الأربعاء، 29 يناير 2014

طائر النار الأرمني



بورتريه
لعل منحوتة الفنان فازا ميكابيريدز في ساحة تبليسي القديمة تقول أكثر مما نستطيع قوله عن المخرج الأرمني سيرجي باراجانوف. ليست المنحوتة لباراجانوف واقفاً مكتفاً يداه ويتطلع إلى السماء، ولا تصوره وهو يمسك في يده عصا وينظر إليك متأملاً، بل هي منحوتة معلقة على الجدار، إن نظرت إليها من زاوية مستقيمة ستظنه يطير. يمد فيها يديه فتبدو أكمام قميصه كجناحين، وترى رجليه وكأنهما في وضعية الطيران، وتظهر على وجهه ابتسامة دافئة.
ستُعجب بهذا المخرج أكثر إن علمت أن المنحوتة مأخوذة من صورة فوتوغرافية لباراجانوف وهو يقفز وسط حارة قديمة في تبليسي. هناك منحوتة أخرى أمام متحف يريفان في أرمينيا تصوره واقفاً باسطاً يديه أمام صدره ويحمل حمامة، ورافعاً يده الأخرى كتحية سلام وحول يده برواز بلا صورة. كما أن هناك صورة فوتوغرافية مدهشة، من تصوير الفنان يوري ميخيتوف، تصوره وهو ينظر مباشرة نحو الكاميرا بعينين ثاقبتين، ويحمل في يده مزهرية ورود، وفي رأسه قبعة سوداء، وفوق القبعة قفص دائري، وفوق القفص يقف عصفور.

مذنب لأنه متفرد
حين حُكم على باراجانوف بالسجن لخمسة سنوات في مخيم للعمل الشاق في سيبيريا بفعل أفكاره التي اعتبرت شاذة في وقتها عن الإتحاد السوفييتي، كتب آندريه تاركوفسكي إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوكرانيا قائلاً: "في السنوات العشر الماضية، أخرج سيرجي باراجانوف فيلمين فقط: ظلال أجدادنا المنسيون، ولون الرمان. ولقد أثرا على السينما أولاً في أوكرانيا، ثانياً في هذا البلد ككل، وثالثاً في العالم بأسره. هناك عدد قليل جداً من الناس في هذا العالم ممن يستطيعون مجاراة مواهب باراجانوف الفنية. هو مذنب، مذنب لأنه متفرد. ونحن مذنبون لأننا لا نفكر فيه يومياً ولأننا فشلنا في استكشاف أهمية هذا الفنان." وقد احتج مجموعة من الفنانين والسينمائيين وقتها رفضاً لهذا الحكم، من بينهم جان لوك جودار وفرانسوا تروفو وايف سان لوران وفيديريكو فيليني ومايكلانجلو انتونيوني ولويس بونويل.


متعة غير تقليدية
لجأت في مقدمتي عن هذا المخرج الأرمني إلى مجموعة من الصور تحكي لنا عنه أكثر مما قد نقرأه في كتب السيرة، وإلى إقتباس من أحد أكبر وأهم صناع السينما في العالم. أفلام سيرجي باراجانوف بصرية بامتياز، تحمل أقل قدر ممكن من الحوار، وتبهر المشاهد بتصويرها للتراث والثقافة الاوكرانية والأرمنية. هي ليست أفلام ممتعة بمعنى المتعة التقليدي، ولكنها أفلام ذكية وتتحدى المشاهد بقصصها وصورها غير الاعتيادية.

ثلاثة أوطان
ولد باراجانوف في مدينة تبليسي في جورجيا في التاسع من يناير عام 1924، ويقول عن نفسه: "يعرف الجميع أن لي ثلاثة أوطان، فقد ولدت في جورجيا، وعملت في أوكرانيا، وسأموت في أرمينيا"، لذا احتفاءاً بأعماله الخارجة عن المألوف دوماً، ورغبة في تعريف المشاهد العربي بمخرج عالمي بعيد كل البعد عن الإنتاج الهوليوودي، جاء هذا المقال. سأركز فيه على ثلاثة عوامل مهمة ومتكررة في أفلامه، وهي توظيف الألوان والبراعة التصويرية، والتراث الاوكراني الشعبي والديني، واللغة الشعرية، وسأعرض أمثلة من فيلمين على وجه التحديد، هما أهم أفلامه القليلة التي أخرجها؛ "ظلال أجدادنا المنسيون"، و"لون الرمان". قصة الفيلمين بسيطة؛ فكلاهما يتحدثان عن رجل وُلد وعاش وأحب وحزن ومات. في "ظلال أجدادنا المنسيون" الرجل هو إيفان، رجل بسيط يسكن في قرية تابعة لشعب الهوتسول في جبال الكاربات في أوكرانيا، يقع في حب فتاة تدعى ماريتشكا منذ صغره، ولكن تاريخ عائلته وعائلة الفتاة شائك، فأباها قتل أباه، ولكنهما رغماً عن ذلك يصران على البقاء معاً إلا أن الأقدار تمنعهما فيتفرقان. أما فيلم "لون الرمان" فهو يحكي سيرة حياة الشاعر الأرمني سايات نوفا (وهذا الإسم يعني ملك الأغنية) من طفولته إلى مماته، ولكن بطريقة بصرية وشعرية أكثر مما هي ذاتية أو حرفية، ومقسم إلى ثمانية فصول، يمكننا تسميتها لوحات حية لكونها تتمتع بأقل قدر ممكن من الحركة وتبدو وكأنها لوحة فنية، ويتخلل الفصول أبيات شعرية من كلمات الشاعر.

رمزية اللون
برع باراجانوف في توظيف الألوان بطريقة رمزية لصالح معاني أفلامه، ورغم أن الفيلمين تم إنتاجهما في الستينيات من القرن الماضي، أي بتقنيات بصرية محدودة، إلا أنه استطاع إخراجهما بطريقة سابقة لعصره. في النصف الأول من فيلم "ظلال أجدادنا المنسيون"، النصف السعيد والمغمور بالحب، كانت الألوان حادة وصارخة وكان اللون الأحمر طاغياً ومتمثلاً في الثياب التقليدية والنار، وأيضاً جاء استخدام الألوان الأرضية – الأصفر والأخضر والبني – كثيراً، دالاً بذلك على أهمية الطبيعية لدى شعب الهوتسول. يتحدث باراجانوف عن هذا الفيلم ويقول: "الطبيعة هي التي أنجبتنا وهي من سيعيدنا ثانية إلى حضنها. ينبغي أن نبجل الطبيعة: حقيقتها، مثلها العليا، أمومتها، ومنشأها." أما في النصف الثاني وبعد حادثة مريعة جعلت إيفان صريعاً للكآبة، فقدت الألوان حيويتها وأصبحت كلها باهتة وخافتة بل وأصبح الفيلم أقرب إلى الأبيض والأسود منه إلى الملون. تقع أحداث الفيلم في جبال الكاربات الباردة والمكسوة بالثلج في معظم أيام السنة، ولكن المشاهد لا يشعر ببرودة الأجواء إلا حين تحولت الألوان وأصبحت رمادية ومعها أصبح الجو يبدو لنا قارساً وقاسياً أكثر. وصف أحد مراجعي الفيلم في موقع قاعدة بيانات الأفلام العالمية IMDb تجربة مشاهدته بركوب لعبة أفعوانية بها خلل، وأجد ذلك الوصف دقيقاً بسبب الحركة المستمرة للكاميرا وزوايا التصوير غير الاعتيادية. ينصدم المشاهد في أول مشهد من الفيلم – على سبيل المثال – بشجرة تقع على أحد الرجال وترديه ميتاً، تم تصوير هذا المشهد من زاوية الشجرة فنشهد وقوعها وكأننا نحن من وقعنا على الرجل. وكذا الحال أيضاً مع فيلم "لون الرمان" فمن العنوان نعرف أن هذا الفيلم يستخدم الألوان بطريقة رمزية، ومن بداية الفيلم، يرى المشاهد فاكهة الرمان على قطعة من القماش الأبيض وكأنها تنزف دماً. يختبر باراجانوف براعته مع الكاميرا كطفل يلعب بدميته ويعاملها كصديقة، فيدخل المشاهد في جو مشحون ومليء بالحركة إلى درجة الإبهار.


تقاليد أوكرانيا
غالباً ما تكون الأفلام العالمية مقدمة تعريفية للثقافات والشعوب المختلفة، وما أدهشني في أفلام باراجانوف هو عمق وتجذر الثقافة الاوكرانية فيها. فمن خلال هذين الفيلمين، أخذت نظرة حول تقاليد الولادة والزفاف والوفاة وتعرفت بشكل مقرب إلى الأغاني والرقصات الاوكرانية الشعبية، حتى صرت أنشدهم بلا حفظ للكلمات ولكن بحب للحن. كغرابة الصورة الفوتوغرافية لباراجانوف التي تحدثت عنها في بداية المقالة، أتى فيلم "لون الرمان" بصور سريالية متعددة وكأنها خارجة للتو من حلم أحد المجانين. يكفينا أن نكتب اسمه في محرك البحث غوغل ونفتح على صوره لننصدم بعجائبيته. صورة للشاعر وهو مغمض العينين ويحمل جمجمة عليها خوذة محارب، صورة لرجل نائم على سرير أسود، بجانبه الأيمن طفل يحمل كرة ذهبية، وبجانبه الأيسر طفل آخر بجناحين على ظهره يشبهان قرون الأيل، صورة لسقف منزل مرصوف عليه مجموعة كبيرة من الكتب المفتوحة. يُعتبر الشاعر سايات نوفا من أهم شعراء أرمينيا في القرون الوسطى، وقد نسب إليه ما يقارب 220 أغنية، كتبهم بعدة لغات منهم الفارسية والأرمنية والجورجية، ولكن معظمهم باللغة الأذربيجانية. وهو يعتبر من شعراء التروبادور أو "عاشيق" وهم شعراء متجولون وعازفون للعود. أصبح قسيساً في أواخر سنين حياته وقُتل وهو في الكنيسة من قبل قوات الشاه الإيراني آغا محمد خان قاجار لرفضه الدخول إلى الإسلام وتمسكه بالمسيحية. لذا جاء الفيلم مليئاً بالصور الرمزية المسيحية والأناشيد الدينية، ففي أحد المشاهد البديعة، على سبيل المثال، والتي تستفتح ببيت شعري لسايات نوفا: "كمجموعة من الضحايا البريئون، أتينا إلى هذا العالم لنقدم لك القرابين يا إلهي" يغني مجموعة من الأطفال في كنيسة وهم يحملون مختلف القرابين والرموز، كصورة المسيح، وقرون الأيل، ومنحوتة حمامة، وكأس، ويحملون معاً قطعة قماش بيضاء عليها نقوش مخرمة، فيما يحفر الشاعر قبر كاهن توفى، ثم تدخل الكنيسة مجموعة كبيرة من الخرفان. ينتهي هذا المشهد ببيت شعري آخر: "طلبت كفناً أبيضاً لتغطية الجسد الميت، ولكنهم بدلاً عن ذلك أعطوني نوبات جنونية مضطربة من أجسادهم الحية، من أين لي بحب غير أناني؟". في مشهد آخر، من فيلم "ظلال أجدادنا المنسيون" نرى تقاليد الزفاف الأوكراني. يدخل البطل الذي سيتزوج لابساً ثياباً تقليدية الكنيسة، لتستقبله نسوة يغنين بفرح، ثم تقترب منه أحدهن وفي يدها قطعة قماش لتغطي بها عينيه ثم تقوده إلى كرسيه. بعد ذلك تأتي الزوجة، معصوبة العينين أيضاً، لتجلس بجانبه. تأتي النسوة بسلم خشبي صغير وتضعنه على رأسيهما كدلالة على ارتباطهما معاً. يقول باراجانوف عن هذا الفيلم: "لقد ركزت فيه على الجانب الأثنوغرافي: على الله، على الحب، وعلى المأساة. وهذا هو ما يعنيه الأدب والسينما بالنسبة لي."


شعر
على الرغم من قلة الحوار في أفلام باراجانوف، لاعتمادها الكبير على الصورة البصرية، إلا أن اللغة الشاعرية تجبرك على التوقف قليلاً وأنت تشاهد الفيلم لتقول "آه، يا للجمال!" وقد فعلت ذلك مراراً أثناء مشاهدة هذين الفيلمين. لذا رأيت أن أعرض بعض الاقتباسات منهما بلا تعليق على المشهد حتى يتسنى للقارئ استكشاف الفيلمين بنفسه.

- إيفان وماريتشكا يتحاوران بالغناء. ماريتشكا: غني إيفان طالما تستطيع الغناء! وسأغني لك حتى لا تفهمني. إيفان: أخبريني، أخبريني يا فتاتي، أين فقدت عقلي؟ أو ربما خبأته بين شجرات البتولا أو الحور. ماريتشكا: حين وقعنا في الحب، حتى شجرة السنديان الجافة بدأت بالإزدهار، وحين افترقنا ذبل الليلك. إيفان: آه يا حلوتي ماريتشكا، يا عصفورتي الثرثارة، لو قدر لنا فقط أن نحب بعضنا لصيف واحد! ماريتشكا: تذكرني يا إيفان، ولو مرتين يومياً، فأنا أتذكرك سبع مرات في الساعة الواحدة. تبرعمت شجرة التفاح، ونحن أحببنا بعضنا منذ الصغر. إيفان: ذهبت إلى المرج، ورأيت عصفوراً هناك، ماذا تفعلين الآن يا ماريتشكا ذات الشعر الأسود؟
- يجب أن نحافظ على الكتب ونقرأها، لأن الكتب أرواح وحياة. دون كتب، لن يرى العالم شيئاً فيما عدا الجهل.
- صلاة: إلهي دع الأرواح الضائعة تنضم إلينا، تلك المجروحة في الرحلات الطويلة، أو تلك التي غرقت في مياه عميقة.
- كنا نبحث عن ملجأ لحبنا، ولكن بدلاً عن ذلك، قادنا الطريق إلى أرض الأموات.
- كيف أحمي قلاع حبي الشمعية من وهج نيرانك المفترسة؟

مغامرة
حين سألوا باراجانوف كيف أصبحت مخرجاً؟ أجاب: "أعتقد أنه ينبغي على المخرج أن يولد مخرجاً. الأمر مثل مغامرة طفل، أن تأخذ روح المبادرة وسط أطفال آخرين وتصبح مخرجاً، مبتكراً بذلك لغزاً. عليك أن تصوغ الأشياء في شكل ما وتعيد خلقها من جديد. أن تعذب الناس بموهبتك الفطرية، أن ترعب والدتك وجدتك في منتصف الليالي. أن ترتدي ثياباً أشبه بثياب عمنا شابلن أو مثل هنس كريستيان أحد بطال أندرسون. أن تستخدم الريش المخبأ في صندوق الثياب، أن تحّول نفسك إلى ديك أو طائر النار. هذا هو ما كان يشغلني ويستحوذ علي دائماً، وهذا هو الإخراج." وكان هو هكذا، طائر النار، مجنوناً وعبقرياً وساخراً وأرمنياً جداً. كتب علي كامل مقال عنه في صحيفة إيلاف، وكان من جملة ما ذكر أن باراجانوف أراد الإحتفال مرة بعيد ميلاده، فخرج إلى الشوارع وهو يصرخ ويدعو الجميع إلى حضور الحفل. حضروا مئة، وشقته الصغيرة لم تكن تكفي سوى لعشرين منهم، فأدخلهم وأجلس البقية على سلالم وممرات المبنى السكني من الطابق الأول وحتى الطابق الخامس، بلا استئذان من سكنة المبنى. وكان يستقبلهم بفرح وهو يرفع نخبهم وينتقل بين الطوابق كطفل. أصيب بسرطان الرئة عام 1989 وتدهورت صحته مذاك، وفي أواخر أيامه كان يتوسل الطبيب أن يمدد في عمره ولو لستة أيام فقط حتى يكمل كتابة سيناريو فيلمه الأخير "الإعتراف"، ولكن وافته المنية قبل تحقيق أمنيته ومات في 21 يوليو عام 1990، تاركاً وراءه قصة حياة عظيمة وأفلام خلدت تاريخ أوكرانيا وتراثها وثقافتها.


___________________________________

نُشر المقال في صحيفة آراء الإلكترونية بتاريخ 29 يناير، 2014:

http://www.araa.com/article/84384

الأحد، 26 يناير 2014

المغادرون نحو السلام





كانت ليلة بدرية كاملة، كانت ليلة غائمة وحمراء، حين ماتت جدتي.

كانوا يغسلونها ويكفنونها في الساعة الثالثة فجراً، أمي وخالاتي وجدتي المتوفاة خلف حجاب أبيض، ونحن نرى ظلالهم فقط. ظلال ترفع أيديها نحو السماء وتجهش بالبكاء وتدعو الله، ظلال تمسح بالكافور على جسد الميت، ظلال تمسح بالماء، ظلال تمسك المبخرة، ظلال تأخذ الكفن الأبيض وتغطي به جسد الميت، ظلال تخفف عن ظلال لتتوقف عن البكاء، وكل الظلال ترفع الصلوات والابتهالات نحو السماء: سبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر. كان المشهد جميلاً رغم النكبة، فأن ترى أرواحا استسلمت للبارئ و ودعت أثقالها وتعبها بين يديه آملة في الخلاص، وأن ترى الألم متجسداً أمامك لا يخففه سوى كلمات مذكرة برحمة الخالق، وأن ترى يقين الموت يقابله شك الحياة وتتأمل في الكون راغباً في الفهم والمعرفة، وأن ترى البدر بكامل سطوعه تارة تكشفه الغيوم وتخفيه تارة أخرى. كان المنظر جميلاً حد النشوة، وكنت أفكر، هذا الجمال لا يليق به سوى خالقه. كل ذلك يدعو إلى نوع من الطمأنينة، ولعل الطمأنينة هي كل ما نتوق إليه في هذه الحياة. فبعد كل تلك الأسئلة التي تغمرنا؛ أين هي الآن؟ هل ترانا أم ترى عدماً وتأسف للنهاية مثلما يقول درويش؟ هل ترى النور وملائكة تبتسم؟ هل تشعر بحزننا؟ ثم تنطفئ الأسئلة وتخمد، حالما ترنو إلى آذاننا صلوات بناتها.

ذكرتني طقوس غسل الميت بالفيلم الحائز على أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2008 "المغادرون" للمخرج الياباني يوجيرو تاكيتا والذي يتحدث عن عازف تشيلو اضطرت فرقته الاوركسترالية إلى الحل نظراً لإفلاسها، فيبحث عن عمل آخر ليعيل نفسه وزوجته. يرى إعلانا في الصحيفة عن "مساعدة المغادرين" ويذهب إلى المقر المذكور ليتقدم للوظيفة وهو يظن أنها تخص شركة طيران وسياحة، ولكنه يتفاجأ بأن الوظيفة تختص بإعداد الميت للكفن وهو تقليد ياباني قديم يقوم العامل فيه بغسل الميت وتطييبه وتجميله استعداداً لانتقاله إلى الحياة الأخرى. عندما تعرف زوجته طبيعة عمله تنقده وتنهره لأنها تريد له أن يعمل في وظيفة طبيعية، فيرد عليها "ولكن الموت طبيعي! كلنا سنموت وهذا طبيعي!". ولكنها لا تتصالح مع هذه الفكرة إلا حين تراه وهو يكفن جارتهم وصديقتهم وترى مدى الطمأنينة التي اجتاحت نفوسهم بفعل هذه الطقوس.

الموت هو دائماً الشخص الآخر بالنسبة لنا، هو مأساة الأحياء أكثر مما هو مأساة الميت، هو التأمل في طبيعة الناجين والباقين والمرابطين. لربما كانت الهاوية صعوداً إلى النور، وكانت الحفرة رحلة نحو الخلاص، والوادي طريق ممهد باتجاه الوطن السرمدي. ولأننا أتينا إلى هذه الأرض كزوار ولاجئين فحسب، فنحن نشعر بالتوق إلى شيء مجهول، ونحن نشيخ في لحظات سريعة لنشعر بأرواحنا مكهلة ومتعبة. فكل هذه المآسي التي نشهدها كل يوم تجعلنا نتساءل عن طبيعة النفس البشرية، أهي خيّرة أو شريرة، أم أنهما متطابقان والشيء ذاته؟ وهذا العالم الذي يبحث عن سبب للعراك والحروب، أهو نفسه العالم الذي من المفترض بنا كبشر أن نعمره؟ لم إذاً يقول العلم أنه لو اختفى الإنسان من على وجه الأرض فستزدهر الحياة فيها، في حين أن قرآننا يقول بأننا خلفاء الله في الأرض؟ إذن وجب علينا الإعتذار وطلب المغفرة والصفح لأننا فشلنا في مهمتنا. عندما نفجع بفقد من نحب، ليترك من بعده جرحا غائرا في الروح، ندرك حينها هذا الفشل. ولربما لا نصل إلى خلاصنا الروحي إلا حين نعترف بهذه الحقيقة المعتمة.

تقول بثينة العيسى في روايتها "عائشة تنزل إلى العالم السفلي": "الموت واضح، الحياة ملتبسة. الموت بسيط، الحياة معقدة. الموت عالم غريب يفتن الصغار، والحياة عالم مخيف يرعب الكبار." ولربما كان الأمر هكذا حقاً، فغربة هذه الحياة تجعلنا نتوق إلى الخلاص والراحة الأبدية، ولربما كان الموت هو السبيل نحو ذلك، هو بوابة الحياة الأخرى.

إلى روح جدتي، من كانت تنظر إلينا بعين حنونة، لا تنفك توصينا بالتعامل الحسن مع الناس وبعدم قطع الصلة، من اهتمت بتعليم أبنائها وبناتها رغم أنها لم تتعلم، رأينا الصغير والكبير يبكون فراقها، ممن نعرف وممن لا نعرف، وكان ذلك دليلا على محبتها في قلوب الناس. كوني في سلام.
______________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية العُمانية بتاريخ 27 يناير، 2014

http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/86394---

وجريدة آراء الإلكترونية:
http://www.araa.com/opinion/20617

الأحد، 12 يناير 2014

اخدمن غرابتكن




"من المتوقع من كل إمرأة أن تحظى بـ: عيون قوقازية زرقاء، شفاه اسبانية ممتلئة، أنف كلاسيكي رشيق، بشرة آسيوية بلا شعر وملفحة بشمس كاليفورنيا، أرجل سويدية طويلة، أقدام يابانية صغيرة، وركي صبي في التاسعة من عمره، ذراع ميشيل أوباما، وأثداء دمية. لهذا تعاني النساء." – تينا في، ممثلة وكوميدية أمريكية.

دعوني أضيف رغبة في تحوير الإقتباس أعلاه –والذي لم أدرجه كاملاً لأسباب تتعلق بالرقابة الذاتية– ليناسب مجتمعاتنا: ضحكة رقيقة، عطسة خافتة، لا تركض، تطبخ باحترافية، الصمت في حضرة الرجال، ربة بيت إمتيازية، تغني بصوت ناعم ولكن لا تستمع إلى الأغاني، تعمل في سلك التدريس أو ممرضة في أقسام النساء.

تحكي الكاتبة النيجيرية تشيماماندا آديتشي، صاحبة رواية "نصف شمس صفراء"، في حديث لها عبر "تيد" عن حادثة حدثت لها وهي في الإبتدائية. تقول أن المعلمة أخبرتهم أن من يحصل على أعلى درجة في الإمتحان سيصبح مراقب الصف، وكان مراقب الصف في نظرها آنذاك شيئاً مهماً للغاية، فهو يستطيع كتابة أسماء الطلبة المشاغبين، وذلك بحد ذاته سلطة رائعة! كما أن المعلمة ستعطي مراقب الصف عصا ليمشي بها ويتحكم بزملائه، ثم تستدرك وتقول "بالطبع لن يُسمح لمراقب الصف باستعمال العصا"، ولكنه كان شيئاً مثيراً بالنسبة لآديتشي صاحبة التاسعة من عمرها. وبالطبع، حصلت على النتيجة الأعلى في الإمتحان، ولكن ويا لدهشتها فقد قررت المعلمة أن مراقب الصف يجب أن يكون صبياً لا فتاة. ولذا تم إعطاء لقب مراقب الصف إلى الصبي الذي حصل على ثاني أعلى درجة في الإمتحان. المثير في الموضوع أيضاً، حسب آديتشي، أن الصبي كان لطيفاً ووديعاً، ولم يبد أي رغبة بأن يكون مراقب الصف، في حين أنها كانت تحلم بأن تمنح هذه السلطة.

كم من القصص المتشابهة تحدث لدينا كل يوم؟ كم من فتاة صغيرة محبطة لأنها أرادت سعادة بسيطة وتافهة متمثلة في شيء يفعله الرجال ولكن يمنعها العيب؟ اعتبار أن الرجل هو المعيل والمرأة هي المربية، وأن كلا منهما يجب أن يحمل صفات معينة ومؤطرة حسب نظرة مجتمعهم، وأن هناك أعمال معينة تناسب النساء ولا تناسب الرجال والعكس، وإن خرجت المرأة لمزاولة أعمال الرجال فذلك فيه من ضياع الشرف والمروءة والحشمة، وإعتبار أن كل ذلك من مسلّمات المجتمع ولا نقاش فيه، فذلك يؤدي إلى إشكاليات عدة. تخيلوا مثلاً رجلا ولد بحس فني عال، مهتم منذ صغره بالفنون الجميلة والرسم التشكيلي، وعندما كبر رأى أن اهتمامه ذاك يمكن أن ينصب في الموضة، وذلك شيء رائع ففي الموضة يجتمع حبه للأزياء وحبه للرسم. سيقابل في مجتماعتنا بمزيج من السخرية والغضب وسيسمع تعليقات كثيرة من قبيل "صلبي عمرش" و"يالله إنتيه" وغيرهما. ستنكسر أحلامه وتقتل اهتماماته وسيدرس الهندسة ويصبح مهندس نفط كئيب يعمل خلف مكتب ومحاط بأوراق لا يرسم فيها وملفات بألوان أحادية. أو تخيلوا مثلاً أن بطل العالم في قيادة سيارات السباق لديه ابنة ورثت صفة حب السيارات من أبيها وأرادت السير في خطاه. ستتدرب كثيراً وتصبح بارعة ولكن حين تود المشاركة في أول سباق لها، سيقولون لها "قيادة سيارات السباق للرجال، احتفظي بها كهواية فقط وكوني فخورة بأبيكِ وتعلمي شيئا آخر. شيء آخر ينفعك ويدعم دورك الأنثوي في هذه الحياة." ولكنها ستبحث كثيراً، ستجرب التربية والتمريض والطبخ، وربما لن تجد هذا الشيء الآخر أبداً، وستعمل كمعلمة رياضة في مدرسة للأطفال ولن يحبها الأطفال لأنها محبطة ومتشائمة ولا تؤمن بالأحلام.

التاريخ مليء بنماذج لمجتمعات متفردة في تركيبتها المجتمعية، فمملكة داهومي، على سبيل المثال، كانت من أقوى الممالك في قارة إفريقيا من القرن السابع عشر إلى بدايات القرن العشرين، فقد كان إقتصادها منظماً وتجارتها رابحة ولها نظام ضرائب مميز، كما أن وحداتها العسكرية كانت أنثوية بالكامل. بدأ ذلك حين استعملوا النساء في المعارك لإيهام العدو أن عددهم كبير، ولكن النساء أبدين قوة وشجاعة لا مثيل لها حتى قرر الملك أن يجعلهن جنوداً وهكذا أصبح جيش مملكة داهومي مكوناً بالكامل من النساء. أما شعب مينانغكاباو المسلم والذي يعيش في جزيرة سومطرة في إندونيسيا فهو أيضاً يعتمد بشكل كبير على النساء. تقول قوانين القبيلة أن الإبنة ترث جميع ممتلكات أمها، وأن الأم هي أهم فرد في مجتمعهم. ويحق للنساء عزل زعيم القبيلة إن رأين أنه لا يؤدي دوره على الوجه المطلوب.

لستُ أدعو بكل تأكيد إلى المساواة التامة بين الرجل والمرأة، فأنا أدرك أن هناك فوارق بيولوجية حددها العلم، ولكني أدعو إلى تقبل واحتضان المختلف واللاسائد. نحن نتداول الإقتباسات حول أهمية أن نكون أنفسنا، أن لا نصبح نسخاً مكررة من الآخرين، نعجب بهذه الإقتباسات ونشاركها في مواقع التواصل الإجتماعي، ولكن ما إن نرى المختلف حتى نستنكره ونستهزأ به وربما نغضب. وإن كنا نحن المختلفين، فنحن نتعلم إخراس رغباتنا الخارجة عن الأطر الإجتماعية المعروفة، خوفاً من نظرة المجتمع، حتى يصبح التظاهر بالإنسجام سيدنا والأقنعة ملاذنا، حتى نتحول شيئاً فشيئا إلى خرزة صغيرة لا دور لها إطلاقاً وسيان وجودها من عدمه بين مئات الخرزات الأخرى في فستان سهرة.
___________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 13 يناير، 2014:

http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/84648--

الأحد، 5 يناير 2014

الباب المغلق بإحكام




يقول فرانز كافكا: "أظن أن علينا أن نقرأ الكتب التي تجرحنا وتطعننا. إن قرأنا كتاباً لا يوقظنا بضربة على رأسنا فلم نقرأ إذن؟ نحن بحاجة إلى الكتب التي تؤثر بنا ككارثة، تجعلنا نحزن بعمق، كموت شخص نحبه أكثر من أنفسنا، كنفي في غابة معزولة عن الجميع، كإنتحار. الكتب يجب أن تكون الفأس الذي نكسر به البحر المتجمد في دواخلنا."

لربما حقق هو ذلك عبر روايته "المسخ" والتي تحمل فاتحة هي من الأشهر في تاريخ الأدب: "استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم."، قد يبدو ذلك ككابوس مرعب بالنسبة لنا، وهو بالفعل كذلك، فأن تستيقظ وترى أنك تحولت إلى مسخ، هكذا بكل بساطة تنقلب حياتك رأساً على عقب، فذلك هو الرعب بعينه. ولكن الكتاب الذي وجدتني أتذكره حين قرأتُ هذا الإقتباس لا يحتوي على كائنات متحولة أو مسوخ، بل الرعب كامن في شخصياته الإنسانية بكامل إنسانيتها، هو مسرحية الباب للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني.

منذ الصغر يكبر الإنسان على مجموعة من المفاهيم والمبادئ والأفكار التي غرست فيه من أهله ومدرسته ومجتمعه، وهي تشكل قواعد أساسية ليمضي بها في هذه الحياة. منذ الطفولة نسأل الأسئلة فلا نتوقع إلا أجوبة مطلقة من ألسنة الحكماء والكبار. وبيقين الأطفال نؤمن أن هذا هو الطريق الذي يناسبنا وهو الطريق القويم. لذا حين نكبر نقمع تلك الأسئلة التي تنبش في حقيقة الأجوبة المطلقة، لأنها -أي الأجوبة- آتية من الحكماء الذين لا يمكن أن يخطئوا. ثم يحصل في بعض الأحيان، وقد لا يحصل هذا للبعض، أن يأتي الفأس الذي يكسر البحر المتجمد في دواخلنا حين نصادف موقفا ما، نشاهد شيئا ما، نقرأ كتابا ما، تتزعزع هذه الأفكار وتدحض، حينها فقط تبدأ رحلة البحث عن الحقيقة، والمطلق، والله، والخلاص، والوطن والذات. حينها فقط يدرك الإنسان على أي أرض يقف، وإلى أي سماء يطمح، وربما يدرك أن أرضه وسمائه غير ثابتة فيبحث عن الثبات. وربما يدرك أن الأجوبة ما عادت مطلقة، بل كل شيء هو إحتمال، والإحتمالات لا تحصى. ولربما لا يصادف الإنسان في حياته كلها أي موقف أو كتاب أو سؤال يهزه ويغير قناعاته، فذلك هو الإنسان المطمئن أبد الدهر، فهنيئاً له. (ولكن ماذا لو كان كل ما يؤمن به هو خطأ كبير؟)

يطرح غسان كنفاني عبر مسرحيته أسئلة أزلية: ما الغاية؟ ومن أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟ ومتى الخلاص؟ ولماذا؟ ذات الأسئلة التي تؤرق الإنسان منذ بداية الزمان. يطرحها عبر القصة الموجودة في الديانات السماوية عن ملك عاد وابنه شداد ومدينته إرم ذات العماد. ولكننا نقرأ رأي الطرف الآخر، رأي عاد وشداد وليس رأي الله: "ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد... الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب". فنرى عاد الذي أراد أن يبني الجنة في الأرض وابنه شداد الذي يتوق إلى الخلاص ويبحث أبداً عن الإجابة. نعيش مع أسئلتهم وهواجسهم حول الحياة والموت والله، وربما نتعاطف معهم رغم كبريائهم وتمردهم. هو درب التيه، وكل إنسان يمشي فيه وحيداً. فهل نستطيع حقاً الحكم على الباحث والمتسائل؟

ما الحياة إلا سؤال واحد كبير، يؤمن البعض بأنهم لقوا الإجابة ولكن لكل إنسان جوابه الخاص به، رحلته الخاصة، وما إن يتوصل إلى جواب سينام الليل بعين قريرة وقلب مطمئن. ولربما تختلف الإجابات باختلاف القلوب، لربما لهذا يقول الله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" ربما الهدف الأسمى هو التعارف وما البحث إلا وسيلة للتعارف. ولذا لا أجدني متصالحة مع فكرة اليقين أو أنها بالأحرى تربكني وأشعر إزاءها بالريبة، اليقين الآتي من كافة الأطراف والأيديولوجيات بشكل سواء؛ اليمينية أم اليسارية، المحافظة أم الليبرالية، الدينية أم اللادينية، وهكذا إلى آخر قائمة الثنائيات. ربما تحدث الحروب والمآسي حين يؤمن فرد أو جماعة أن جوابهم الذي توصلوا إليه هو الحقيقة المطلقة ولا حقيقة غيرها، فكل فرد منا يظن أن بإمكانه الوصول إلى الكمال الإنساني والمجتمعي إن طبق الجميع بفرض منه مجموعة من القواعد التي يؤمن بها هو، ولكم أن تتخيلوا مدى إختلاف هذه القواعد عن بعضها البعض ورغبة الجميع في فرضها على الآخرين. هنا تحدث الفوضى، ولفوضى وعبثية الحياة قصة أخرى.

إذن ما الحل؟ لستُ أدري، فأنا، كأنت، أبحث وأتوق.

___________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 06 يناير 2014:

http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/83658---

السبت، 4 يناير 2014

عن الثورة والحب... يوميات مهرجان دبي السينمائي*

الثلاثاء ١٠ ديسمبر، ٢٠١٣

وصلتُ صباح اليوم إلى دبي، هذه المدينة التي تسحرنا في كل مرة، وكأنها تنتمي إلى المستقبل. أو ربما نحن إلى الماضي. كانت السعادة تغمرني، فسأقضي أيامي المقبلة بين الأفلام العالمية وكتب الآيباد الإلكترونية - لا أتفق بالمناسبة مع البعض حين لا يرى الجمال إلا في الكتاب الورقي التقليدي، فلا أظن أن هناك أجمل من قدرتك على حمل عشرون كتاباً معك في كل مكان! لا أطمح إلى غير ذلك؛ كتب وأفلام وعزلة روحية وفكرية مؤقتة.
كان الصباح بمثابة الماراثون، فقد كان علي أن أستلم تذاكري للأفلام التي اشتريتها مقدماً عبر الانترنت، واستلام بطاقتي الصحفية من مهرجان دبي السينمائي الدولي، وتسجيل قدومي في الفندق الذي نزلت فيه، ثم حضوري لعرض أول فيلم من المهرجان الساعة الثانية عشر ظهراً.
اخترتُ مشاهدة فيلم "البشع" للمخرج الفرنسي إريك بودلير، فقد قرأتُ نبذة قصيرة عنه في موقع المهرجان ولفتتني جملة "يلتقيان ويتسائلان فيما لو كانوا قد التقيا من قبل." وفكرت "يبدو ذلك مثيراً، فيلم عن الذاكرة، إذاً لنشاهده!". لم أكن أعلم أني سأدخل نفسي في متاهة التجريبية، وكم كانت المتاهة موجعة وجميلة في آن. الفيلم إنتاج فرنسي ولبناني وياباني - ربما هذا بحد ذاته يعد عاملاً مشوقاً -  والحوار أيضاً من عدة لغات؛ العربية واليابانية والفرنسية والإنجليزية. نقرأ الترجمة تارة ثم لا نحتاجها بعد دقيقة. كانت البداية غامضة، صور من حارات بيروت الضيقة والفقيرة ورجل يسرد باليابانية عن بيروت الباكية. كان يصر على كونها باكية حتى في لحظات صمتها، ثم يسخر من مبالغته ويستدرك قائلاً "المدن لا تبكي بكل تأكيد، ولكن هذا هو إنطباعي عنها." عرفتُ في نهاية الفيلم وأثناء الجلسة النقاشية مع المخرج والممثلة الرئيسية أن هذا الرجل هو المخرج الياباني القدير ماساو آداتشي وسرده هذا هو في الأصل تسجيل لأجزاء من حواره مع المخرج إريك بودلير. يدمج الفيلم بين الطابع الوثائقي والروائي للأفلام، فهذا السرد على سبيل المثال هو وثائقي أكثر مما هو روائي، كما أن الممثلين في بعض المشاهد يتحدثون عن كونهم ممثلين في هذا الفيلم، أي أنهم لا يلعبون دور الممثل طوال الوقت. لهذا الغموض والغرائبية، بعض الحضور من الجمهور لم يستطيعوا الصبر وإكمال الفيلم الذي بدا وكأنه بلا حبكة فخرجوا من القاعة. بالنسبة لي، كنت مندهشة طوال مقدمة الفيلم لشاعرية السرد وجمالية الصورة، لم أهتم كثيراً بفهم ما يحدث ووضعه ضمن إطار زمني محدد وحبكة درامية واضحة. ذكرني النصف الأول من الفيلم بفيلم آخر أعتبره من روائع ما شاهدت وهو فيلم "هيروشيما محبوبتي" للمخرج الفرنسي آلان رينيه. مثل "هيروشيما محبوبتي" احتوى الفيلم على شخصيتين رئيسيتين، رجل وامرأة في علاقة حب، يتحدثون كثيراً عن الذاكرة، والنسيان، والحرب، والإرهاب، والهوية، والوطن. حتى أني تخيلت أن الممثلة الرئيسية في "البشع" جولييت ناڤيس ستقول في أي لحظة: "اسمي بيروت" مثلما قال الممثل الرئيسي في "هيروشيما محبوبتي": "اسمي هيروشيما". حين ذكرتُ ذلك في نهاية الفيلم أثناء الجلسة النقاشية صرح المخرج أن فيلم آلان رينيه مؤثر كبير، حتى أنه أثناء تصوير الفيلم كان يُخبر الممثلين بأن يرتجلوا بطريقة مشابهة لفيلم آلان رينيه.
صور متفرقة من نواحي بيروت، وعلاقة حب تجمعها الذاكرة والوطن، وجدلية الثورة بتناقضاتها المختلفة، هذه بعض عوامل الفيلم التجريبي "البشع"، والذي كان لي حظ متابعته ضمن جدول مهرجان دبي السينمائي.


*كان من المفترض أن أكتب يوميات المهرجان طوال فترة وجودي هناك، ولكني ما كتبت سوى هذه المقالة الفقيرة، إنه الكسل يا سادة!