الاثنين، 24 مارس 2014

عن الإنسان الذي صال تيها وعربد


قد أتفهّم ألا يقبل الأب أن تتزوج ابنته العربية من رجل أمريكي الجنسية، للاختلاف الكبير في القيم والعادات. قد أتفهم ألا تقبل الأم أن يتزوج ولدها من امرأة مسيحية الديانة لخوفها من أن يتأثر الأحفاد. قد أتفهم أن يغضب كبير العائلة لزواج حفيدته من رجل غير عربي وسفرها معه إلى بلاده، ولكن ما لا أتفهمه ولن أتقبّله ما حييت هو عدم تقبل العائلة زواج اثنين لمجرد عدم تناسب القبائل.

تواجد مفهوم القبيلة في القرون الماضية في كافة أنحاء العالم شرقاً وغرباً، من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية إلى القبائل الجرمانية في أوروبا إلى غيرها من التجمعات السكنية. وقد أتى مفهوم القبيلة عند العرب حين كانوا يعيشون في الصحارى القاحلة، فكونوا جماعات سميت غالباً على اسم المنطقة التي استقروا فيها. في ذلك الزمن كان الفرد يعيش حسب قوانين القبيلة، فإن خرج عنها تمّ نفيه وطرده. وهكذا تشكلت جماعة الصعاليك وهم ينتمون لقبائل مختلفة ممن رفضوا سلطة القبيلة فطردوا عنها وامتهنوا غزو القبائل. قد أتفهم في ذلك الزمن عدم رغبة الفرد في الخروج من حماية القبيلة بسبب طبيعة الصحراء التي تجعل من الصعب على الفرد أن يعيش وحيداً، وقد أتفهم افتخار الفرد بقبيلته بسبب كثرة الحروب بين القبائل وضرورة حس الانتماء الذي يجعل الفرد يدافع بشراسة عن قبيلته. ولكن الآن في هذا الزمن وبعد نشوء مفهوم الدولة ومفاهيم العولمة والمواطنة العالمية، أصبح من الصعوبة بمكان أن يتعصب الفرد لقبيلته ولنسبه، ناهيك عن كون ذلك مرادفًا لمفهوم العنصرية في زماننا.

لنسرد سيناريو يتكرر كثيراً في مجتمعاتنا؛ رغب محمد في الزواج بشريفة، زميلته في العمل، تقدم لخطبتها وبدا أن أهلها أحبوا أخلاقه وطموحاته والتمسوا فيه خيراً، فوافقوا على الزواج وباركوا لهما. تمّ تحديد المهر وموعد عقد القران وكل الأمور بدت أنها تمشي في الاتجاه السليم، إلى أن قرر أبو محمد أن يسأل قليلاً عن نسب شريفة، فذهب إلى شيخ طاعن في السن خبير بأمور القبيلة وأخبره باسم شريفة الكامل طالباً منه تبين حسبها ونسبها وأصل جدها الخامس عشر. طلب الشيخ أن يمهله بضعة أيام ليسأل ويتأكد من المعلومة المخيفة التي يعرفها في باطن ذاكرته، ثم رجع إليه بالخبر اليقين: عائلة شريفة ليس لها أصل معروف، قد يكونون من العرب، وقد لا يكونون، وهم منتسبين للقبيلة بالاسم فقط، وإنّ جدها الخامس عشر كان يعمل خادماً لدى القبيلة الفلانية، أو أنهم كانوا أسرى حرب وعوملوا معاملة العبيد. يحاول محمد إقناع أباه بأنّ ذلك من التاريخ العتيق وهو في حقيقة الأمر لا يهمه هذا الاختلاف كثيراً ولكن يرفض الأب رفضاً قاطعاً، وإلا ماذا سيقول النّاس؟ أني زوّجت ولدي بمن ليس لها أصل وأنا ابن القبيلة والحسب والنسب؟ تنتهي هذه القصة بنهاية معروفة ومتوقعة، رمى محمد آماله في الزواج بشريفة، مثلما ترمى الأحلام غير الواقعية في مكب الذاكرة، وتزوج ابنة خالته سارة وهو ربما سعيد في حياته بينما شريفة لا تزال ترفض كل من يتقدّم لها آملة في مستقبل يحقق آمالها.

دعوني أفكر بصوتٍ عالٍ حول أسوأ الاحتمالات التي قد تحدث إن رفض محمد قرار أبيه وتزوج شريفة. ستمر سنة زواجهم الأولى بصعوبة محتملة، كون الأب غير راضٍ وعائلته حانقة على هذا الزواج. سيعاملون شريفة بدونية وربما يتحدثون أمامها عن أصلها بشيء من اللؤم والتشفي. سيذكرونها في كل مناسبة بأن محمدا يستطيع الزواج بمن هي أحسن منها، وربما يذكرونها أيضاً بمساوئها الأخرى من قبيل أن طبق الأرز البرياني –الهندي الأصل– الذي تطبخه سارة ابنة خالة محمد ألذ بكثير من طبق شريفة. هناك احتمالان بعد هذه السنة الأولى للزوجين الحديثين، أن تمل شريفة من هذا الوضع البائس وتطلب الطلاق ليذهب كل منهما في طريقه، أو أن تصر على تحمل هذه التعليقات وتعمل على إنجاح زواجها رغماً عن الصعوبات. لاحظوا معي في كل الأحوال أن حقيقة أن عمل جدها الخامس عشر كخادم لم تؤثر بشكل مباشر على زواجها، لم تحدث أيّ حرب نتيجة شعور الجد بالإهانة بين قبيلة محمد وعائلة شريفة كحرب داحس والغبراء، لم تطالب عائلة محمد باستملاك شريفة نتيجة زواجها وتغيير قبيلتها، لم يحدث أيّ من ذلك، هي حرة وتعمل باستقلالية وأولادها أحرار ويدرسون ويعملون ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي. تكمن الصعوبة الحقيقية في ضغوطات المجتمع من حولهما، المجتمع الحاضر في هذا الزمن وليس الأجداد والأسلاف القدماء. بعد هذا السيناريو الوهمي، دعوني أحلم وأقول ماذا لو لم يحدث ذلك كله؟ لو لم تضطر شريفة لسماع هذه التعليقات التهكمية واللاذعة حول أصلها؟ لعاشت هي ومحمد في أغلب الأحوال بسلام ومودة.

حسب نظرتي المثالية نحو هذا العالم، أرى الإنسان كإنسان فحسب، بطموحات وآمال وأفكار وعواطف، وليس ببلده أو بأصله أو بجنسه أو بثروته الموروثة أو بكل ما لم يختره بنفسه. الإنسان محصلة اختياراته الشخصية، وكل ما عدا ذلك هو من حكمة الله وليس لنا يد فيه. لنذكر أنفسنا بأننا خلقنا من طين، وأن أبانا آدم وأمنا حواء، وكلنا في الحقيقة نعود إلى أصل واحد، لنذكر أنفسنا بقصيدة إيليا أبو ماضي "الطين" والتي يقول في مطلعها: نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيهاً وعربد. ربما – وهذه محض أمنية مثالية أيضاً ولكن لنحلم–، ربما سيصبح العالم أفضل إن سعى كل منّا إلى الابتعاد عن هذه العنصرية المقيتة وهذا التعصب الأعمى.

____________________________
نُشر  المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 24 مارس، 2014:

الأحد، 16 مارس 2014

السيكولوجية من وراء "فعل القتل" والاعتزاز به


كيف نفهم سيكولوجية القاتل الفخور بفعلته؟ وهل التاريخ محايد أم أنه بالفعل يكتب من قبل المنتصرين؟ ما هو المنطق وكيف نفسر اختلافه الجذري بين فرد وآخر؟ إلى أي مدى تصل قسوة الإنسان وتبريره لقسوته هذه؟ ربما يستطيع أياً كان أن يبرر أي فعل لا إنساني بمنطق يجعل الجميع يتفق معه. كيف تتلاعب الحكومات والسلطات بأفكار الشعب وتجعلهم يؤمنون باللامنطقي واللاإنساني؟ كل هذه الأسئلة والأفكار كانت تتدفق في رأسي بشكل لا متناهي وأنا أشاهد الفيلم الوثائقي "فعل القتل" للمخرج جوشوا أوبنهايمر.

بدأت أحداث التطهير الشيوعي في إندونيسيا في أكتوبر عام 1965 بعد فشل انقلاب حركة 30 سبتمبر ويقدر أعداد المقتولين بخمسمئة ألف خلال أقل من عامين. تمخضت المنظمة شبه العسكرية "شباب بانكاسيلا" من هذه الإبادة الجماعية وإلى يومنا هذا لها أتباعها من الشعب والحكومة والذين يفاخرون بما حدث قبل حوالي خمسون عاماً. يقول قائد المنظمة في أحد الخطب الجماهيرية: "يقولون أن منظمة شباب بانكاسيلا هي منظمة عصابات، إن كانت كذلك فأنا أفخر بأني أكبر رجل عصابة". إذن لا محاكمات للقتلة، لا نصب تذكارية للموتى، لا اعتراف دولي بخطأ ما حدث، بل العكس من ذلك تماماً، هم يحكمون البلد ويعتبرون أنفسهم أبطالا قوميين. لا يتحدث فيلم "فعل القتل" عن هذه الأحداث التاريخية على وجه التحديد ولكنه ينقل لنا صورة ما حدث بطريقة مختلفة جداً عما اعتدنا عليه في الأفلام الوثائقية. التقى المخرج في عام 2005 بأنور كونغو، الأب الروحي لمنظمة شباب بانكاسيلا، والذي قتل بنفسه حوالي ألف من الشيوعيين، وأخبره أنه يريد تصوير فيلم عن هذا الحدث. يوافق أنور ومجموعة من أصدقاءه القتلة على تصوير فيلم يمثلون فيه كأبطال وكضحايا، ويكتبون نص السيناريو بأنفسهم، ويعيدون تصوير مشاهد قتلهم لضحاياهم. وبما أنهم شغوفون جداً ومتأثرون بالسينما الأمريكية الهوليوودية، فقد أرادوا تصوير مشاهد القتل هذه على أسلوب أفلامهم المفضلة؛ الويسترن ورعاة البقر، وأفلام العصابات، وأفلام الموسيقى الغنائية. ولكن ما لا يعرفوه وهم يصورون هذا الفيلم أن المخرج في الحقيقة يصور أيضاً انفعالاتهم وحواراتهم ويرصد أفكارهم ومشاعرهم، وأن الفيلم في الأصل يبحث في الأسباب الإنسانية والإجتماعية والسياسية التي تجعل من عملية الإبادة عملية مقبولة ومبررة، ويعطينا القدرة على استيعاب كيفية عمل عقول القتلة.


في أحد مشاهد الفيلم، يقوم هؤلاء القتلة بإعادة تصوير أحد طرق قتلهم لضحاياهم حيث يتم وضع الضحية ممدداً على الأرض – في هذه الحالة قاموا بوضع ما يبدو أنه كيس من الطحين – ويضعوا إحدى أرجل طاولة مربعة على رقبته، ثم يجلسون كلهم على الطاولة ويبدأون بالغناء إلى أن يموت. وفي مشهد آخر قاموا بإعادة تمثيل ما حدث لإحدى القرى الاندونيسية التي اغتصبوا نسائها وقتلوا رجالها وأطفالها. من فظاعة المشهد قامت إحدى البنات الصغيرات بالبكاء حين انتهى التصوير، فعاطفتها الإنسانية لم تتحمل الهلع رغم علمها بأن ذلك كله تمثيل. نهرها أباها – وهو مناصر للقتلة – وقال لها أنها تحرجه وهو يريدها أن تكون شجاعة وألا تبكي. يقول أنور كونغو: "لم كان علي قتلهم؟ كان علي فعل ذلك لأن ضميري أمرني بالقتل" ذلك المفهوم المسمى الضمير والذي نستعين به في العادة لإعلان الحواجز الأخلاقية كالعطف والرحمة التي تمنعنا من ارتكاب الأذى، هو نفسه المفهوم الذي استعان به أنور كونغو لتبرير فعل القتل الجماعي. في مشهد آخر نرى أنور كونغو المحب لأحفاده والعطوف بالحيوانات، فيجبر حفيده الذي كسر رجل بطة بالاعتذار لها وطلب المغفرة منها. ونرى طوال الفيلم أيضاً حبه للموسيقى والأفلام وتأثره بشكل خاص بمارلون براندو وآل باتشينو وأفلامهم. يحكي في مشهد آخر عن الرؤوس التي قطعها ولم يغلق أعينها، ويقول أن هذه الأعين التي لم يغلقها تطارده في منامه. إذاً نحن أمام إنسان حقيقي، لا شيطان أو وحش أو شخصية شريرة من فيلم أكشن، أنور كونغو إنسان حقيقي وعادي وطبيعي بجميع انفعالاته وعواطفه ومنطقه شئنا أم أبينا تصديق ذلك. وهذا ما يرعبنا ويزعجنا؛ القدرة المذهلة للإنسان الحقيقي على فعل الشر الخالص والتبرير له لنجد أنفسنا غير قادرين بعد ذلك على التعرف على ملامح وجهنا بقدر ما أصبحت مشوهة وأصبحنا نشك في وجودها وإنسانيتها.


لا يزال الخوف سيد الموقف إذ لا يجرؤ أحد على انتقاد ما حدث في تلك السنة حتى لا يصنف على أنه شيوعي ويحدث له ما حدث لهم. يحكي أحد طاقم الفيلم قصته في ما وراء الكواليس، كيف أنه حمل جثة زوج أمه الصيني الشيوعي بعدما قتلوه ورماه في النهر بمساعدة جده، ورغم أن ذلك حدث وهو ابن اثنتي عشرة عاماً إلا أنه يتذكر تلك الليلة بكل تفاصيلها. ثم تم نفي عائلات الشيوعيين إلى قرية مقفرة قريبة من الأدغال وهناك عاش بقية حياته. في نهاية سرده لقصته هذه، حرص على القول أنه لا ينتقد ما فعل هؤلاء القتلة الذين كانوا يستمعون إليه، هو فقط يريد إضافة قصته إلى الفيلم. ثم يخبرونه أنهم لا يستطيعون إضافة كل قصة يستمعون لها وإلا لما انتهى الفيلم، كما أن قصته معقدة جداً وستحتاج لأيام لتصويرها. ولكنهم لا يعلمون أن قصته أصبحت بالفعل جزءاً من الفيلم ورفضهم دليل عدم تقبلهم للقصة التي لا تناسب هواهم وحقيقتهم هم التي ينظرون إليها من زاوية أحادية. مع نهاية الفيلم نرى الأعداد الكبيرة من مجهولي الهوية – وهم على الأغلب من الجنسية الاندونيسية – الذين شاركوا في إنتاج الفيلم وفضلوا عدم الإفصاح عن أسمائهم.

في مقابل كل هذا الهول، يتخلل الفيلم باستمرار مشاهد طبيعية فائقة الجمال، والتي تجعل عواطف المشاهد في رحلة متقلبة بين الرعب والجمال، وكأنها تذكرنا بحنان الطبيعة في مقابل قسوة الإنسان. لم أستغرب حين عرفت في نهاية الفيلم أن المخرج الألماني القدير فيرنر هتزوج هو مدير الإنتاج، فلمسته كانت واضحة بشكل خاص في اللقطات الطبيعية وفي ثيمة الفيلم عن الشر الخالص.
"كان ذلك... جداً، جداً، جداً" لعل هذه الجملة التي قالها أنور كونغو تلخص مدى بشاعة ما حدث وهي في رأيي من أبلغ ما قيل في الفيلم كله، ألاّ يعرف كيف يصف هذا الهول سوى بكلمة "جداً" لأن كل الكلمات تبدو غير كافية للوصف. وأتسائل، مثلما أسأل القارئ: إن كنت في موضعهم، هل تثق بأنك لن تفعل ما فعلوا؟ إن أجبت بسرعة "نعم، أثق بأنه يستحيل علي القتل" أطلب منك عزيزي القارئ – بغير تحمل أي مسؤولية عن أي نوع من الأذى النفسي الذي قد ينتج إثر هذا القرار – أن تشاهد الفيلم، وربما ستفكر مرتين قبل هذه الإجابة السريعة.

_______________________
نُشر المقال في جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 16 مارس، 2014:

وجريدة الرؤية بتاريخ 17 مارس، 2014:

الاثنين، 10 مارس 2014

في رثاء الكلمات


حلمتُ قبل عدة أيام بأني أحاول تلمس رأس طفلة في الثالثة أو الرابعة من عمرها. كانت بلا رأس، وكنت مذعورة وأنا أحاول عبثاً إمساك رأسها. أظن ذلك هو الجدوى، وأخشى حقاً أنه - كرأس الطفلة - غير موجود.

ترجمتُ قصيدة أحبها لشاعرة أمريكية معاصرة اسمها آندريا جيبسن، تقول في أحد مقاطع القصيدة: "سمعت في الأمس قصة فتاة من العراق، في السادسة من عمرها، لا تستطيع النوم لأنها حين تفعل لا تحلم سوى باليوم الذي رأت فيه كلبها وهو ينهش جثة جارها. إن أخبرتها أن الحرب انتهت، أتظنها ستنام؟" أنهيتُ الترجمة وكنت سعيدة إلى حدٍ ما بها وأتطلع إلى نشرها، ولكن ظل سؤال واحد يؤرقني: ها أنتِ ترجمتِ هذه القصيدة التي تذم الحرب وآثارها على الجميع، ثم ماذا؟ هل سيقرأ هذه الترجمة مجرم حرب ويقرر فجأة التوقف؟ ثم ماذا؟ هل ستقرأ الطفلة العراقية هذه القصيدة ثم تنام مطمئنة وغير خائفة؟ وهكذا ظلت محاولة البحث عن فائدة ملموسة ويمكن قياسها من وراء الكلمات والقصائد والروايات. ولهذا السبب بالضبط لم ألتزم بكتابة المقالات بشكل أسبوعي. رغم أني تعللت بمختلف الانشغالات والارتباطات إلا أن السبب الجوهري والباطني هو هذا السؤال عن الجدوى. نحن نشهد المجازر من حولنا فلا نملك إلا استخدام القلم كأداة حرب بدلاً من إشهار السلاح، نرى الجوع والفقر في بطون الأطفال ثم نرسم هذه البطون بمبالغات وأحلام السريالية ونعلقها في منازلنا، نقرأ عن أرجل مبتورة وأعين فقئت ثم نطبع القصائد عن هذه الأرجل والأعين ونجعلها خلفية لهواتفنا أو لصفحاتنا في الفيسبوك، نحن نحول الدم إلى أحرف الكترونية على الآيباد، البندقية إلى فرشاة ألوان، ونظن بذلك كله أننا أدينا واجبنا الإنساني بإظهار التعاطف والتآزر والدعم عبر هذه القصائد واللوحات، ولكن الحقيقة -الظاهرية على الأقل- تقول أن الأوضاع لا زالت كما هي ولم تتغير. أليست المثل العليا المتمثلة في الآداب والفنون والمعرفة والحضارة كلها تبدو تافهة مقارنة بهذه المآسي العالمية؟

هناك حكاية رمزية عن رجل في غابة، صادف أسدا فبدأ يجري هربا منه. وقع وهو يجري في بئر وتشبث بحبل، وفي قاع البئر كانت أفعى تنتظره. إن هو وقع التهمته الأفعى، وإن تسلق الحبل افترسه الأسد. وفوق هذه المأساة كان هناك فأران أحدهما أبيض والثاني أسود يقضمان الحبل الذي كان يتشبث به. إذاً هو هالكٌ لا محالة، ومع ذلك لمح شيئاً لزجاً على الحبل وحين ذاقه تبين أنه عسل، فالتهى عن الفأران والأفعى والأسد وأخذ يلعق العسل. لشرح الرمزية، فالأسد هو الموت والأفعى عذاب ما بعد الموت، والفأران هما الليل والنهار يقضمان من أعمارنا، في حين أن الحبل هو الحياة والعسل ملذاته. فمن ناحية أخرى، تعتبر كل هذه المكملات الحضارية من جماليات وملهيات الحياة، وهناك دوماً الأسد الذي ينتظر والذي يفتك بالجميع من غير استثناء.

إن كان غسان كنفاني نفسه، شهيد القضية الفلسطينية والذي أرعب السلطات الاسرائيلية بقلمه حتى اغتالوه، قال: "كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه عن غياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون من أجل شيء أحترمه"، فما عسانا نقول نحن؟ تكمن المأساة الحقيقية في أننا لا نعرف غير الكلمات، وفي أننا لا نحب السلاح. إذنً كلماتنا تعويض صفيق وتافه عمّاذا تحديداً؟ لا أعلم في حقيقة الأمر بديلاً عن السلاح. وها أنا أناقض كل ما كتبته عبر نشر هذا المقال الذي أعتبره أقرب إلى البوح من كونه ذا نفع. وسأستمر في الكتابة لا لشيء سوى لأجل الوصول، إلى أين تحديداً؟ لا أعلم ولكنه مكان مقدس، فليس لنا من خلاص آخر ولا لنا سلطة إلا على الحروف.

__________________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 10 مارس 2014
http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/91608

وفي جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 11 مارس 2014
http://www.araa.com/opinion/22038