الجمعة، 2 أغسطس 2013

جدلية الأخلاق في "الوصايا العشر" لكيسلوفسكي

من أين تأتي الأخلاق؟ وكيف نحكم على الأمور بالصواب أو الخطأ؟ من أين يأتي الإحسان البالغ أو القسوة التي لا توصف؟

قد تبدو إجابات هذه الأسئلة سهلة للوهلة الأولى، قد يجاوبني أحدهم بقوله أن الأخلاق تأتي من الدين أو من قيم المجتمع، إذاً هل معنى هذا أن الأخلاق مسألة نسبية لا مطلقة؟ تتغير هذه العوامل بتغير أفكار وايدولوجيات الإنسان من مجتمع إلى آخر. فمثلاً، يستطيع الفرد العربي أن يصف من تخرج عارية الصدر من نساء دولنا العربية بكل سهولة بأنها "عديمة أخلاق"، ولكن هل يستطيع فعل ذلك مع نساء قبيلة "نياي نياي" في شمال ناميبيا اللواتي يمشين في صحارى كالاهاري من دون أي قطعة قماش تغطي صدورهن؟ حتماً سنفكر عدة مرات قبل وصفهن بهكذا وصف.
إن جزءًا كبيرًا من مفاهمينا للصواب والخطأ يأتي مما يسمى في الدراسات النقدية بالمتناقضات الثنائية Binary Opposition وهو زوجان من المفاهيم المتضادة في المعنى: الحق والباطل، الحلال والحرام، الشرق والغرب، الأبيض والأسود... الخ، وفرضية أن أحد هذين الزوجين أفضل من الآخر. هذه الأفضلية تسبب إشكالات عديدة على مر التاريخ، فهي التي دعت أدولف هتلر إلى أن يؤمن إيماناً لا شك فيه بأفضلية العرق الآري على بقية الأجناس البشرية، وهي السبب الذي جعل الدول الغربية تحتل دول العالم وتفرض حملاتها التبشيرية من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن العشرين، وهي أيضاً السبب في الصراعات الطائفية في دولنا العربية.
لستُ بصدد إبراز وجهة نظري الشخصية حول الإشكاليات الأخلاقية في هذا العالم ولكني رأيت ضرورة كتابة مثل هذه المقدمة التي تمهد لعمل سينمائي يُعتبر من أهم وأفضل الأعمال الدرامية التي صنعت خصيصاً للتلفاز وهو المسلسل القصير "الوصايا العشر" للمخرج البولندي الشهير صاحب "ثلاثية الألوان: أزرق، أبيض، أحمر" و"حياة فيرونيكا المزدوجة" كريستوف كيسلوفسكي.



يتألف المسلسل من عشر حلقات، وتمتد كل حلقة لحوالي ساعة أو أقل قليلاً. تدرس كل حلقة وصية من الوصايا العشر التي وجدها النبي موسى عليه السلام منقوشة على ألواح حجرية في جبل سيناء حسب التراث المسيحي واليهودي. تُعتبر هذه الوصايا قواعد أخلاقية عامة موجودة عند البشرية جمعاء، من قبيل: لا تسرق، لا تزنِ، لا تقتل، لا تشهد شهادة الزور، وغيرها. ولكن كيسلوفسكي لم يعرض قضية كل حلقة بشكل مواعظي وتوجيهي مباشر، بل عرض صراعات أخلاقية عميقة تجعل المشاهد في نهاية كل حلقة متسائلاً ومشككاً حول أبسط المبادئ الأخلاقية - أو ما تبدو كذلك!
جدير بالذكر كذلك أنه ليس هناك إرتباط أو تطابق مباشر بين كل حلقة ووصية من الوصايا العشر، لأن الكثير من الحلقات تعرض قضايا أخلاقية تتمحور حول أكثر من وصية واحدة، فمثلاً الحلقة السابعة والعاشرة متعلقتان بالسرقة، والحلقات الأولى والرابعة والسابعة تتحدث عن إشكاليات في قضية الأبوة والأمومة، وهكذا تتداخل بعض الوصايا مع بعض الحلقات ولكن يستطيع المشاهد في حلقات أخرى أن يربط بين الحلقة والوصية بشكل مباشر. كل حلقة من الحلقات تحكي قصة مختلفة لأبطال مختلفين ولكن الجامع بين الحلقات حسبما أرى هو شيئان: جميع الشخصيات تعيش في نفس البناية السكنية في عاصمة بولندا "وارسو"، حتى أن بعض الشخصيات من حلقات مختلفة تلتقي في بعض الأحيان في البناية، والجامع الثاني هو وجود رجل واحد بلا إسم في كل الحلقات تقريباً يتأمل الشخصيات الرئيسية في لحظات مهمة من الحلقة مؤدياً أدواراً مختلفة مثل متشرد، أو طالب في الجامعة، أو سائق دراجة.



لا يعلم المشاهد من يكون هذا الرجل المتأمل الذي لا يتدخل أبداً، وحين سُأل كيسلوفسكي عنه قال: "لا أعلم من يكون، هو مجرد إنسان يأتي ويراقبنا، يتأمل حياتنا. وهو غير راضٍ عنَّا". بعض النقاد السينمائيين إعتبروا أن هذا الرجل يمثل المسيح، مثل الناقد الأمريكي الشهير روجر إيبرت، وبعضهم إعتبر أنه الرب أو ملك من ملائكته. كائناً من يكون، وجوده ونظراته المتأملة والحزينة دائماً ما تضفي على الحلقات طابعاً فلسفياً عميقاً يجعل المشاهد يتسائل بعد مشاهدة الحلقة فيما إذا إستطاع هذا المتأمل أن يغير الأحداث لو نبس بكلمة واحدة فقط؟

يدرس مسلسل "الوصايا العشر" رغبة الفرد في البحث عن هوية، والصراع الذاتي والأخلاقي الذي يجعل الإنسان يتخذ القرارات الخاطئة في بعض الأحيان، كما أنه يعرض للمشاهد الأسباب الكثيرة التي تجعل الإنسان يكسر القواعد أو - إن شئتم - الوصايا. تدرس الحلقة الأولى علاقة أب بإبنه الصغير، الأب أستاذ في الرياضيات في إحدى جامعات بولندا، ويحب التكنولوجيا ويؤمن بالعلم في حين أنه لا يؤمن بالديانات. أما الإبن ذو الإحدى عشرة عاماً فهو شغوف أيضاً بالعلم ويحب الإستكشاف والتأمل ويحمل أسئلة كبيرة – كحال جميع الأطفال الذين لا يزالون يحتفظون بالدهشة الأولى.

تساؤلات الطفل وإيمان الأب بالعلم جلي في أحد مشاهد الحلقة، حين يرى الطفل كلباً ميتاً وممدوداً على الأرض خارج منزلهم، ثم يرجع المنزل ليسأل والده عن الموت، ماهيته وماذا يحدث حين يموت. يجاوب الأب بشكل مبسط أن القلب يتوقف عن العمل ولا يصل الدم إلى الدماغ فتتوقف كل الأعضاء عن العمل. ثم يقول الطفل: "أرجو أن ترقد روحها في سلام، لمَ لمْ تذكر أي شيء عن الروح؟" فيرد الأب: "هذه كلمات وداعية فقط. لا يوجد روح، تؤمن الناس بوجود الروح لأن الحياة ستكون أسهل هكذا".



في أحد الأيام يود الطفل أن يذهب للتزلج على الماء المتجمد في بركة قريبة، وبمعيّة والده وبمساعدة الحاسوب يحسبون معاً مدى سماكة الجليد وفيما إذا كان صالحاً للتزلج أو لا. يقرر الأب أن البركة متجمدة بما فيه الكفاية لتصبح صالحة للتزلج ويسمح لإبنه الصغير أن يذهب ليتزلج مع أصدقاءه. يثق الأب بحساباته، يثق بالحاسوب وبالأرقام، وكيف لا وهو أستاذ الرياضيات في الجامعة؟ ولكن إيمانه المطلق بالعلم يخذله، إتخاذه للعلم إلهاً له جعله يندم، وهنا تأتي الوصية الأولى: "أنا الرب إلهك، لا يكون لك إله غيري".

تبدو دوروتا قلقة وهي تزور الطبيب في الحلقة الثانية من المسلسل. زوجها مريض وطريح الفراش في المستشفى، فتسأل الطبيب سؤالاً حرجاً: هل سيموت زوجي قريباً أم أنه سيعيش؟ يتضح للمشاهد أن دوروتا حامل من رجل آخر، فزوجها عقيم، وهي تريد أن تقرر: إن عاش زوجها فستجهض الطفل في بطنها، وإن مات زوجها فستحتفظ بالطفل. أمام إلحاح وقلق دوروتا، لا بد للطبيب أن يقرر، أن يصبح الإله من خلال كلمة نعم أو لا، يموت أو لا يموت، وبذلك يربط المشاهد بين هذه الحلقة والوصية الثانية من وصايا الرب لموسى "لا تحلف باسم الله باطلاً".

الحلقة الثامنة من "الوصايا العشر" تتحدث عن أستاذة في علم الأخلاق إسمها صوفيا، تلتقي بمترجمة أعمالها إليزابيت والتي أتت إلى بولندا لتعمل على بحث حول مصير اليهود الذين نجوا من النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. تطرح إليزابيت أثناء محاضرة لصوفيا قضية أخلاقية مقتبسة عن قصة حقيقية: في وارسو، بولندا عام ١٩٤٣ تؤخذ طفلة يهودية عمرها ستة سنوات هاربة من الحرب إلى زوجان من الديانة الكاثوليكية واللذان وعدا أن يتبنوها ويصبحان أبويها بالتعميد الكاثوليكي، وذلك لكي يحموها من النازيين. ولكن في آخر لحظة يتراجع الزوجان لأنهما لا يريدان أن يشهدوا بالديانة الكاثوليكية للطفلة في حين أنها يهودية، لا يريدان أن يشهدوا شهادة زور أمام الرب الذي يؤمنون به. ولأجل هذا المبدأ الديني، هذه الوصية، يتخليان عن وعدهما ويتركان الطفلة أمام خطر الموت من القوات النازية التي لا تفرق بين الأطفال والكبار.

تعمدتُ طرح قصة بعض الحلقات بغير تعليق مباشر حول القضايا الأخلاقية المعروضة، ولكن من الواضح أنها ليست قضايا تقع في إحدى خانتي المتناقضات الثنائية فليس هناك خط واضح وفاصل بين الأبيض والأسود وبين الصواب والخطأ، مما يدلنا على نسبية "الحقيقة"، وربما تكون هذه رسالة كيسلوفسكي التي أراد إيصالها للمشاهدين - مثلما هناك إستثناءات لكل قاعدة ولكل وصية، هناك إستثناءات لكل حقيقة نؤمن بها.
ولعلنا لا نزال داخل الكهف، مقيدون، ونرى ظلال الأشياء أمامنا لا حقائقها. لعل الفيلسوف الذي يؤمن أفلاطون أنه هو الذي سيتخلص من القيود ويخرج من الكهف ليرى الأشياء بحقيقتها هو أيضاً الفنان أو العالِم أو الكاتب - لعله أنت.

_____________

نُشر المقال في صحيفة آراء الإلكترونية بتاريخ 31-07-2013 ، الوصلة:

http://www.araa.com/article/67678

وصلات خارجية:

هنا الحلقة الأولى من المسلسل بترجمة إنجليزية:

https://www.youtube.com/watch?v=PPk_1qYBKE8