا تهكمية رائعة يا سادة.

طوال الفيلم كنت أصب جم غضبي على شخصيته الرئيسية، رجل واقع في غرام ابنة عمه الشابة والجميلة، ولكنه متزوج من امرأة أكبر سناً وأقبح شكلاً. والمشكلة أنه لا يستطيع طلاقها لأن القوانين في ذلك الوقت - المحكومة بالكنيسة غالباً - منعت الطلاق. ولكنه حين يقرأ قانوناً يدعم جرائم الشرف عبر إعطاء مرتكبها حكماً مخففاً، يسعى إلى إغواء زوجته المخلصة لكي ترتكب علاقة محرمة، وهكذا حتى يتخلص منها ويستطيع الزواج من ابنة عمه.

طوال الفيلم كنت أفكر بعقلي النسوي الغاضب حتى أدركت على آخر نصف ساعة تقريباً أن الفيلم في الحقيقة يتهكم على القوانين والدين والتقاليد والمجتمع الذكوري، ولذا أعلن الآن أن هذا الفيلم عبقري!

السبت، 4 أكتوبر 2014

يوتيوب - عن رواية "العمى" للكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو



في الحلقة الخامسة عشر من سلسلة حب القراءة لمبادرة القراءة نور وبصيرة، تحدثت فيه عن رواية "العمى" للكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو. بإمكانكم مشاهدة الحلقة هنا:

https://www.youtube.com/watch?v=oD0bmdHFFBI

فيسبوك - "تعال وشاهد"


يا إلهي... أنهيت للتو مشاهدة فيلم "تعال وشاهد" للمخرج السوفييتي إليم كليموف، وأستطيع القول بكل ثقة أنه من أكثر الأفلام رعباً التي شاهدتها في حياتي، من أكثر الأفلام الصادمة، والمتعبة، والحقيقية التي شاهدتها عن الحرب العالمية الثانية. وصفت من قبل الفيلم الوثائقي "ليل وضباب" للمخرج الفرنسي آلان رينيه بنفس هذه المواصفات، ولكنني الآن أظن أن هذا الفيلم يتفوق عليه.
لا يحتوي الفيلم على العديد من مشاهد الدماء، كما قد نجد في أفلام تارانتينو على سبيل المثال، ولكن رعبه سايكولوجي أكثر بآثار عميقة ستدوم طويلاً. كان علي وقف عدد من المشاهد لأستعيد أنفاسي ولأحاول فهم هذه البشاعة المجنونة. ولم أنجح في ذلك.
قصة الفيلم قد تكون مكررة، عن صبي مراهق ينضم إلى جبهة الأنصار من بيلاروسيا لمحاربة النازيين، ولكن طريقة التصوير كانت مدهشة وتتفوق على كل مشاهداتي السابقة. يدعونا الفيلم إلى الرؤية، وأظن أننا بحاجة ماسة إلى الرؤية.


Oh my... I just finished watching COME AND SEE (1985) by Soviet director Elem Klimov, and I can certainly say it is the most horrid film I have ever watched in my life; the most shocking, disturbing, and realistic film I have ever watched about WWII. I once said the same thing about the short documentary NIGHT AND FOG by Alain Resnais, but this one I believe surpasses it. As Roger Ebert puts it: "I have rarely seen a film more ruthless in its depiction of human evil." It doesn't have much scenes of bloodshed as a, say, Tarantino film would have, but it's horror is more psychological with lingering effects that will stick around for a long time. I had to pause at a number of scenes just to catch my breath and try to make sense of the insane atrocities. I wasn't able to.
I should probably stop talking about my emotions and tell you something about the film itself. Its plot may sound repetitive to some; of a young boy who joins the Belorussian partisans to fight the Nazis during WWII, but the way it was depicted is extraordinary and nothing like I've ever seen. It has some dreamlike sequences - nightmarish dreamlike I must emphasize - intensified by classical music and a sharp ringing sound, only none of the scenes are dreams. They're all so devastatingly real, and this makes all the difference. The film invites us to see, and humans are in desperate need to see.

فيسبوك - "The Scent of Green Papaya"

The Vietnamese film "The Scent of Green Papaya"; of tranquility and peacefulness, of pondering over the very tiny details of the world with curiosity and a sense of wonder. A film with astonishing visual beauty that made me feel as if I was treated in a relaxing spa with soft chill-out music. Might not appeal to many due to its slow pace, but I enjoyed it thoroughly.


فيسبوك - "أحجية كاسبر هوسر"


مشهد الافتتاح من الفيلم الألماني "أحجية كاسبر هوسر" لفيرنر هتزوج، والذي أنهيته لتوي.

http://www.imdb.com/title/tt0071691/

يا للجمال الآسر كحلم!

يتحدث الفيلم عن القصة الحقيقية لكاسبر هوسر، وهو شاب وجد واقفاً في إحدى المدن الألمانية وفي يده رسالة ولا يستطيع الكلام ولا يفهم أي لغة. كان في البداية موضع فضول من أهل المدينة الذين حاولوا التعرف على تاريخه ومن أين قدم، ثم رأوا أنه عالة مادية لحاجته للطعام والسكن فوضعوه في السيرك ليكون أعجوبة من العجائب التي تسلي الناس. ثم رفق به أحدهم وأخذه إلى بيته وعلمه اللغة والموسيقى وغيرها من العلوم، ولكن ظل كاسبر بفطرته الطفولية والبسيطة في كثير من المواقف، خاصة تلك المتعلقة بالدين والمنطق.
حين بدأ يتعلم الحديث، قال أنه كان يعيش في قبو طوال حياته ولم يخرج منه أبداً. كان يجد بجانبه في كل صباح الخبز والماء.

في إحدى الحوارات التي لامستني خصيصاً، يسأله راعيه: "لا تستطيع القول أن السرير هو المكان الوحيد في العالم الذي تشعر فيه بالسعادة. ألا تحب الحديقة وشجيرات الكشمش؟ وتلك البصلات هناك؟ كل هذه الخضرة!"، فيرد عليه كاسبر: "يبدو لي أن قدومي في هذا العالم كان سقطة قوية ومروعة!"



الفيلم رائع جداً وأنصح به للجميع، بدا لي حقيقياً جداً رغم سرياليته وقربه إلى الحلم.

أعطيته تقييم 10/10 وأضفته إلى قائمة أفلامي المفضلة:http://www.imdb.com/list/ls057197539/

___________________


Still can't get over the images in the film I watched yesterday. This particular scene for example, when Kaspar talks about how he sowed his name with seeds in the garden, and was heartbroken when someone had trodden on his name, shows me how much of an outsider he was. Even the opening scene, with a field blowing in the wind, and the background music of Pachelbel's "Cannon", then these words appear on the screen: "don't you hear that horrible screaming all around you? That screaming men call silence?" was the best opening that depicted Kaspar Hauser's character; a man untouched by rules of society, language, or religion, but yet carries a terrible screaming inside him.

فيسبوك - "زواج ماريا براون"

"The Marriage of Maria Braun" by German film director Rainer Werner Fassbinder, 1979.


I agree with one of the reviews on IMDb; it is a tale about how Germany was rebuilt by women post WWII, while losing their selves in the process. The first scene where two couples were desperate to have their marriage papers signed and finalized in the midst of a bombing raid, and the last scene where the irony and the levity of it all shocks the viewer, are definitely two memorable scenes which will linger in my mind for quite some time.

فيسبوك - "Maborosi"


شاهدتُ البارحة الفيلم الياباني "Maborosi" للمخرج هيروكازو كوريدا.
بالإمكان ترجمة العنوان إلى "خدعة الضوء".
أكثر ما شدني في الفيلم هو السينماتوغرافي البديع والمدهش.
الكاميرا ثابتة في كثير من المشاهد، بإطار محدد، بحيث تعطي المشاهد إحساساً بأنه يتأمل لوحة فنية لا فيلم سينمائي. في أحد المشاهد على سبيل المثال، نرى جمع من الناس يمشون في جنازة، ومن خلفهم البحر والسماء والسحاب. الكاميرا ثابتة وتصورهم من زاوية بعيدة لنرى الصورة كاملة، وهكذا طوال مجرى الفيلم، إذ قلما نرى صورة مقربة لوجوه الممثلين. ولذلك فإن رتم الفيلم بطيء نوعاً ما فهو يأخذك في رحلة إلى داخلك بدلاً من أن يسليك بإثارة خارجية.
أعطيته تقييم 8/10 وسأحرص بعده على مشاهدة أفلام أخرى لنفس المخرج.

فيسبوك - "البحر في الداخل"


شاهدتُ البارحة الفيلم الاسباني المقتبس عن قصة حقيقة "البحر في الداخل"، ولا زلت غير قادرة على رصف الكلمات بطريقة تليق بجمال ما شاهدت.

إن كنتم تشاهدون السينما للمتعة وقضاء الوقت وتبحثون عن الإثارة والحماس والنهايات السعيدة، فهذا الفيلم ليس لكم. أما إن كنتم تريدون استكشاف عمق المشاعر الإنسانية وفهم العلاقات البشرية وتنشيط الأسئلة الأخلاقية الراكدة، فعليكم حتماً مشاهدة هذا الفيلم.

يتحدث الفيلم عن رجل اسمه رامون سامبيدرو، وهو مصاب بشلل رباعي إثر حادث غوص حين كان شاباً، ولأنه رأى عدم جدوى حياته بسبب إعاقته وفقدانه لكرامته فقد طالب على مدى 29 سنة بالقتل الرحيم. أثارت قضيته الرأي العام في اسبانيا خصوصاً حين وصلت إلى المحاكم، وكسب معه العديد من المناصرين بالإضافة إلى المناهضين الذين رفضوا الفكرة تماماً.

يبقى السؤال قائماً، إن اختار أحدهم الموت، وهو بكامل قواه العقلية، هل يجب أن يجبر على الحياة رغماً عن إرادته؟ وفي المقابل، إن ساعد أحدهم رجلاً يرغب بالموت، فهل يعتبر قاتلاً؟

تقييمي 9/10
وصلة الفيلم على موقع قاعدة بيانات الأفلام العالمية:
http://www.imdb.com/title/tt0369702/

لقراءة المزيد من قصة رامون سامبيدرو الحقيقية:
http://www.nytimes.com/1998/03/09/world/a-suicide-tape-on-tv-inflames-the-issue-in-spain.html

http://web.archive.org/web/20110628230407/http://www.time.com/time/magazine/1998/int/980126/file.live_and_let_die.sh11.html

فيسبوك - "الآحاد مع سيبيل"


أنهيتُ للتو مشاهدة الفيلم الفرنسي "الآحاد مع سيبيل"
http://www.imdb.com/title/tt0055910/
ويا لها من مشاهدة جميلة!

عن الثقة، والطفولة، والأرواح المكسورة التي تجد سكينتها حين تجد بعضها، وفي المقابل عن الإنسان الذي يرى كل ما هو مختلف على أنه شر وخطأ.
قصة تبعث الدفء، رغم الألم الذي تسببه.

أنصح بهذا الفيلم للجميع بلا استثناء، فربما بعد مشاهدته سنكف قليلاً عن الإجحاف في حق الآخرين.

تمثيل وإخراج وسينماتوغرافي بديع، أعطيته تقييم 9/10
وسعدت أيما سعادة حين استمعت لموسيقاه العظيمة، آداجيو للمؤلف توماسو آلبينوني:https://www.youtube.com/watch?v=XMbvcp480Y4

فيسبوك - "فالس مع بشير"


أنهيت مشاهدة الفيلم الإسرائيلي "فالس مع بشير" للمخرج آري فولمان، الفائز بالسعفة الذهبية والمرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي في 2008، وهو فيلم رسوم متحركة ووثائقي وسيرة ذاتية، يتحدث عن حياة المخرج بشكل خاص.

كانت مشاهدة متعبة جداً، إذ يتحدث الفيلم عن مخرج أفلام اسرائيلي شهد في شبابه مذبحة صبرا وشاتيلا ولكنه لا يذكر منها شيئاً، فيحاول استعداد ذاكرته لما حصل وما كان دوره في المذبحة من خلال سؤال عدة أصدقاء وجنود سابقون.

تتلاشي الرسوم المتحركة في المشهد الأخير لتظهر بدلاً عنها مشاهد حقيقية من المذبحة، مشاهد لنساء يولولون فقد أحبابهن، وصورة امرأة تصرخ "وين العرب وينن"، ورغم أن صرختها تلك تعود إلى عام 1982، وهي على الأغلب تحت التراب الآن، إلى أنني شعرت بها حية موجهة سؤالها إلي على وجه الخصوص، تسألني أيني، وتندب اختفائي. صرخة واحدة، وصداها ستظل في ذهني لفترة طويلة.

تقييمي للفيلم 9/10

نقطة أخرى أخيرة/
احتوى ساوندتراك الفيلم على موسيقى مدهشة ومنوعة، من كلاسيكيات لباخ:
https://www.youtube.com/watch?v=OMTnfIZrK-I
إلى موسيقى ماكس ريختر: https://www.youtube.com/watch?v=wiUXDKVIDPU

فيسبوك - "ليلتي مع مود"، "الصيد"، "تربية الغراب"

My Night at Maud's


شاهدت قبل عدة أيام الفيلم الفرنسي "ليلتي مع مود" للمخرج إريك روميه وكانت مشاهدة بديعة رغم انتقالي من لابتوب إلى آخر لمشاكل تقنية. قد يبدو الفيلم من العنوان ومن نظرة سريعة في غوغل الصور أنه قصة حب، ولكنه في حقيقته فيلم فكري عميق. يلتقي جان لويس الكاثوليكي المتدين بصديقه الماركسي فيدال والذي يعرفه على صديقته اللادينية مود، ويتحدثون مطولاً عن مواضيع فلسفية وفكرية كثيرة. أحد المواضيع التي نالت اهتمامي هو رهان باسكال، وهي حجة مبنية على فرضية الاحتمالات وتستخدم للاحتجاج بضرورة الإيمان بالله رغماً عن عدم إمكانية إثبات وجوده أو عدم وجوده (ويكيبيديا: http://ar.m.wikipedia.org/wiki/رهان_باسكال )

يتحدثون مطولاً عن هذه النظرية، ويتبادلون الجدال حولها بين مؤيد ومعارض ومؤيد جزئياً. ويتبين للمشاهد التغيرات النفسية عند جان لويس وبقية الشخصيات.
الفيلم يعتمد كثيراً على الحوار وقد لا يعجب البعض ولكني أحببته لعمق الأفكار المطروحة ليس فقط عن الدين بل حتى عن منظومة الزواج والحب والمنطق والبرجوازية.

The Hunt


أما الفيلم الذي شاهدته البارحة فهو الفيلم الدنماركي "الصيد" للمخرج توماس فنتربرغ، وهو أيضاً فيلم عميق ومدهش. قد يتكرر موضوع الفيلم كثيراً - عن رجل يتهم زوراً بالاعتداء الجنسي على طفلة وينبذ اجتماعياً - إلا أن تناول المخرج للقصة أتى مختلفاً وجعله بالتالي فيلماً متميزاً. نرى في الفيلم آثار كذبة بسيطة على حياة رجل، والعنف الاجتماعي المؤدي إلى حالة من النبذ الهستيري واللامنطقي.
يطرح الفيلم أسئلة صعبة، وجعلني أقف مع نفسي وقفة صادقة لأسائلها: ماذا كنتي ستفعلين لو كنتي في محله أو في محلهم؟ ولا أعرف حقاً، ولكنه سيكون في البال كلما صادفني موقف اضطرني إلى الحكم على الناس، سيكون في البال ليخبرني أن تمهلي ولا تلقي الأحكام جزافاً، فوراء ما قد يبدو شيطانياً، ملاك بريء.

Cria Cuervos 


وبعد مناوشات عدة مع أختي التي لا تحب اختياراتي السينمائية، استطعتُ أن أجبرها على مشاهدة الفيلم الاسباني "تربية الغراب"، وشاهدته معها للمرة الثانية، محاولة جاهدة ألا أفسد عليها قصة الفيلم. لن أتحدث عنه كثيراً، فلا أعرف ما أقول عنه سوى أنه بديع، وأنصح الجميع بمشاهدته.

فيسبوك - "متاهة بان"


فيلم العطلة: "متاهة بان" للمخرج المكسيكي غويلرمو دل تورو..
قاسي جداً رغم جماله، وساحر جداً رغم قربه من الواقع المخيف.. فيلم يدمج بين العالم القصصي الخرافي لطفلة في الثانية عشر من عمرها، والعالم الواقعي لاسبانيا بعد الحرب الأهلية تحت حكم الدكتاتور فرانشيسكو فرانكو..
يمكنني القول عن الفيلم بأنه النسخة السودواية والمحزنة من قصة "آليس في بلاد العجائب"، حيث الجنيات أقل جمالاً وكائنات ما تحت الأرض أكثر شراسة، وحيث الواقع أقسى من الخيال بكثير!

السينماتوغرافي بديع، والموسيقى من أجمل ما استمعت إليه مؤخراً:
http://www.youtube.com/watch?v=qzZgNKJxmgs

أعطيته تقييم 9/10

فيسبوك - "حياة الآخرون"


أنهيت للتو مشاهدة الفيلم الألماني "حياة الآخرون"، ولا أعلم ما أقول عنه سوى أنه استحق قضاء 130 دقيقة مسمّرة في الشاشة... فيلم رائع جداً، من أفضل ما شاهدت حول ألمانيا الشرقية..

ربما سأكتب عنه مقالة، إلى ذلك الحين شاهدوه من غير تردد

وصلة الفيلم:
http://www.imdb.com/title/tt0405094/

أضفته مباشرة إلى قائمة أفلامي المفضلة وأعطيته تقييم 10/10
http://www.imdb.com/list/ls057197539/

فيسبوك - "Stalker"


شاهدت اليوم فيلم Stalker للمخرج الروسي القدير آندريه تاركوفسكي... ومثل مشاهداتي الست الماضية لهذا المخرج العظيم، لم أفهم الفيلم تماماً ولكنه أثر بي كثيراً... وهكذا هي أفلام تاركوفسكي، تشعر بها أكثر مما تفهمها إذ يقدم لنا صورة شاعرية أكثر من حدث مسلسل.. الفيلم كقصيدة فلسفية طويلة عن الوجود والأمنيات والإيمان... ناهيك عن الصورة السينمائية التي أكاد أجزم إن توقفت عند أي لحظة من الفيلم، ستكون النتيجة لوحة فنية بإمكانك أن تعلقها في غرفتك..

لربما هذا المخرج هو الوحيد الذي أشعر بالعجز كلما رغبت بالكتابة عنه وأكتفي فقط بإبداء الدهشة والإقرار أنه عظيم..

تقييمي للفيلم 9 من 10، وصلة الفيلم:
http://www.imdb.com/title/tt0079944/?ref_=nv_sr_2

فيسبوك - "الرسالة التي لم ترسل"


أنهيت قبل قليل مشاهدة الفيلم السوفييتي "الرسالة التي لم تُرسل" للمخرج ميكايل كالوتوزوف، والذي شاهدت له من قبل فيلم "أنا كوبا" وفيلم "الرافعات تطير" وأدهشاني.

هذا الفيلم ليس أقل دهشة!

السينماتوغرافي أو التصوير السينمائي مذهل إلى درجة لا تصدق، أخذاً في الاعتبار أن هذا الفيلم أنتج في خمسينيات القرن الماضي، حركة الكاميرا جعلتني في بعض المشاهد أشعر بأني في لعبة أفعوانية!

يتحدث الفيلم عن 4 جيولوجيين في مهمة للبحث عن الألماس في سيبيريا، ولكن تأتي الطبيعة بما لا يشتهي المرء فأصبح صراع الإنسان والطبيعة محور الفيلم. نشهد مع تقدم الفيلم التضحية، الحب، الكبرياء، الفقد، اليأس، الجوع.. وكل ذلك في سبيل الهدف!

من أفضل ما شاهدت في ثنائية الإنسان والطبيعة بعد "آغير غضب الآلهة" لفيرنر هتزوج. أنصح بمشاهدته حتماً.

تقييمي 9/10 ، رابطة الفيلم على الـ IMDb:
http://www.imdb.com/title/tt0053106/

فيسبوك - "ليل وضباب"


أنهيتُ قبل دقائق مشاهدة الفيلم الوثائقي القصير "ليل وضباب" للمخرج الفرنسي آلان رينيه. يتحدث الفيلم عن أحد مخيمات النازية في بولندا، قال عنه فرانسوا تروفو، رائد الموجة الفرنسية الجديدة، أنه أعظم فيلم صنع في تاريخ السينما، وأتفهم رؤيته هذه جداً! بدت لي المشاهد سريالية رغم حقيقتها الموجعة وذلك لأن عقلي لم يستطع استيعاب هذا الكم من الوحشية الصادرة من الإنسان للإنسان.. أكوام هائلة من شعر النساء المقتولات، جرافات تجرف جثثاً نحو هوّة في الأرض، أعين محدقة من رؤوس مقطوعة.. شعرت بالتنمل والشلل على نهاية الفيلم وظللت محدقة في الشاشة السوداء قرابة خمس دقائق! بدت لي كل الأفلام التي تحدثت عن الهولوكست تافهة ومتواضعة بالمقارنة بهذا، انسوا "قامة تشندلر" أو "عازف البيانو"، وشاهدوا "ليل وضباب".

وصلة الفيلم على الـ IMDb:
http://www.imdb.com/title/tt0048434/

الصورة ترجمتي لأهم رسالة سردت في الفيلم حسبما أرى:


الأحد، 22 يونيو 2014

عن إيلي وعبقرية فرهادي


يقول المخرج الإيراني القدير أصغر فرهادي: "الصراع في المأساة الكلاسيكية هو بين الخير والشر، ونحن نريد عادة هزيمة الشر وانتصار الخير. أمّا الصراع في المأساة الحديثة فهو بين الخير والخير، وأياً كان المنتصر، فسنشعر دوماً بالحزن." وقد عرف هو كيف يصور هذا الصراع عبر أفلامه التي حازت على التقدير العالمي، وكان أبرزها فيلم "انفصال" الذي يعتبر أول فيلم إيراني ينال على جائزة أوسكار فئة أفضل فيلم أجنبي. مع تجربتي البسيطة لأفلام فرهادي، بدءاً بـ "انفصال"، ثم "الماضي"، ثم "عن إيلي"، فقد لمحت في أفلامه هذه الخاصية دائماً؛ إذ يشعر المشاهد بالتعاطف مع جميع الشخصيات ويتفهم أخطاءهم وأكاذيبهم وهفواتهم، ولا يعلم مع نهاية الفيلم كيف سيتصرف لو كان في محلهم وبصف من يقف.

رغم أنّ "انفصال" هو أبرز أفلامه لأنّه حائز على جائزة أوسكار، إلا أنني شخصياً فضلتُ فيلمه الأقدم "عن إيلي" والذي شاهدته مؤخراً. يتحدث الفيلم عن مجموعة من الأصدقاء يسافرون معاً إلى منطقة بحرية لقضاء إجازة قصيرة، تتألف المجموعة من ثلاثة أزواج مع أطفالهم، وأحمد الذي يعيش في ألمانيا وانفصل مؤخراً عن زوجته الألمانية، وإيلي، شابة جميلة غير متزوجة وهي معلمة أحد الأطفال في الحضانة. يتضح للمشاهد أن سبيدة، الشخصية الرئيسية التي قامت بدورها الممثلة الإيرانية غولشيفته فاراهاني، هي من قامت بالتخطيط لهذه الرحلة ودعت إيلي للانضمام معهم بغرض تعريفها على أحمد ولعبها دور الوسيطة بينهما. ومع معرفتنا للنظام الديني الضاغط على المجتمع الإيراني، تضطر سبيدة للكذب على صاحبة الفيلا البحرية التي يودون استئجارها لقضاء الإجازة فيها وتخبرها أن أحمد وإيلي زوجان حديثان، وكانت هذه أولى الكذبات التي ستنعكس بشكل سيء على مجرى الأحداث. إلى الدقيقة الخامسة والأربعين، تتسم الأحداث بالفرح والضحك إذ يستمتع الأصدقاء بمشاكسة أحمد وإيلي ويضحكون معاً ويلعبون لعبة التمثيل والتحزير في مشهد بديع ومرح.


ثمّ تحدث المأساة وتنكشف الكذبات وتظهر الأسرار وتتغير نغمة الفيلم من الفرح إلى الهلع والحزن والشك ويتحول المشاهد من مستهلك سينمائي غير فعال إلى مفكر مستقل إذ يتعين عليه الإجابة عن أسئلة أخلاقية صعبة لا تنتهي بمجرد انتهاء الفيلم بل تظل كامنة في بواطن رأسه وقلبه. يبدأ الفيلم مع الأصدقاء وهم يطلون عبر نافذة السيارة التي تمشي مسرعة عبر نفق في طريقهم للمدينة البحرية وهم يصرخون من الفرحة والحماس، وينتهي مع نفس المجموعة، ولكن بدون إيلي، وهم يحاولون دفع السيارة العالقة في رمال الشاطئ بغير نتيجة. يعلق الناقد فيليب كيمب في مجلة (الضوء والصوت) على هذين المشهدين بقوله إنّهما يعكسان مأساة الفيلم، فمن بهجة بلا حسبان إلى كآبة عميقة ومنغرزة، فقد خسرت حياة وتشتت صداقات وربما زيجات، ولن يكون هناك صراخ فرح في طريق عودتهم عبر النفق. ما بين هذين المشهدين اللذين يفصل بينهما يومان تقع أحداث الفيلم التي لن أكشفها لكي لا أفسدها على القارئ الراغب بمشاهدة الفيلم.

تكمن عبقرية فرهادي في طريقة نسجه للأحداث بحيث تنكشف ببطء ولكن بطريقة صادمة تجعلنا في حيرة من أمرنا، فهو لا يلقم المشاهد مجموعة من الأفكار المعلبة والجاهزة بل يدخله في رحلة من كشف ومواجهة الذات. إحدى الخاصيات المميزة لفرهادي في أفلامه هي خلوها من الموسيقى التصويرية طوال فترة عرض الفيلم إلى نهايته، تتسلل الموسيقى مع ظهور الأسماء والشركات المساهمة في صناعة الفيلم وكأنّها تحرر تلك الحدة العاطفية التي تجتاحنا أثناء مشاهدة الفيلم. يقول فرهادي إنّ الموسيقى تثير العاطفة وقد أصبحت من الكليشيهات أو التكنيكات المبتذلة في الأفلام، ولذلك هو يفضل ألا يستخدمها. لنا كمشاهدين أن نتفق أو لا نتفق مع هذه الفكرة ولكن أن ينجح فرهادي في جذب انتباه المشاهد بل وإثارته حتى من غير موسيقى، فذلك حتماً يحسب في صالحه.

لربما ما يجعل هذا الفيلم مميزاً ومحبباً لمتابعيه هو عالميته وواقعيته، ففيما عدا تفاصيل المكان والثياب، يستطيع أي فرد في العالم أن يرتبط بشخصيات الفيلم ويتخيل نفسه محلهم محاولاً حل معضلتهم، وأتى هذا عكس الكثير من الأفلام الإيرانية التي تستلهم قصصها من المجتمع والدين والدولة، وتحمل بذلك كماً من الخصوصية والانفرادية. كما أنّ لفرهادي القدرة المذهلة على إدخال تفاصيل عميقة للقصة التي قد تبدو بسيطة ومكررة، بحيث يجعلها قصة بديعة ومؤلمة تتصارع فيها الأفكار والمعضلات.

_________________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 23، يوليو، 2014:
http://alroya.om/ar/writer-blogs/101345-%D8%B9%D9%86-%D8%A5%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%B9%D8%A8%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A.html

وفي آراء بتاريخ 23، يوليو، 2014:
http://www.araa.com/article/95159

الأحد، 25 مايو 2014

تأملات صامتة


تصف الشاعرة والروائية الأمريكية سيليفا بلاث قصائدها بقولها: "قصائدي ليست عن هيروشيما، ولكن عن طفل يشكّل نفسه إصبعاً بإصبع في الظلام، ليست عن إرهاب التصفية الجماعية، لكن عن غموض القمر على شجرة الريحان في مقبرة مجاورة". وأتفق معها على نحو ما، إذ إنها ليست مهمة الآداب والفنون تصوير الواقع كما هو، فهذا شيء قد يفعله التاريخ - رغماً عن التحوير الدائم للأحداث التاريخية - بل إنها، أي الآداب والفنون، تعطينا دخولاً عجائبياً إلى عالم آخر من وحي وخلق الإنسان. هذا العالم الخيالي هو محاولة مستمرة للتحذير مما لا نريده، أو للترغيب فيما نريده. وما يجذبني شخصياً في هذا العالم هو تمثيله لأفكارنا ومشاعرنا وفتحه لباب الاحتمالات اللامتناهية والتي توسع آفاقنا ومداركنا. إحدى الشخصيات التي أشعر دوماً بالارتباط معها بطريقة أو بأخرى هي شخصية المتأمل الصامت في الآداب والفنون، ولعل ذلك يرجع إلى شخصيتي الهادئة رغم فوضى الأفكار إذ أشعر أنّ في صمت هذه الشخصيات المعنى الكثير.

على سبيل المثال، في رواية إف سكوت فيتزجرلد "غاتسبي العظيم" توجد شخصية مهمة وهي عينا الدكتور تي جي إيكلبورغ المطلتان على وادي الرماد. بعدما يصف فيتزجرلد على لسان الراوي نيك كاراوي هاتين العينين الزرقاوتين الضخمتين المطلتين عبر نظارة صفراء، يقول: "يبدو أن طبيب عيون ماجن قد أقامها هناك ليزيد زبائنه في مقاطعة كوينز، ثم انحدر هو نفسه إلى العمى المطلق أو نسيهما وانتقل بعيداً. لكن عينيه اللتين أعتمتهما أيام طويلة عديمة اللون تحت الشمس والمطر، ظلتا تحملقان في الأرض الجرداء." ويتبين للقارئ أن هاتين العينين هما في الأصل لوحة إعلانية. ولكن هذه الصورة المتكررة في الرواية تدلنا على شخصية مهمة ورمزية وليس فقط لوحة إعلانية، فعينا الدكتور تي جي إيكلبورغ شاهدتان على الخراب الأخلاقي والقيمي للمجتمع الأمريكي في عشرينيات القرن الماضي، وهما يمثلان انتقاداً صارخاً لهشاشة الحياة الباذخة وما يترتب عليها من سطحية ومادية وركض وراء الملذات الفارغة. كما إنهما صورة رمزية للرب الذي هجر أمريكا وترك عينيه شاهدتين ومستنكرتين على تدني القيم الأخلاقية.

أما في المسلسل القصير "الوصايا العشر" المكون من عشر حلقات للمخرج البولندي القدير كريستوڤ كيسلوڤسكي، يظهر رجل بشكل متكرر في معظم الحلقات، بشخصيات مختلفة دوماً: سائق دراجة، ومتسول، وعامل بناء، ورجل يحمل أكياس تسوق، وغيرها من الشخصيات. هذا الرجل لا يفعل شيئاً طوال ظهوره في الشاشة سوى التحديق في الشخصيات الرئيسية للحلقة في لحظات مفصلية من حياتهم وهم يقررون أو يفعلون شيئاً سيغير من قدرهم. في الحلقة الرابعة مثلاً، تجد الشخصية الرئيسية آنا رسالة مغلفة في منزلها مكتوب عليها بخط والدها "لا يفتح قبل وفاتي". آنا فتاة تعيش وحيدة برفقة والدها، إذ ماتت أمها بعد ولادتها بقليل. تذهب آنا في نزهة إلى بحيرة وتقرر وقتها فتح الرسالة وقراءتها، إذ إنّ محتواها قد يُغير من حياتها. تفتح الظرف وتجد بداخله ظرفا آخر مكتوب عليه بخط والدتها "إلى ابنتي آنا"، وحين تقرر فتحه يخرج من البحيرة الرجل الذي بلا اسم حاملاً قاربه ويتأمل في وجهها لفترة قصيرة، وعليه ملامح الحزن والاستنكار، ثم يذهب في حال سبيله. لم يفعل شيئاً ولكن بعدما رأته آنا قررت عدم فتح الرسالة وأرجعته إلى الظرف الأول. مثل "غاتسبي العظيم"، اعتبر بعض النقاد السينمائيين أن هذا الرجل يرمز إلى الرب بنظراته التأملية واستنكاره لما يفعله النّاس.

أمّا شخصية تايرسياس في القصيدة الطويلة "الأرض اليباب" لـ تي إس إليوت فهي مثيرة حقاً. أصل الشخصية هي أسطورة إغريقية حيث صدف أنّه مرّ يوماً في غابة ورأى أفعى فضربها، فتحول بعد ذلك إلى امرأة، وعاش حياة النساء لسبع سنوات. وفي أحد الأيام وهو يمشي في الغابة رأى نفس الأفعى فضربها مرة أخرى ورجع إلى هيئته الذكورية ولكنّه بقي بثديين أجعدين. احتدم النقاش يوماً بين كبير الآلهة جوبيتر وزوجته جونو، حول من يستلذ بالحب أكثر الرجل أم المرأة، واستدعيا تايرسياس لحكمته ولأنّه اختبر الجنسين، فوقف في صف جوبيتر. غضبت جونو وحكمت عليه بالعمى، ولكن جوبيتر أشفق عليه وأعطاه بدلاً عن ذلك القدرة على رؤية المستقبل. قصيدة "الأرض اليباب" مليئة بالصور والاستشهادات التاريخية والأسطورية والأدبية، إذ يكاد لا تخلو صفحة واحدة منها من اقتباس أو إشارة إلى قصائد أو أحداث تاريخية مشهورة. في فصل موعظة النار من القصيدة، وظّف إليوت شخصية تايرسياس ليلعب دور المشاهد والمتأمل لحياة فتاة الطابعة، إذ يستطيع أن يرى روتينها اليومي من وظيفتها كآلة في مكتب عملها إلى بيتها الفوضوي وطعامها الذي هو عبارة عن بقايا الفطور ثم قدوم حبيبها وشعورها بالبرود تجاهه. يقول إليوت: "أنا تايرسياس، عجوز أجعد النهدين، أدركت ما رأيت ثم تنبأت بما تبقى" فهو يرى هذه المعاناة اليومية واختبر المأساة الإنسانية على مر العقود ويعلم عن الأحزان والمصائب قبل حدوثها، ولكنه لا يفعل شيئاً، يتأمل فحسب ولا يملك غير الشعور بالشفقة.

كل هذه الشخصيات شاهدة على مآسي وأحلام كثيرة، فهي ترى ما لا يبصره الآخرون، ولذلك هي دائماً أعلم وأخبر من كل الشخصيات الأخرى، ولكنها رغماً عن ذلك لا تفعل شيئاً حيالها بل تتأمل بأسى فحسب، ربما هي عاجزة عن إحداث التغيير، أو ربما هي لا ترغب فقط، وقد تكون يئست من البشر وتكرارهم المستمر لنفس الأخطاء على مر القرون. يتساوى المعنى واللامعنى في حضورهم، إذ يبدو أحياناً أنهم منمقات إضافية لا طائل منها، وفي أحيان أخرى يكمن في وجودهم المعاني كلها. شخصية المتأمل الصامت بمثل ما صورتها الأمثلة السابقة غير حقيقية وغير واقعية، ولكن هذا الشعور بالارتباط معها حقيقي وذلك ما يهم. وربما هو ذا السبب الذي نقرأ لأجله.
_________________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 26، مايو 2014:
http://alroya.om/ar/writers/266-writer022/101244-2014-05-25-12-08-02.html

وفي جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 27، مايو 2014:
http://www.araa.com/opinion/24594

الاثنين، 12 مايو 2014

المبصرون العميان... وكوابيس أخرى


يقول نيكوس كزانتزاكيس في سيرته الذاتية الفكرية "تقرير إلى جريكو": "كانت الخطوة الأولى في الاستهلال -كما قلت لنفسي- هي: الخير والشر عدّوان. الدرجة الثانية والأعلى هي: الخير والشر زميلا عمل. الخطوة الأعلى وأعلى خطوة أستطيع الوصول إليها الآن هي: الخير والشر متطابقان (هما الشيء ذاته)". قد لا يتفق الأعم الأغلب مع هذا الاقتباس، وسيحاولون دحضه بكافة الوسائل المعرفية والشواهد التاريخية، بيد أنني لم أكتب هذا المقال لتأييده أو لدعمه، بل إنني أكتبه بروح متسائلة ومتشككة وبأسئلة وعلامات استفهام أكثر من أجوبة ونقاط مفصلية. سأجمع بعض المشاهدات السينمائية والقراءات الأدبية حول طبيعة الشر في النفس البشرية، من غير تحليل عميق ولكن بطريقة السرد والموازنة.

أنهيتُ قبل قليل قراءة رواية "العمى" للكاتب البرتغالي خوزيه ساراماجو، وبقدر ما جذبتني وأبهرتني بقدر ما أرعبتني وجعلتني أحملق مدهوشة في خيالات وأفكار وكوابيس الكاتب. تتحدث الرواية عن وباء تفشى في مدينة ما، وهو داء العمى الأبيض؛ إذ بدأ الأمر مع رجل كان واقفاً في إشارات المرور الحمراء، وفجأة فقد قدرته على الرؤية، وبعكس ما نتخيل العمى المظلم والأسود كان هذا العمى أبيضاً. يتفشى الداء بالملامسة البصرية فقط؛ فكل من قابلت عيناه عينا الأعمى يصاب بالعمى بدوره. حاولت الحكومة في البدء التحكم بالوباء وحبست كل من أصيب به في مشفى للأمراض العقلية ومنعت كل وسيلة للتواصل معهم، وأصدرت بعض القوانين على العميان من قبيل أن مغادرة المبنى تعني الموت الفوري وفي حالات الوفاة يجب على المرضى دفن الجثث في الفناء وعدم الاعتماد على أي تدخل خارجي في حال حدوث أية اعتداءات. صوّرت الرواية حالة هؤلاء العميان في المحجر وكفاحهم للبقاء وتشكّل العصابات والدكتاتورية العمياء. ولكن لم تنجح هذه الطريقة، وتفشى العمى في أرجاء المدينة كلها، وتفسخت الحكومة إذ لا طائل من عميان يحكمون عميان فكلهم في الفراغ والبياض سواء. أن تفقد البشرية جمعاء حاسة من حواسها؛ فذلك يُرجعها إلى البدائية والحيوانية، أن يكون الهدف للإنسان في ظل هذه الظروف هو البقاء والطعام فحسب، فإنه يفقد كل مظاهر الأقنعة والمجاملات والحضارة وتظهر طبيعته الحقة. لربما نحن على لسان زوجة الطبيب في الرواية: "بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون". لربما العمى موجود منذ الأزلية، وكل ما رافقه في الرواية من أحداث تنم عن الخوف والازدراء والأنانية والطمع وحب السلطة والديكتاتورية والقتل والسرقة واستغلال الضعيف والجشع، موجود كذلك منذ الأزلية إلا أن داء العمى زاده وضوحاً فحسب. إن كنا نحب التقسيمات المطلقة، فذلك خير وهذا شر، فهل نحن واثقون تماماً من الجانب الخيّر فينا حين لا يرانا الآخرون؟

أتذكر أيضاً مشهد سرده الكاتب السوري دارا عبدالله في كتابه "الوحدة تدلل ضحاياها"؛ حيث قدم سجينًا اسمه "أبو سمير" إلى السجن، وقد كان مقاتلاً في الجيش الحر. استقبله السجناء بكثير من الترحيب والتهليل وعومل معاملة الأبطال، إلا أنه كان مصاباً بطعنة في قدمه ولم يقدم له العلاج، ومع مرور الأيام التهب الجرح وتعفن، وأصبح يصدر روائح كريهة ضايقت السجناء من حوله، شيئاً فشيئًا أصبحوا ينفرون منه، وانعدم التعاطف وأصبح التأفف والتذمر معلناً؛ حين مات بفعل الجرح "حزن البعض، صمت البعض، وفرح البعض الآخر، وكان من بين المسرورين أشخاص رحبوا به في البداية. عندما نقلوا جثته كان بعض السجناء يقومون بالدعس على الديدان التي كانت تسقط من جسده". مهما كنا نقدر ونبجل شيئاً ما أو شخصاً ما، فحالما يتعدى هذا على مساحة راحتنا الخاصة إلى أن يظهر الشر الكامن فينا، ولعله مثال ينطبق على الجميع ولكن بدرجات متفاوتة، ولعله لا يظهر إلا في الأوقات الصعبة حيث تكشف الوجوه الحقيقية من غير قناع المجاملات.

وفي الفيلم الإسباني "فيريديانا" للمخرج السريالي لويس بونويل، تقوم البطلة الرئيسية بإيواء مجموعة من المتسولين في منزلها الكبير، بدافع الرحمة والعطف ولأنها متدينة وتريد بذلك رضا الرب واستغلال ثروتها فيما هو خير. حالما تخرج البطلة في مهمة طويلة إلى المدينة وتدع المنزل في أيدي المتسولين حتى يستغلوا هذه الفرصة ويقيموا مأدبة عشاء فيها سكروا وتقاتلوا وتضاجعوا ورقصوا وأحدثوا الكثير من الفوضى. يسخر بونويل في هذا الفيلم من الكثير من مظاهر وقيم التعفف والحضارة، فحالما ترى السيدة ما حدث لمنزلها حتى تقرر التخلي عن طيبتها وتطردهم جميعاً. في مشهد الفوضى داخل المنزل، يقرر المتسولون أخذ صورة لهم وهم على طاولة العشاء، ويجلسون في نفس وضعية الجالسين في لوحة "العشاء الأخير" للفنان الكبير ليوناردو دا فينشي، والمفارقة واضحة هنا ما بين الدلالة الدينية والأخلاقية للوحة ووضعية المتسولين المثيرة للضحك والسخرية. في مشهد آخر ينقذ رجل كلباً كان مربوطاً بعربة يجرها حصان، ويظن بذلك أنه فعل خيراً، وفي اللحظة ذاتها تمر عربة أخرى مربوط بها كلب آخر ولا يراه الرجل. كل هذه الأحداث جعلتني أتساءل مع نهاية الفيلم عن الخير والشر، هذين المفهومين المتطابقين حسب فلسفة كزانتزاكيس، وفيما لو كان الإنسان خيِّراً بطبعه أم شريراً بطبعه، أم أنه يحمل في داخله هاتين القوتين بشكل مركب ومتقاطع، ولعلي أرجح هذا الخيار الأخير إذ يبدو لي أقرب للحقيقة.

... أنهي هذا المقال -الذي هو أقرب إلى لوحة من الفسيفساء بجزيئات ملونة ومختلفة، ولكنها تشكل جميعها صورة واحدة عن موضوع واحد جوهري- باقتباس أخير من الفيلم الوثائقي القصير "ليل وضباب" للمخرج الفرنسي آلان رينيه. يتحدث الفيلم عن أحد معسكرات النازية في بولندا بكثير من التفصيل عن الأحداث المروعة التي شهدته، ويعتبر من أهم الأفلام العالمية التي تناولت موضوع الهولوكوست. يُنهيه الراوي بتساؤل وتحذير للبشرية جمعاء: "من منا يسهر من على برج المراقبة الغريب هذا ليحذرنا من قدوم جلادينا الجدد؟ هل وجوههم مختلفة عنا حقاً؟ نحن نحدق في هذا الحطام الآن وكأن المسخ القديم مسحوق للأبد تحت هذه الأنقاض، نحن نتظاهر بالأمل وكأن الصورة من الماضي تلاشت، وكأننا شفينا إلى الأبد من كارثة المخيمات العسكرية. نحن نتظاهر أن كل ذلك حدث مرة واحدة فقط، في زمان ومكان محددين. نحن نغض الطرف عما يحدث حولنا، ونصم آذاننا عن الصرخة الإنسانية اللامنتهية". بطريقة ما، هو يحذرنا كي لا نصبح المبصرين العميان، كرمزية رواية ساراماجو، وكخذلان رفاق أبو سمير، وكسخرية بونويل.

________________
نُشر المقال يوم 12 مايو، 2014 في جريدة الرؤية:
http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/99465----

وجريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 13 مايو، 2014:
http://www.araa.com/opinion/24121

الأحد، 13 أبريل 2014

شذرات أفكار عن الهوية والانتماءات


لي صديقة من أصول هندية، ولكن عائلتها وأجدادها عاشوا في زيمبابوي، وهي بنفسها عاشت سنين طفولتها هناك. حين كبرت، وتزوجت، ذهبتْ لتستقر في أوروبا، وحصلت على الجنسية البريطانية. هي تعيش الآن في عُمان، وتشعر بالحب نحو عُمان أكثر من أي دولة أخرى. إن سألتها "من أنتِ؟" ماذا ستتوقع أن تكون إجابتها؟ هل ستقتصر هويتها على واحدة من هذه الدول، أم ستحكي لك قصتها بالتفصيل الذي ذكرته؟ المسألة معقدة بعض الشيء، فإن ذكرت أنها "عُمانية" مثلاً، تقابلها نظرات مُتعجبة ومُتشككة، وإن قالت إنها "بريطانية" سيلاحقها السؤال التالي: "ولكن أصلك من أين؟". لهذا يبدو لي أنَّ مسألة الهوية رمادية للغاية، وليست سوداء أو بيضاء، كما يتهيَّأ للناس، أو كما يوجه الإعلام والسلطة.

قد يقول قائل: هذه حالة خاصة وغير شائعة، ولكني أكاد أجزم أنها قصة متكررة بعوامل مختلفة لدى الجميع. ولأثبت ذلك سأتحدث قليلا عن هويتي الخاصة، وهي حتماً ليست بتنوع هوية صديقتي، ولكن أظنها جديرة بالذكر.. هاجر جدي لأبي من عُمان إلى سواحل شرق إفريقيا، دولة بوروندي تحديداً، لغرض التجارة وكسب العيش. تزوج واستقر هناك وأنجب أولاده الذين عاشوا معظمهم سنين شبابهم هناك إلى أن ذهبوا للدراسة في مصر، ثم قرَّروا الرجوع إلى عُمان للاستقرار. بطبيعة الحال تعلموا اللغة السواحيلية، وتبنوا بعض العادات الإفريقية والمأكولات والملبس...وغيرها من الأمور، ورجعوا بها إلى عُمان. ففي صغري كنت أفخر بهذا الجزء من انتمائي؛ نظراً لكوني دخلت في صداقات مع جماعات شللية، منطلقة من هذا التاريخ المشترك لدى الكثير من العُمانيين؛ فكنا نصنِّف الفتيات حسب تاريخ أجدادهن ونطلق الدعابات عن هذه الاختلافات الموجودة في المجتمع العُماني. كبرتُ قليلاً ومع توسع قراءاتي للأدب العربي -الفلسطيني تحديداً- أصبحت أفخر أكثر بقوميتي ولغتي العربية وديانتي الإسلامية. تابعت العديد من البرامج التليفزيونية عن استرجاع الهوية العربية والإسلامية وقرأت الموسوعات المصورة للدكتور طارق السويدان عن الأندلس واليهود، وحلمت كما حلم الحالمون مع أوبريت "الحلم العربي" والذي أصبح وجعاً عربياً. ثم ذهبت للدراسة في جامعة الكويت، وكنت كلما سافرتُ إلى الكويت أشعر بشوق نحو عُمان، وكلما رجعتُ إلى عُمان أشعر بشوق نحو الكويت. وإلى اليوم -وبعد مرور أكثر من سنتين منذ تخرجي- ما زلتُ أشعر بنوع من الانتماء نحو الكويت. حين أقدم البوعزيزي -رحمه الله- على إشعال النار في جسده رفضاً وحزناً وتمرداً، وابتدأ بذلك عهداً جديداً من الثورات العربية، شعرت بأنني أنتمي إلى كل دولة ثارت ضد طواغيتها، وحلمتْ كما حلمتُ بالحرية والعدالة والمساواة. توسعت قراءاتي ومشاهداتي السينمائية ورأيتني أرتبط معنوياً مع دولتين على وجه الخصوص؛ العراق واليونان، وأشعر نحوهما بحب لا يُفسر ولا يُفهم. كل ما يخصهما من آداب وفنون وسينما وموسيقى وعلوم وطبيعة وآثار وحضارة وأساطير وشعب، كل ذلك أشعر نحوه بكثير من الإعجاب والحب، وأمنِّي نفسي بزيارتهما قبل أي دولة أخرى في هذا العالم. ومع الأيام توسَّع مفهوم الهوية لديَّ ليشمل العالم بأكمله؛ مُنطلقة بذلك من الفكرة الإنسانية "كلنا نعود إلى أصل واحد"؛ فرأيتُ نفسي مواطنة عالمية، رغم مثالية هذه الفكرة. وناديت بالتسامح بين جميع الناس وتقبل الآخر مهما اختلف. هذه الانتماءات المتعددة تشكل جميعها هويتي الخاصة والمتفردة بي وحدي؛ ففي جزيئاتها يشاركني الآلاف والملايين، ولكن في مجملها لا يشاركني بها أحد. وقد تغيَّرت مع مرور الزمن، وستظل تتغير مع اكتسابي لخبرات ومعارف أكثر.

وفي ظل كل هذا، أتساءل عن معنى الوطن، ما هو؟ هل هو حقاً يُختزل في الجنسية وجواز السفر؟ أم هو أوسع وأشمل من ذلك بكثير؟ أم هو وهم اخترعه الإنسان ليشعر بالانتماء نحو جماعة ما، وحتى لا يشعر بالغربة في هذه الحياة الموحشة؟ أرى أن وطني هو كل ما توافق مع قيمي ومبادئي الشخصية. أنتمي إلى عراق الشعر، عراق السياب ومظفر النواب ونازك الملائكة؛ أحبُ روسيا السينما والأدب، روسيا تاركوفسكي وكالوتوزوف وتولستوي وديوستفسكي؛ أنتمي أيضاً إلى جبال عُمان والتي كلما زرتها وخيّمت في سيوحها شعرتُ بالقرب والدفء والطمأنينة؛ ولنفس السبب -وهو انتمائي للجبل- أشعر بحاجة ملحة لزيارة البيرو وحضارة الإنكا ومدينة ماتشو بيتشو الجبلية؛ يونان الموسيقى والأدب والحضارة؛ فلسطين الشعب والصمود والحرية؛ فرنسا الأزياء واللغة؛ إيران الفن التشكيلي والتصويري؛ وهكذا إلى آخر قائمة الأوطان والهويات والانتماءات التي تشكلني وتكونني. قد يقول لي أحدهم: "ولكنك تخلطين كل هذا وكأنه وعاء من الحساء ولا تلقين بالاً للخصوصية العُمانية"، وأقول إن فرادتي تكمن في هذه الانتماءات الصغيرة، وأنني لا أستطيع تحديد انتماء واحدا أو انتماءين -سواء كانت انتماءات قومية أو وطنية أو عرقية أو دينية- وأعطيهما كل طاقتي وولائي وحبي، وأرى في فعل ذلك شيئاً من التطرف وهو المؤدي إلى إشعال الحروب حول العالم؛ لعلي أنهي هذا المقال باقتباس من كتاب "الهويات القاتلة" لأمين معلوف، والذي تحدَّث فيه بعمق عن مسألة الهوية والانتماءات، وبيّن كيف يمكن لهذا المفهوم أن يخون معناه ويؤدي إلى إراقة الدم، تمنى في آخر فقرة من الكتاب.. وقال: "أن يكتشفه (يعني الكتاب) حفيدي عندما يصبح رجلاً، في مكتبة العائلة بالمصادفة، فيقلّبه ويتصفحه قليلاً، ثم يعيده إلى المكان المغبر الذي سحبه منه، ويهز أكتافه مستغرباً أنه في زمن جده كانت هناك حاجة بعد لقول مثل هذه الأشياء".. ونتمنى معه ذات الشيء، لعل هذا العالم يصبح أفضل.

____________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 14 ابريل، 2014:

الخميس، 10 أبريل 2014

آلفاڤيل والإنجيل الذي لا نريد


لعل أول ما يتوقعه المشاهد المعتاد على السينما الهوليوودية حين يقرر مشاهدة فيلم خيال علمي هو الكثير من الروبوتات والمركبات الطائرة والعمارات الشاهقة والتقنيات اللامعقولة، وكل ذلك بمؤثرات خاصة ليبدو حقيقياً جداً. ولكنه قد يُصدم إن قرر مشاهدة فيلم "آلفاڤيل" للمخرج الفرنسي جان لوك غودار والذي يُصنف على أنه فيلم خيال علمي ولكنه مصور في باريس، باريس ليلاً بعماراتها الزجاجية ونوافذها المفتوحة على العالم بغير ستار، بسياراتها ومصاعدها وهواتفها المعتادة وبغير تقنيات خاصة. 

هذا هو باختصار أسلوب هذا المخرج الاستثنائي الذي يتحداك بمعاني أفلامه بدلاً من أن يبهرك بمؤثراته، ويثور على مفاهيم السينما التقليدية بدلاً من الانقياد لها. 

تدور أحداث الفيلم في مدينة "آلفاڤيل" المستقبلية الديوستوبية حيث يسافر ليمي كوشين - الممثل إيدي كونستانتين - إليها وهو عميل سري من الآوتدلانس (مدينة خارج المجرة الفضائية) بغرض العثور على زميله المفقود وقتل رئيس آلفاڤيل البروفيسور ڤون براون وتدمير الكمبيوتر آلفا ٦٠ والذي يتحكم بالمدينة تكنولوجياً. يغير كوشين اسمه إلى إيفان جونسون ويدّعي أنه يعمل لصالح صحيفة فيجارو برافدا. تستقبله ناتاشا ڤون براون - الممثلة آنا كارينا - والتي ترافقه طوال الفيلم لأن عملها يقتضي مراقبة تحركات الغرباء والقادمون من الآوتلاندس.

نجح غودار في تصوير الكابوس بجوهره الكامن متمثلاً في مدينة آلفاڤيل. هذه المدينة التي يتحكم بها كمبيوتر دكتاتوري لا يفهم كل ما له علاقة بالعواطف الإنسانية فيرفضه. يُجبر كل مواطنو هذه المدينة على التصرف بمنطقية والابتعاد عن العاطفة فيعدم كل من يبكي أو يضحك بكثرة، وكل من يسأل "لماذا"، وكل من يظهر العطف والحنان.


في مشهد إعدام جماعي، يسأل ليمي كوشين الشرطي "لم حكم عليهم بالإعدام؟" ويرد الشرطي: "لأنهم تصرفوا بلامنطقية" ثم تقول ناتاشا: "آه أنا أعرف ذلك الرجل، لقد بكى حين ماتت زوجته".

تتاح الفرصة للمحكوم عليهم بالإعدام بأن يتحدثوا قبل أن يطلق عليهم الرصاص، فيقول أحدهم: "استمعوا إلي أيها العاديون، نحن نرى الحقيقة فيما حجبت عنكم، والحقيقة هي أن الحب والإيمان هما جوهر الإنسان.. والشجاعة، والحنان، والعطاء، والتضحية. أما البقية فهم العائق الذي أنتجه تقدم جهلكم الأعمى" ثم يُطلق عليه الرصاص ويسقط في بركة سباحة (المكان المخصص للإعدام) ويصرخ: "يوم ما.. يوم ما" ثم يموت وسط تصفيق البروفيسور ڤون براون والشرطة المراقبون ببرود تام. 

صفة البرود هي الصفة الغالبة لجميع سكان هذه المدينة إذ تبدو وجوههم ميتة خالية من المشاعر الإنسانية وكأنهم أموات يتحركون فحسب. حتى روحانية الديانات مرفوضة، فالإنجيل هناك ليس كما نعرفه، بل هو عبارة عن قاموس متجدد بين كل يوم وآخر، وفيه الكلمات التي يمكن استعمالها في حين تختفي كلمات أخرى لأنها تُمنع. حين تقرأ ناتاشا من كتاب الشعر للعميل السري - وهي لا تعرف ما هو الشعر - تقف عند كلمة "ضمير"، وتتسائل ما يعني؟ ثم تبحث في الإنجيل وتقول: "هذه الكلمة ليست هنا" وتعلق: "في خلال الشهور الماضية، اختفت بعض الكلمات التي كنت أحبها؛ طائر أبو الحناء، البكاء، ضوء الخريف، الحنان".

غودار لا يتوانى عن إدراج معاني يقصد بها السخرية طوال الفيلم، ومن ذلك أن الكمبيوتر آلفا 60 يتحدث إلى المواطنين بكلمات معظمها اقتباسات مباشرة من الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس - رغم أن الشعر لا يُقرأ وممنوع وغير معروف في مدينة آلفافيل. كما يرافق صوت الكمبيوتر الأجش والإلكتروني صوت خافت لأنفاس انسان وكأنه يؤكد على الإنسانية أولاً قبل كابوس التقنية هذا.

هذه هي الصورة التي لا نريد حتماً أن نصل إليها، رغم أننا إن تفكرنا فهي ليست بعيدة وخيالية تماماً، إذ نرى في زمننا الحالي علاقات حب بين إنسان وآلة وعلاقات هوس بين إنسان ولعبة، وليس ببعيد أن تتغلب الآلة وتتحكم بخالقها. لعل الأمل يكمن في اقتباس بسيط من الفيلم، حين يحقق الكمبيوتر آلفا 60 مع ليمي كوشين ويسأله: "هل تعرف ما يضيء الليل؟" فيرد كوشين: "الشعر". تمسك بالشعر أيها الإنسان، فوسط هذا التشويش وهذا البرود والزيف لن تنتشل إنسانيتك من الضياع سوى من خلال الشعر.

_____________________

نُشر المقال في جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 10 أبريل، 2014:

الأحد، 6 أبريل 2014

الحق في الحلم ولو انكسر


شاهدتُ قبل حوالي أكثر من أسبوع فيديو عبر اليوتيوب للكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو بعنوان "الحق في الحلم"، حيث تم تصوير هذا الفيديو قبل عام ٢٠٠٠ وفيه يسرد العالَم المثالي الذي يريد أن يعيش فيه في الألفية الجديدة. يقول في مقدمة الفيديو: "الحق في الحلم لم يكن من ضمن قائمة حقوق الإنسان التي أعلنتها الأمم المتحدة عام ١٩٤٨. لذا لنحلم بعض الوقت.. لنحلم" ثم بدأ بوصف العالم الذي يريد أن يعيش فيه؛ عالم مثالي كجنة ولكن بكل أسف ما يحدث في عالمنا اليوم عكس ما وصفه تماماً. هذا المقال ردي البسيط على كلمات ادواردو غاليانو العبقرية.

ما كسرنا سوى أحلامنا المثالية جداً يا غاليانو. حلمنا وحلمنا وحاولنا تطبيق هذا الحلم على أرض الواقع، أخرجنا هذا الحلم البريء والنقي من قلوبنا إلى العالم، وما إن بدأ يحبو خطواته الأولى وانطلق إلى الشوارع إلى أن دهسته السيارات وداست عليه أرجل المارة رافضة إياه لعدم منطقيته. تمنيتَ أن الكلاب تدهس السيارات في الشوارع بدلاً من حدوث العكس، ولكن آسف على القول أن حتى الأحصنة والقطط والأبقار والمواشي لم تسلم من وحشية الإنسان سواء بالتعذيب المباشر لمجرد المتعة أو بالتعذيب غير المباشر لغرض صناعة الطعام! لم يعد التلفزيون أكثر أعضاء العائلة أهمية مثلما تمنيت يا غاليانو ولكن تم استبداله بالهواتف الذكية التي تعطي وهم التواصل وما هذا التواصل سوى تجارة في أعين تجّار الوهم. ونحن جميعاً مشاركون في هذه المأساة فما إن يأخذ أحد منا فترة راحة من وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن يأتيه العتاب واللوم والاستغراب من الناس حوله، إذ لا طريقة للتواصل في هذا العصر سوى عبر الألياف البصرية! لا تزال الناس تعيش لتعمل بدلاً من أن تعمل لتعيش، حيث أصبح العمل عبودية القرن الحادي والعشرين، وأصبحت الناس آلات مبرمجة للذهاب يومياً إلى العمل مكررة ما تفعله برتابة وبغير تجديد. ومن يحاول الابتعاد عن هذا التقليد يلاقي السخرية والاستهزاء من المتعبين أنفسهم الذين يعانون من الرتابة. أي تناقض هذا يا غاليانو؟

أصبحت الناس في البلدان المنكوبة تشارك طوعاً في الحروب الأهلية، وهل نستطيع لومهم حقاً؟ أصبحت الحرب الحالة الطبيعية للبلد بدلاً من أن تكون حالة مؤقتة وشاذة. اللاجئون والمنفيون والمواطنون كلهم سواء، كل يعاني من غربته بطريقة أو بأخرى. أما أمنيتك لأولاد الشارع ألا يعاملوا كقمامة لأنه لن يكون هناك أولاد شوارع، فيؤسفني إبلاغك يا غاليانو أنهم لا يزالون يبيعون أحلام طفولتهم المتمثلة في الفوشار والحلوى عند إشارات المرور ومحطات البترول، وفي بلاد أخرى ليست بعيدة كثيراً عن بلادنا هم يجمعون القمامة ويبيعون منه ما قد يصلح للاستعمال. أنت ترى أن العدالة والحرية توأمتان سياميتان مجبرتان على الانفصال وتتمنى أنهما ستجتمعان مجدداً كتفاً على كتف. أما أنا فلا ألمحهما أبداً ولا أعرف أينهما وفي أي نواحي الأرض يسكنان. أو ربما هما أبداً متنقلتان إذ لا يوجدان بشكل مطلق في أي مكان، وفي هذا العالم الواسع، كم فرصة التقائهما يا غاليانو؟ لا أظنها عالية أبداً.

تمنيت أن تحكم امرأة سوداء البرازيل والولايات المتحدة، وإمرأة هندية غواتيمالا والبيرو. في هذا الجزء من العالم يا صديقي العبقري، لا يزال الناس يناقشون أحقية النساء في الإمساك بالحكم أو تولي منصب الإمارة أو القضاء ويتحججون بنقص عقولهن وضعف منطقهن وقوة عاطفتهن. أود أن أسألك وعموم الناس سؤالا صادقًا؛ ما الذي قد ينقذ البشرية سوى العاطفة الإنسانية والرحمة والحب؟ ذكرت بأنه يجب على الكنيسة أن تصدر وصية أخرى إضافة إلى الوصايا العشر وهذه الوصية هي "أحب الطبيعة التي أنت جزء منها". من فرط حب الناس للطبيعة في هذا الزمان أصبحوا يستعملونها كسلعة تسويقية لمنتوجاتهم الاستهلاكية فيعرضون صوراً لأبقار تتغذى من حشيش سويسرا الساحرة، في حين أن أبقارهم محبوسة في مصانع ضخمة! كانت أمنيتك، كأمنية كل الحالمين بوطن مثالي، هو المواطنة العالمية من غير اعتبار للجغرافيا أو الحدود أو الزمن. لنقل اختصاراً أن الحدود كثرت وحالت بيننا وبين المواطنة العالمية، فلم تتضمن ما ذكرت فحسب بل أصبحت تتضمن القبيلة والجنس والطبقة بل وحتى الوظيفة والمرتب المالي.

أتساءل بعد كل هذا، أمن فائدة من الحلم إذا كان بعيد المنال كأحلامنا؟ أو الأفضل ألا نحلم وألا نتوقع شيئاً من هذا العالم المجنون ونعمل حسب طموحاتنا الشخصية بغير اعتبار للعالم؟ لربما كل هذا يدعو للاستسلام والقعود واليأس، ولكننا هنا سواء شئنا ذلك أم أبينا، لنحلم إذاً، ولنعمل نحو تحقيق هذا الحلم ولو انكسر مرات عدة سنظل نلتقط فتاته من الشارع ونجمعه مجدداً ونغني له تهويدة لعله يهدأ ولا يرتاع، لعله يقوم.

_________________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 07 أبريل، 2014:

ترجمة الفيديو إلى العربية:

الاثنين، 24 مارس 2014

عن الإنسان الذي صال تيها وعربد


قد أتفهّم ألا يقبل الأب أن تتزوج ابنته العربية من رجل أمريكي الجنسية، للاختلاف الكبير في القيم والعادات. قد أتفهم ألا تقبل الأم أن يتزوج ولدها من امرأة مسيحية الديانة لخوفها من أن يتأثر الأحفاد. قد أتفهم أن يغضب كبير العائلة لزواج حفيدته من رجل غير عربي وسفرها معه إلى بلاده، ولكن ما لا أتفهمه ولن أتقبّله ما حييت هو عدم تقبل العائلة زواج اثنين لمجرد عدم تناسب القبائل.

تواجد مفهوم القبيلة في القرون الماضية في كافة أنحاء العالم شرقاً وغرباً، من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية إلى القبائل الجرمانية في أوروبا إلى غيرها من التجمعات السكنية. وقد أتى مفهوم القبيلة عند العرب حين كانوا يعيشون في الصحارى القاحلة، فكونوا جماعات سميت غالباً على اسم المنطقة التي استقروا فيها. في ذلك الزمن كان الفرد يعيش حسب قوانين القبيلة، فإن خرج عنها تمّ نفيه وطرده. وهكذا تشكلت جماعة الصعاليك وهم ينتمون لقبائل مختلفة ممن رفضوا سلطة القبيلة فطردوا عنها وامتهنوا غزو القبائل. قد أتفهم في ذلك الزمن عدم رغبة الفرد في الخروج من حماية القبيلة بسبب طبيعة الصحراء التي تجعل من الصعب على الفرد أن يعيش وحيداً، وقد أتفهم افتخار الفرد بقبيلته بسبب كثرة الحروب بين القبائل وضرورة حس الانتماء الذي يجعل الفرد يدافع بشراسة عن قبيلته. ولكن الآن في هذا الزمن وبعد نشوء مفهوم الدولة ومفاهيم العولمة والمواطنة العالمية، أصبح من الصعوبة بمكان أن يتعصب الفرد لقبيلته ولنسبه، ناهيك عن كون ذلك مرادفًا لمفهوم العنصرية في زماننا.

لنسرد سيناريو يتكرر كثيراً في مجتمعاتنا؛ رغب محمد في الزواج بشريفة، زميلته في العمل، تقدم لخطبتها وبدا أن أهلها أحبوا أخلاقه وطموحاته والتمسوا فيه خيراً، فوافقوا على الزواج وباركوا لهما. تمّ تحديد المهر وموعد عقد القران وكل الأمور بدت أنها تمشي في الاتجاه السليم، إلى أن قرر أبو محمد أن يسأل قليلاً عن نسب شريفة، فذهب إلى شيخ طاعن في السن خبير بأمور القبيلة وأخبره باسم شريفة الكامل طالباً منه تبين حسبها ونسبها وأصل جدها الخامس عشر. طلب الشيخ أن يمهله بضعة أيام ليسأل ويتأكد من المعلومة المخيفة التي يعرفها في باطن ذاكرته، ثم رجع إليه بالخبر اليقين: عائلة شريفة ليس لها أصل معروف، قد يكونون من العرب، وقد لا يكونون، وهم منتسبين للقبيلة بالاسم فقط، وإنّ جدها الخامس عشر كان يعمل خادماً لدى القبيلة الفلانية، أو أنهم كانوا أسرى حرب وعوملوا معاملة العبيد. يحاول محمد إقناع أباه بأنّ ذلك من التاريخ العتيق وهو في حقيقة الأمر لا يهمه هذا الاختلاف كثيراً ولكن يرفض الأب رفضاً قاطعاً، وإلا ماذا سيقول النّاس؟ أني زوّجت ولدي بمن ليس لها أصل وأنا ابن القبيلة والحسب والنسب؟ تنتهي هذه القصة بنهاية معروفة ومتوقعة، رمى محمد آماله في الزواج بشريفة، مثلما ترمى الأحلام غير الواقعية في مكب الذاكرة، وتزوج ابنة خالته سارة وهو ربما سعيد في حياته بينما شريفة لا تزال ترفض كل من يتقدّم لها آملة في مستقبل يحقق آمالها.

دعوني أفكر بصوتٍ عالٍ حول أسوأ الاحتمالات التي قد تحدث إن رفض محمد قرار أبيه وتزوج شريفة. ستمر سنة زواجهم الأولى بصعوبة محتملة، كون الأب غير راضٍ وعائلته حانقة على هذا الزواج. سيعاملون شريفة بدونية وربما يتحدثون أمامها عن أصلها بشيء من اللؤم والتشفي. سيذكرونها في كل مناسبة بأن محمدا يستطيع الزواج بمن هي أحسن منها، وربما يذكرونها أيضاً بمساوئها الأخرى من قبيل أن طبق الأرز البرياني –الهندي الأصل– الذي تطبخه سارة ابنة خالة محمد ألذ بكثير من طبق شريفة. هناك احتمالان بعد هذه السنة الأولى للزوجين الحديثين، أن تمل شريفة من هذا الوضع البائس وتطلب الطلاق ليذهب كل منهما في طريقه، أو أن تصر على تحمل هذه التعليقات وتعمل على إنجاح زواجها رغماً عن الصعوبات. لاحظوا معي في كل الأحوال أن حقيقة أن عمل جدها الخامس عشر كخادم لم تؤثر بشكل مباشر على زواجها، لم تحدث أيّ حرب نتيجة شعور الجد بالإهانة بين قبيلة محمد وعائلة شريفة كحرب داحس والغبراء، لم تطالب عائلة محمد باستملاك شريفة نتيجة زواجها وتغيير قبيلتها، لم يحدث أيّ من ذلك، هي حرة وتعمل باستقلالية وأولادها أحرار ويدرسون ويعملون ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي. تكمن الصعوبة الحقيقية في ضغوطات المجتمع من حولهما، المجتمع الحاضر في هذا الزمن وليس الأجداد والأسلاف القدماء. بعد هذا السيناريو الوهمي، دعوني أحلم وأقول ماذا لو لم يحدث ذلك كله؟ لو لم تضطر شريفة لسماع هذه التعليقات التهكمية واللاذعة حول أصلها؟ لعاشت هي ومحمد في أغلب الأحوال بسلام ومودة.

حسب نظرتي المثالية نحو هذا العالم، أرى الإنسان كإنسان فحسب، بطموحات وآمال وأفكار وعواطف، وليس ببلده أو بأصله أو بجنسه أو بثروته الموروثة أو بكل ما لم يختره بنفسه. الإنسان محصلة اختياراته الشخصية، وكل ما عدا ذلك هو من حكمة الله وليس لنا يد فيه. لنذكر أنفسنا بأننا خلقنا من طين، وأن أبانا آدم وأمنا حواء، وكلنا في الحقيقة نعود إلى أصل واحد، لنذكر أنفسنا بقصيدة إيليا أبو ماضي "الطين" والتي يقول في مطلعها: نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيهاً وعربد. ربما – وهذه محض أمنية مثالية أيضاً ولكن لنحلم–، ربما سيصبح العالم أفضل إن سعى كل منّا إلى الابتعاد عن هذه العنصرية المقيتة وهذا التعصب الأعمى.

____________________________
نُشر  المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 24 مارس، 2014: