يقول المخرج الإيراني القدير أصغر فرهادي: "الصراع في المأساة الكلاسيكية هو بين الخير والشر، ونحن نريد عادة هزيمة الشر وانتصار الخير. أمّا الصراع في المأساة الحديثة فهو بين الخير والخير، وأياً كان المنتصر، فسنشعر دوماً بالحزن." وقد عرف هو كيف يصور هذا الصراع عبر أفلامه التي حازت على التقدير العالمي، وكان أبرزها فيلم "انفصال" الذي يعتبر أول فيلم إيراني ينال على جائزة أوسكار فئة أفضل فيلم أجنبي. مع تجربتي البسيطة لأفلام فرهادي، بدءاً بـ "انفصال"، ثم "الماضي"، ثم "عن إيلي"، فقد لمحت في أفلامه هذه الخاصية دائماً؛ إذ يشعر المشاهد بالتعاطف مع جميع الشخصيات ويتفهم أخطاءهم وأكاذيبهم وهفواتهم، ولا يعلم مع نهاية الفيلم كيف سيتصرف لو كان في محلهم وبصف من يقف.
رغم أنّ "انفصال" هو أبرز أفلامه لأنّه حائز على جائزة أوسكار، إلا أنني شخصياً فضلتُ فيلمه الأقدم "عن إيلي" والذي شاهدته مؤخراً. يتحدث الفيلم عن مجموعة من الأصدقاء يسافرون معاً إلى منطقة بحرية لقضاء إجازة قصيرة، تتألف المجموعة من ثلاثة أزواج مع أطفالهم، وأحمد الذي يعيش في ألمانيا وانفصل مؤخراً عن زوجته الألمانية، وإيلي، شابة جميلة غير متزوجة وهي معلمة أحد الأطفال في الحضانة. يتضح للمشاهد أن سبيدة، الشخصية الرئيسية التي قامت بدورها الممثلة الإيرانية غولشيفته فاراهاني، هي من قامت بالتخطيط لهذه الرحلة ودعت إيلي للانضمام معهم بغرض تعريفها على أحمد ولعبها دور الوسيطة بينهما. ومع معرفتنا للنظام الديني الضاغط على المجتمع الإيراني، تضطر سبيدة للكذب على صاحبة الفيلا البحرية التي يودون استئجارها لقضاء الإجازة فيها وتخبرها أن أحمد وإيلي زوجان حديثان، وكانت هذه أولى الكذبات التي ستنعكس بشكل سيء على مجرى الأحداث. إلى الدقيقة الخامسة والأربعين، تتسم الأحداث بالفرح والضحك إذ يستمتع الأصدقاء بمشاكسة أحمد وإيلي ويضحكون معاً ويلعبون لعبة التمثيل والتحزير في مشهد بديع ومرح.
ثمّ تحدث المأساة وتنكشف الكذبات وتظهر الأسرار وتتغير نغمة الفيلم من الفرح إلى الهلع والحزن والشك ويتحول المشاهد من مستهلك سينمائي غير فعال إلى مفكر مستقل إذ يتعين عليه الإجابة عن أسئلة أخلاقية صعبة لا تنتهي بمجرد انتهاء الفيلم بل تظل كامنة في بواطن رأسه وقلبه. يبدأ الفيلم مع الأصدقاء وهم يطلون عبر نافذة السيارة التي تمشي مسرعة عبر نفق في طريقهم للمدينة البحرية وهم يصرخون من الفرحة والحماس، وينتهي مع نفس المجموعة، ولكن بدون إيلي، وهم يحاولون دفع السيارة العالقة في رمال الشاطئ بغير نتيجة. يعلق الناقد فيليب كيمب في مجلة (الضوء والصوت) على هذين المشهدين بقوله إنّهما يعكسان مأساة الفيلم، فمن بهجة بلا حسبان إلى كآبة عميقة ومنغرزة، فقد خسرت حياة وتشتت صداقات وربما زيجات، ولن يكون هناك صراخ فرح في طريق عودتهم عبر النفق. ما بين هذين المشهدين اللذين يفصل بينهما يومان تقع أحداث الفيلم التي لن أكشفها لكي لا أفسدها على القارئ الراغب بمشاهدة الفيلم.
تكمن عبقرية فرهادي في طريقة نسجه للأحداث بحيث تنكشف ببطء ولكن بطريقة صادمة تجعلنا في حيرة من أمرنا، فهو لا يلقم المشاهد مجموعة من الأفكار المعلبة والجاهزة بل يدخله في رحلة من كشف ومواجهة الذات. إحدى الخاصيات المميزة لفرهادي في أفلامه هي خلوها من الموسيقى التصويرية طوال فترة عرض الفيلم إلى نهايته، تتسلل الموسيقى مع ظهور الأسماء والشركات المساهمة في صناعة الفيلم وكأنّها تحرر تلك الحدة العاطفية التي تجتاحنا أثناء مشاهدة الفيلم. يقول فرهادي إنّ الموسيقى تثير العاطفة وقد أصبحت من الكليشيهات أو التكنيكات المبتذلة في الأفلام، ولذلك هو يفضل ألا يستخدمها. لنا كمشاهدين أن نتفق أو لا نتفق مع هذه الفكرة ولكن أن ينجح فرهادي في جذب انتباه المشاهد بل وإثارته حتى من غير موسيقى، فذلك حتماً يحسب في صالحه.
لربما ما يجعل هذا الفيلم مميزاً ومحبباً لمتابعيه هو عالميته وواقعيته، ففيما عدا تفاصيل المكان والثياب، يستطيع أي فرد في العالم أن يرتبط بشخصيات الفيلم ويتخيل نفسه محلهم محاولاً حل معضلتهم، وأتى هذا عكس الكثير من الأفلام الإيرانية التي تستلهم قصصها من المجتمع والدين والدولة، وتحمل بذلك كماً من الخصوصية والانفرادية. كما أنّ لفرهادي القدرة المذهلة على إدخال تفاصيل عميقة للقصة التي قد تبدو بسيطة ومكررة، بحيث يجعلها قصة بديعة ومؤلمة تتصارع فيها الأفكار والمعضلات.
_________________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 23، يوليو، 2014:
http://alroya.om/ar/writer-blogs/101345-%D8%B9%D9%86-%D8%A5%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%B9%D8%A8%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A.html
وفي آراء بتاريخ 23، يوليو، 2014:
http://www.araa.com/article/95159
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق