الخميس، 10 أبريل 2014

آلفاڤيل والإنجيل الذي لا نريد


لعل أول ما يتوقعه المشاهد المعتاد على السينما الهوليوودية حين يقرر مشاهدة فيلم خيال علمي هو الكثير من الروبوتات والمركبات الطائرة والعمارات الشاهقة والتقنيات اللامعقولة، وكل ذلك بمؤثرات خاصة ليبدو حقيقياً جداً. ولكنه قد يُصدم إن قرر مشاهدة فيلم "آلفاڤيل" للمخرج الفرنسي جان لوك غودار والذي يُصنف على أنه فيلم خيال علمي ولكنه مصور في باريس، باريس ليلاً بعماراتها الزجاجية ونوافذها المفتوحة على العالم بغير ستار، بسياراتها ومصاعدها وهواتفها المعتادة وبغير تقنيات خاصة. 

هذا هو باختصار أسلوب هذا المخرج الاستثنائي الذي يتحداك بمعاني أفلامه بدلاً من أن يبهرك بمؤثراته، ويثور على مفاهيم السينما التقليدية بدلاً من الانقياد لها. 

تدور أحداث الفيلم في مدينة "آلفاڤيل" المستقبلية الديوستوبية حيث يسافر ليمي كوشين - الممثل إيدي كونستانتين - إليها وهو عميل سري من الآوتدلانس (مدينة خارج المجرة الفضائية) بغرض العثور على زميله المفقود وقتل رئيس آلفاڤيل البروفيسور ڤون براون وتدمير الكمبيوتر آلفا ٦٠ والذي يتحكم بالمدينة تكنولوجياً. يغير كوشين اسمه إلى إيفان جونسون ويدّعي أنه يعمل لصالح صحيفة فيجارو برافدا. تستقبله ناتاشا ڤون براون - الممثلة آنا كارينا - والتي ترافقه طوال الفيلم لأن عملها يقتضي مراقبة تحركات الغرباء والقادمون من الآوتلاندس.

نجح غودار في تصوير الكابوس بجوهره الكامن متمثلاً في مدينة آلفاڤيل. هذه المدينة التي يتحكم بها كمبيوتر دكتاتوري لا يفهم كل ما له علاقة بالعواطف الإنسانية فيرفضه. يُجبر كل مواطنو هذه المدينة على التصرف بمنطقية والابتعاد عن العاطفة فيعدم كل من يبكي أو يضحك بكثرة، وكل من يسأل "لماذا"، وكل من يظهر العطف والحنان.


في مشهد إعدام جماعي، يسأل ليمي كوشين الشرطي "لم حكم عليهم بالإعدام؟" ويرد الشرطي: "لأنهم تصرفوا بلامنطقية" ثم تقول ناتاشا: "آه أنا أعرف ذلك الرجل، لقد بكى حين ماتت زوجته".

تتاح الفرصة للمحكوم عليهم بالإعدام بأن يتحدثوا قبل أن يطلق عليهم الرصاص، فيقول أحدهم: "استمعوا إلي أيها العاديون، نحن نرى الحقيقة فيما حجبت عنكم، والحقيقة هي أن الحب والإيمان هما جوهر الإنسان.. والشجاعة، والحنان، والعطاء، والتضحية. أما البقية فهم العائق الذي أنتجه تقدم جهلكم الأعمى" ثم يُطلق عليه الرصاص ويسقط في بركة سباحة (المكان المخصص للإعدام) ويصرخ: "يوم ما.. يوم ما" ثم يموت وسط تصفيق البروفيسور ڤون براون والشرطة المراقبون ببرود تام. 

صفة البرود هي الصفة الغالبة لجميع سكان هذه المدينة إذ تبدو وجوههم ميتة خالية من المشاعر الإنسانية وكأنهم أموات يتحركون فحسب. حتى روحانية الديانات مرفوضة، فالإنجيل هناك ليس كما نعرفه، بل هو عبارة عن قاموس متجدد بين كل يوم وآخر، وفيه الكلمات التي يمكن استعمالها في حين تختفي كلمات أخرى لأنها تُمنع. حين تقرأ ناتاشا من كتاب الشعر للعميل السري - وهي لا تعرف ما هو الشعر - تقف عند كلمة "ضمير"، وتتسائل ما يعني؟ ثم تبحث في الإنجيل وتقول: "هذه الكلمة ليست هنا" وتعلق: "في خلال الشهور الماضية، اختفت بعض الكلمات التي كنت أحبها؛ طائر أبو الحناء، البكاء، ضوء الخريف، الحنان".

غودار لا يتوانى عن إدراج معاني يقصد بها السخرية طوال الفيلم، ومن ذلك أن الكمبيوتر آلفا 60 يتحدث إلى المواطنين بكلمات معظمها اقتباسات مباشرة من الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس - رغم أن الشعر لا يُقرأ وممنوع وغير معروف في مدينة آلفافيل. كما يرافق صوت الكمبيوتر الأجش والإلكتروني صوت خافت لأنفاس انسان وكأنه يؤكد على الإنسانية أولاً قبل كابوس التقنية هذا.

هذه هي الصورة التي لا نريد حتماً أن نصل إليها، رغم أننا إن تفكرنا فهي ليست بعيدة وخيالية تماماً، إذ نرى في زمننا الحالي علاقات حب بين إنسان وآلة وعلاقات هوس بين إنسان ولعبة، وليس ببعيد أن تتغلب الآلة وتتحكم بخالقها. لعل الأمل يكمن في اقتباس بسيط من الفيلم، حين يحقق الكمبيوتر آلفا 60 مع ليمي كوشين ويسأله: "هل تعرف ما يضيء الليل؟" فيرد كوشين: "الشعر". تمسك بالشعر أيها الإنسان، فوسط هذا التشويش وهذا البرود والزيف لن تنتشل إنسانيتك من الضياع سوى من خلال الشعر.

_____________________

نُشر المقال في جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 10 أبريل، 2014:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق