الاثنين، 12 مايو 2014

المبصرون العميان... وكوابيس أخرى


يقول نيكوس كزانتزاكيس في سيرته الذاتية الفكرية "تقرير إلى جريكو": "كانت الخطوة الأولى في الاستهلال -كما قلت لنفسي- هي: الخير والشر عدّوان. الدرجة الثانية والأعلى هي: الخير والشر زميلا عمل. الخطوة الأعلى وأعلى خطوة أستطيع الوصول إليها الآن هي: الخير والشر متطابقان (هما الشيء ذاته)". قد لا يتفق الأعم الأغلب مع هذا الاقتباس، وسيحاولون دحضه بكافة الوسائل المعرفية والشواهد التاريخية، بيد أنني لم أكتب هذا المقال لتأييده أو لدعمه، بل إنني أكتبه بروح متسائلة ومتشككة وبأسئلة وعلامات استفهام أكثر من أجوبة ونقاط مفصلية. سأجمع بعض المشاهدات السينمائية والقراءات الأدبية حول طبيعة الشر في النفس البشرية، من غير تحليل عميق ولكن بطريقة السرد والموازنة.

أنهيتُ قبل قليل قراءة رواية "العمى" للكاتب البرتغالي خوزيه ساراماجو، وبقدر ما جذبتني وأبهرتني بقدر ما أرعبتني وجعلتني أحملق مدهوشة في خيالات وأفكار وكوابيس الكاتب. تتحدث الرواية عن وباء تفشى في مدينة ما، وهو داء العمى الأبيض؛ إذ بدأ الأمر مع رجل كان واقفاً في إشارات المرور الحمراء، وفجأة فقد قدرته على الرؤية، وبعكس ما نتخيل العمى المظلم والأسود كان هذا العمى أبيضاً. يتفشى الداء بالملامسة البصرية فقط؛ فكل من قابلت عيناه عينا الأعمى يصاب بالعمى بدوره. حاولت الحكومة في البدء التحكم بالوباء وحبست كل من أصيب به في مشفى للأمراض العقلية ومنعت كل وسيلة للتواصل معهم، وأصدرت بعض القوانين على العميان من قبيل أن مغادرة المبنى تعني الموت الفوري وفي حالات الوفاة يجب على المرضى دفن الجثث في الفناء وعدم الاعتماد على أي تدخل خارجي في حال حدوث أية اعتداءات. صوّرت الرواية حالة هؤلاء العميان في المحجر وكفاحهم للبقاء وتشكّل العصابات والدكتاتورية العمياء. ولكن لم تنجح هذه الطريقة، وتفشى العمى في أرجاء المدينة كلها، وتفسخت الحكومة إذ لا طائل من عميان يحكمون عميان فكلهم في الفراغ والبياض سواء. أن تفقد البشرية جمعاء حاسة من حواسها؛ فذلك يُرجعها إلى البدائية والحيوانية، أن يكون الهدف للإنسان في ظل هذه الظروف هو البقاء والطعام فحسب، فإنه يفقد كل مظاهر الأقنعة والمجاملات والحضارة وتظهر طبيعته الحقة. لربما نحن على لسان زوجة الطبيب في الرواية: "بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون". لربما العمى موجود منذ الأزلية، وكل ما رافقه في الرواية من أحداث تنم عن الخوف والازدراء والأنانية والطمع وحب السلطة والديكتاتورية والقتل والسرقة واستغلال الضعيف والجشع، موجود كذلك منذ الأزلية إلا أن داء العمى زاده وضوحاً فحسب. إن كنا نحب التقسيمات المطلقة، فذلك خير وهذا شر، فهل نحن واثقون تماماً من الجانب الخيّر فينا حين لا يرانا الآخرون؟

أتذكر أيضاً مشهد سرده الكاتب السوري دارا عبدالله في كتابه "الوحدة تدلل ضحاياها"؛ حيث قدم سجينًا اسمه "أبو سمير" إلى السجن، وقد كان مقاتلاً في الجيش الحر. استقبله السجناء بكثير من الترحيب والتهليل وعومل معاملة الأبطال، إلا أنه كان مصاباً بطعنة في قدمه ولم يقدم له العلاج، ومع مرور الأيام التهب الجرح وتعفن، وأصبح يصدر روائح كريهة ضايقت السجناء من حوله، شيئاً فشيئًا أصبحوا ينفرون منه، وانعدم التعاطف وأصبح التأفف والتذمر معلناً؛ حين مات بفعل الجرح "حزن البعض، صمت البعض، وفرح البعض الآخر، وكان من بين المسرورين أشخاص رحبوا به في البداية. عندما نقلوا جثته كان بعض السجناء يقومون بالدعس على الديدان التي كانت تسقط من جسده". مهما كنا نقدر ونبجل شيئاً ما أو شخصاً ما، فحالما يتعدى هذا على مساحة راحتنا الخاصة إلى أن يظهر الشر الكامن فينا، ولعله مثال ينطبق على الجميع ولكن بدرجات متفاوتة، ولعله لا يظهر إلا في الأوقات الصعبة حيث تكشف الوجوه الحقيقية من غير قناع المجاملات.

وفي الفيلم الإسباني "فيريديانا" للمخرج السريالي لويس بونويل، تقوم البطلة الرئيسية بإيواء مجموعة من المتسولين في منزلها الكبير، بدافع الرحمة والعطف ولأنها متدينة وتريد بذلك رضا الرب واستغلال ثروتها فيما هو خير. حالما تخرج البطلة في مهمة طويلة إلى المدينة وتدع المنزل في أيدي المتسولين حتى يستغلوا هذه الفرصة ويقيموا مأدبة عشاء فيها سكروا وتقاتلوا وتضاجعوا ورقصوا وأحدثوا الكثير من الفوضى. يسخر بونويل في هذا الفيلم من الكثير من مظاهر وقيم التعفف والحضارة، فحالما ترى السيدة ما حدث لمنزلها حتى تقرر التخلي عن طيبتها وتطردهم جميعاً. في مشهد الفوضى داخل المنزل، يقرر المتسولون أخذ صورة لهم وهم على طاولة العشاء، ويجلسون في نفس وضعية الجالسين في لوحة "العشاء الأخير" للفنان الكبير ليوناردو دا فينشي، والمفارقة واضحة هنا ما بين الدلالة الدينية والأخلاقية للوحة ووضعية المتسولين المثيرة للضحك والسخرية. في مشهد آخر ينقذ رجل كلباً كان مربوطاً بعربة يجرها حصان، ويظن بذلك أنه فعل خيراً، وفي اللحظة ذاتها تمر عربة أخرى مربوط بها كلب آخر ولا يراه الرجل. كل هذه الأحداث جعلتني أتساءل مع نهاية الفيلم عن الخير والشر، هذين المفهومين المتطابقين حسب فلسفة كزانتزاكيس، وفيما لو كان الإنسان خيِّراً بطبعه أم شريراً بطبعه، أم أنه يحمل في داخله هاتين القوتين بشكل مركب ومتقاطع، ولعلي أرجح هذا الخيار الأخير إذ يبدو لي أقرب للحقيقة.

... أنهي هذا المقال -الذي هو أقرب إلى لوحة من الفسيفساء بجزيئات ملونة ومختلفة، ولكنها تشكل جميعها صورة واحدة عن موضوع واحد جوهري- باقتباس أخير من الفيلم الوثائقي القصير "ليل وضباب" للمخرج الفرنسي آلان رينيه. يتحدث الفيلم عن أحد معسكرات النازية في بولندا بكثير من التفصيل عن الأحداث المروعة التي شهدته، ويعتبر من أهم الأفلام العالمية التي تناولت موضوع الهولوكوست. يُنهيه الراوي بتساؤل وتحذير للبشرية جمعاء: "من منا يسهر من على برج المراقبة الغريب هذا ليحذرنا من قدوم جلادينا الجدد؟ هل وجوههم مختلفة عنا حقاً؟ نحن نحدق في هذا الحطام الآن وكأن المسخ القديم مسحوق للأبد تحت هذه الأنقاض، نحن نتظاهر بالأمل وكأن الصورة من الماضي تلاشت، وكأننا شفينا إلى الأبد من كارثة المخيمات العسكرية. نحن نتظاهر أن كل ذلك حدث مرة واحدة فقط، في زمان ومكان محددين. نحن نغض الطرف عما يحدث حولنا، ونصم آذاننا عن الصرخة الإنسانية اللامنتهية". بطريقة ما، هو يحذرنا كي لا نصبح المبصرين العميان، كرمزية رواية ساراماجو، وكخذلان رفاق أبو سمير، وكسخرية بونويل.

________________
نُشر المقال يوم 12 مايو، 2014 في جريدة الرؤية:
http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/99465----

وجريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 13 مايو، 2014:
http://www.araa.com/opinion/24121

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق