الاثنين، 25 نوفمبر 2013

في معنى الخوف... (شيءٌ من السينما والأدب والموسيقى)

في اجتماع حواري مع مجموعة من الأقرباء ناقشنا معنى الخوف بشكل شخصي لكل واحد منا. اختلفت آراؤنا وتوجهاتنا، فمنا من رأى الخوف في حشرة أو قطة صغيرة تقتحم غرفته وتتعدى على خصوصيته، ومنا من رأى الخوف في المرتفعات والأماكن المغلقة كالمصاعد وغيرها، وغيرنا فسر معنى الخوف من الناحية العلمية رابطاً هذا الشعور بخلايا دماغية. حين جاء دوري لأتحدث، قلتُ في البدء "ولكني لا أخاف من شيء." ووضحت أن المخاوف الطبيعية لكل إنسان مثل المرتفعات والحشرات والظلام وظواهر ما وراء الطبيعة وغيرها لا تنطبق علي ولا ترعبني، ثم سكت وأكمل البعض حديثهم. في نهاية الجلسة أدركتُ شيئاً صعقني، مخاوفي وهواجسي كلها آتية من مجموعة من الإقتباسات والصور! حين بدأتُ أعددهم، الواحد منهم تلو الآخر، التمعت عيناي رعباً وبدأتُ أرتجف. ضحكوا علي بالطبع لغرابة مخاوفي وضحكتُ معهم ولكن لا تزال هذه الفكرة مستحوذة علي لذا سأسردها علّ سردي يريحني رغم أنني سأشعر بعدها بأنني مكشوفة ومجردة.

حول المرايا والأقنعة والجنون
ألا تلاحظون معي أن الجنون مرتبط دوماً بالأقنعة؟! ففي قصة "كيف صرتُ مجنوناً" من كتاب جبران خليل جبران "المجنون" تُسرق أقنعة الراوي السبع في إحدى الليالي فيركض بين الناس وهو يلعن اللصوص الذين سرقوا أقنعته، فيضحكون عليه ويتهمونه بالجنون إلى أن يرفع وجهه العاري لأول مرة باتجاه الشمس فيدرك كم هي جميلة وأنه لم يعد بحاجة إلى أقنعته ويبارك اللصوص، ومن يومها وهو يُلقب بالمجنون. يطرح إميل سيوران نفس الفكرة في كتابه "المياه كلها بلون الغرق" ويقول: "نحن نحتمي بوجوهنا لكن المجنون يفضحه وجهه، إنه يمنح نفسه، يسبق الآخرين إلى اتهامه، لقد أضاع قناعه لذلك فهو ينشر حيرته، يفرضها على أول عابر، يفضح أسراره."

إذاً إن تخلينا عن أقنعتنا سنصبح مجانين؟ نحن بين شرين؛ الزيف والجنون، أيهما أهون وأيهما سنختار؟! أن نلبس قناع الاهتمام والمجاملة في الأوساط والمحافل الإجتماعية ونبتسم ونحن في دواخلنا نرى تفاهة وعدم جدوى هذه التجمعات؟ أن نغير في لبسنا واختيارنا لقطع ثيابنا مع تغير إسم البلد التي تطأها أقدامنا إرضاءاً لمجتمعنا؟ أن نكذب على أنفسنا حتى ننسى بأننا نكذب ويتداخل ويتمازج الكذب والزيف مع وجوهنا حتى نظن أنها نحن. لربما نحن نفعل ذلك لأن فكرة أن يرانا الآخر كما نحن تفزعنا، لأن أرواحنا وأفكارنا معقدة لذا من الأسهل ألا تظهر للناس، لأننا لا نحب دواخلنا وننتقدها، نريدها أجمل وأكمل فنسدل عليها ستاراً من المثاليات لتبدو كذلك، لأننا لا نطيق علامات الإستفهام على وجوه الناس الطالبة للإجابات والتوضيحات.

ولكن إل تورينو، إحدى شخصيات كتاب "كلمات متجولة" لإدواردو جاليانو إختار أن يواجه هذا العدو فهو دائماً يسير في البلدة حاملاً مرآة في يده وينظر إلى نفسه بجبين مقطب، وحين يسألونه الناس عما يفعل يقول "أنا هنا، أراقب الأعداء" فيصفونه بالجنون. أما شخصية المممثلة السويدية ليڤ أولمان، ممثلة المسرح إليزابيت ڤوجلر فقد إختارت الصمت بديلاً عن الكذب في الفيلم الأشهر لإنجمار برجمان "القناع" فتصارحها الطبيبة التي لم تستطع تشخيص أي مرض عضوي ليفسر صمتها المفاجئ وتقول في مونولوج مطول: "حسناً، أنا أتفهم، ذلك الحلم البعيد المنال حول أن تكوني، لا أن تترائي. تلك الفجوة بين من تكونين حين تصبحين مع الناس ومن تكونين حين تصبحين وحيدة. الإنتحار؟ لا، فذلك مبتذل وسوقي. ولكن بإمكانك أن ترفضي التحرك وترفضي التحدث، حتى لا تضطري إلى الكذب. بإمكانك أن تغلقي على ذاتك فلا يتوجب عليكِ أن تلعبي أي دور." ثم تكمل حديثها إلى أن تصل إلى نقطة مفزعة أخرى وتقول: "بإمكانك أن تستمري في لعبة الصمت هذه، إلا أن تملي من هذا الدور فتتركينه كما تركتِ أدوارك واحدة بعد الأخرى." وتنظر إليها إليزابيت طوال حديثها بنظرة ساهمة وعينين حزينتين وخائفتين.

يبدو أن الحلول المعتدلة تنقصنا فتأكلنا الحيرة ولا نملك سوى محاولة أن نصبح أصيلين، حقيقيين. لربما لو ظهر كلٌ منا بلا قناعه الذي يحتمي به لما كوّنا أية صداقات أو علاقات حب أو عائلات، وذلك هو الرعب بعينه. ولكن ذلك لن يحدث، فهيا نعزي أنفسنا بأن جميع سكان العالم تقريباً يعانون من المشكلة ذاتها.

حول الجدران
"لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟!" السؤال الذي صعق سائق الشاحنة في الرواية القصيرة لغسان كنفاني "رجال في الشمس" وطاردني لسنين طويلة مذ قرأتُ الرواية. إجابة هذا السؤال البسيط في شكليته وفي معناه ليست بتلك البساطة، فنحن نعترف ضمنياً بضعف الإنسان، بفقدانه للأمل، باستسلامه للقدر، بتخليه عن أحلامه، حيث الحلم البسيط يكمن في سقف وزوجة وقليل من المال لقضاء حاجيات الإنسان اليومية، حيث تحقيق الحلم سيكون في أرض خصبة وثرية وغير محتلة كفلسطين. ذلك السؤال هو صرخة رجل واحد مندداً بالقيادات العربية وبالشعب المهزوم وبالخليج الغني والعاجز.

ذلك هو الجدار المرعبُ الأول، فأما الثاني فمن القصة القصيرة "ورق الحائط الأصفر" لشارلوت بيركينس غيلمان والتي تحكي قصة إمرأة تم تشخيصها بالكآبة الحادة وكان علاجها في ذلك الزمن هو عزلها عن الناس في قصر ريفي وإصرار زوجها ألا تعمل وألا ترهق نفسها. المرأة الراوية، بخيالاتها الجامحة وتمردها الكامن، ترفض هذا العلاج وتبدأ في تأمل ورق الحائط الأصفر في غرفة النوم وسرعان ما يتضح لها أن هناك إمرأة خلف ذلك الورق وذلك الجدار تحاول الخروج والتحرر. في المشهد الأخير للقصة تقتنع الراوية أن عليها مساعدة تلك المرأة الحبيسة خلف الجدران فتبدأ في إزالة ورق الحائط إلى أن تتحرر المرأة وتبدأ تزحف على الأرض بظهر محودب وتتحد كلياً مع الراوية ليصبحا في جسد واحد وليكتشف القارئ أن الراوية ما حررت إلا نفسها. تقول الراوية قرب نهاية القصة: "لا أحب التأمل من النافذة، فأنا أرى هؤلاء النسوة الزاحفات، وهن يزحفن بسرعة شديدة. أتسائل إن خرجن كلهن من ورق الحائط ذاك مثلما فعلت أنا."

هذه القصة - والتي أتذكرها دوماً بشيء من الفزع لسبب لا أفهمه - تذكرني بأخرى مشابهة لها. يحكي فيلم "من خلال الزجاج المعتم" لإنجمار برجمان عن إمرأة إسمها كارين تعاني من الشيزوفرينيا ترخّص من المستشفى لتقضي إجازة الصيف مع عائلتها في جزيرة منعزلة. تنتظر كارين في الليالي المعتمة في علية منزلها خروج الرب من بين الجدران، فهي تؤمن بأنها ستراه وستحدثه وإيمانها ذاك يقودها إلى الجنون شيئاً فشيئاً. فكرة أن نرى الرب - كم هي مشوقة! فخيالات الإنسان المحدودة جداً لا تستطيع فهم هذه القوة العظمى وهذا السبب الكوني الأكبر. لذلك يقودنا الإيمان إلى التسليم به طوعاً وإنتظار نهاية هذه الحياة حتى نصل إلى الخلاص المنشود. ولكن يبقى السؤال الوجودي "ماذا لو لم يحدث ذلك" يقلقنا أحياناً كثيرة فنحاول قمعه بالإصرار على الإيمان.

شذرات من صور وكلمات
* وجه الممثلة ماريا فالكونيتي وهي تنظر ساهمة شاردة ضائعة إلى القضاة ورجال الكنيسة الذين اتهموها بالإلحاد، من الفيلم الشهير الذي صور أحداث محاكمة عذراء أورلينز "آلام جان دارك" للمخرج الدنمركي كارل ثيودور دراير.

* المقطوعة الأوبرالية "آلام القديس ماثيو" ليوهان سيباستيان باخ والتي هي عبارة عن توسلات وتضرعات القديس للرب بأن يرحمه.

* قول إميل سيوران "في كل مواطن من مواطني اليوم، يكمن غريبٌ قادم" وإدراكي أنه قال ذلك على الأغلب في ستينيات القرن الماضي، وظني بأن نبوءته تحققت في هذا الزمن، أول على الأقل بالنسبة لي.

* كلمات كريستوفر ماكيندلز الأخيرة، ذلك الشاب الذي كره الحياة المادية والمجتمع الإستهلاكي وفضّل السفر والترحال بعيداً عن عائلته وأصدقاءه، كتب في مذكراته قبل أن يموت متسمماً: "لا تكون السعادة حقيقية إلا حين تصبح مشتركة".

* "كرجل أعمى في غرفة مظلمة يبحث عن قطة سوداء غير موجودة." يُقال أن هذا الإقتباس لتشارلز داروين وهو يصف علماء الرياضيات، ولكن ذلك غير صحيح تماماً إذ أثبتت الأبحاث أن مصدر هذه الجملة غير معروف على وجه الدقة. عموماً، هل أنا الوحيدة التي تشعر بأن هذه الصورة مرعبة إلى حد كبير؟!

* مشهد سريالي من الفيلم القصير "الكلب الأندلسي" للمخرج الاسباني لويس بونويل: رجل يتأمل يده مندهشاً إذ يخرج النمل من فجوة في كفه.


بعيداً عن الرجال الذين يحدقون في وجوههم عبر المرايا والنساء اللاتي تحاولن الخروج من الجدران، كل ما كتبته عن الخوف إلى هذه النقطة يبدو لي سخيفاً، كل هذه الإقتباسات والصور السينمائية والروايات والقصص تبدو تافهة الآن وأنا أتذكر الحروب والطوفانات والأعاصير والزلازل والأمراض المميتة - كل الويلات التي لم أختبرها بعد، فأقول لنفسي أني لا أعرف معنى الخوف، لا أعرف بعد معنى كلمات كورتز الأخيرة قبل أن يموت في رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد "الرعب، الرعب".



هذا الوجه، لإمرأة صينية ناجية من زلزال قوته 6.6 رختر، عرف معنى الرعب

_________________________

نُشر المقال في صحيفة آراء الإلكترونية بتاريخ 24 نوفمبر، 2013 :
http://www.araa.com/article/78179