الأحد، 25 مايو 2014

تأملات صامتة


تصف الشاعرة والروائية الأمريكية سيليفا بلاث قصائدها بقولها: "قصائدي ليست عن هيروشيما، ولكن عن طفل يشكّل نفسه إصبعاً بإصبع في الظلام، ليست عن إرهاب التصفية الجماعية، لكن عن غموض القمر على شجرة الريحان في مقبرة مجاورة". وأتفق معها على نحو ما، إذ إنها ليست مهمة الآداب والفنون تصوير الواقع كما هو، فهذا شيء قد يفعله التاريخ - رغماً عن التحوير الدائم للأحداث التاريخية - بل إنها، أي الآداب والفنون، تعطينا دخولاً عجائبياً إلى عالم آخر من وحي وخلق الإنسان. هذا العالم الخيالي هو محاولة مستمرة للتحذير مما لا نريده، أو للترغيب فيما نريده. وما يجذبني شخصياً في هذا العالم هو تمثيله لأفكارنا ومشاعرنا وفتحه لباب الاحتمالات اللامتناهية والتي توسع آفاقنا ومداركنا. إحدى الشخصيات التي أشعر دوماً بالارتباط معها بطريقة أو بأخرى هي شخصية المتأمل الصامت في الآداب والفنون، ولعل ذلك يرجع إلى شخصيتي الهادئة رغم فوضى الأفكار إذ أشعر أنّ في صمت هذه الشخصيات المعنى الكثير.

على سبيل المثال، في رواية إف سكوت فيتزجرلد "غاتسبي العظيم" توجد شخصية مهمة وهي عينا الدكتور تي جي إيكلبورغ المطلتان على وادي الرماد. بعدما يصف فيتزجرلد على لسان الراوي نيك كاراوي هاتين العينين الزرقاوتين الضخمتين المطلتين عبر نظارة صفراء، يقول: "يبدو أن طبيب عيون ماجن قد أقامها هناك ليزيد زبائنه في مقاطعة كوينز، ثم انحدر هو نفسه إلى العمى المطلق أو نسيهما وانتقل بعيداً. لكن عينيه اللتين أعتمتهما أيام طويلة عديمة اللون تحت الشمس والمطر، ظلتا تحملقان في الأرض الجرداء." ويتبين للقارئ أن هاتين العينين هما في الأصل لوحة إعلانية. ولكن هذه الصورة المتكررة في الرواية تدلنا على شخصية مهمة ورمزية وليس فقط لوحة إعلانية، فعينا الدكتور تي جي إيكلبورغ شاهدتان على الخراب الأخلاقي والقيمي للمجتمع الأمريكي في عشرينيات القرن الماضي، وهما يمثلان انتقاداً صارخاً لهشاشة الحياة الباذخة وما يترتب عليها من سطحية ومادية وركض وراء الملذات الفارغة. كما إنهما صورة رمزية للرب الذي هجر أمريكا وترك عينيه شاهدتين ومستنكرتين على تدني القيم الأخلاقية.

أما في المسلسل القصير "الوصايا العشر" المكون من عشر حلقات للمخرج البولندي القدير كريستوڤ كيسلوڤسكي، يظهر رجل بشكل متكرر في معظم الحلقات، بشخصيات مختلفة دوماً: سائق دراجة، ومتسول، وعامل بناء، ورجل يحمل أكياس تسوق، وغيرها من الشخصيات. هذا الرجل لا يفعل شيئاً طوال ظهوره في الشاشة سوى التحديق في الشخصيات الرئيسية للحلقة في لحظات مفصلية من حياتهم وهم يقررون أو يفعلون شيئاً سيغير من قدرهم. في الحلقة الرابعة مثلاً، تجد الشخصية الرئيسية آنا رسالة مغلفة في منزلها مكتوب عليها بخط والدها "لا يفتح قبل وفاتي". آنا فتاة تعيش وحيدة برفقة والدها، إذ ماتت أمها بعد ولادتها بقليل. تذهب آنا في نزهة إلى بحيرة وتقرر وقتها فتح الرسالة وقراءتها، إذ إنّ محتواها قد يُغير من حياتها. تفتح الظرف وتجد بداخله ظرفا آخر مكتوب عليه بخط والدتها "إلى ابنتي آنا"، وحين تقرر فتحه يخرج من البحيرة الرجل الذي بلا اسم حاملاً قاربه ويتأمل في وجهها لفترة قصيرة، وعليه ملامح الحزن والاستنكار، ثم يذهب في حال سبيله. لم يفعل شيئاً ولكن بعدما رأته آنا قررت عدم فتح الرسالة وأرجعته إلى الظرف الأول. مثل "غاتسبي العظيم"، اعتبر بعض النقاد السينمائيين أن هذا الرجل يرمز إلى الرب بنظراته التأملية واستنكاره لما يفعله النّاس.

أمّا شخصية تايرسياس في القصيدة الطويلة "الأرض اليباب" لـ تي إس إليوت فهي مثيرة حقاً. أصل الشخصية هي أسطورة إغريقية حيث صدف أنّه مرّ يوماً في غابة ورأى أفعى فضربها، فتحول بعد ذلك إلى امرأة، وعاش حياة النساء لسبع سنوات. وفي أحد الأيام وهو يمشي في الغابة رأى نفس الأفعى فضربها مرة أخرى ورجع إلى هيئته الذكورية ولكنّه بقي بثديين أجعدين. احتدم النقاش يوماً بين كبير الآلهة جوبيتر وزوجته جونو، حول من يستلذ بالحب أكثر الرجل أم المرأة، واستدعيا تايرسياس لحكمته ولأنّه اختبر الجنسين، فوقف في صف جوبيتر. غضبت جونو وحكمت عليه بالعمى، ولكن جوبيتر أشفق عليه وأعطاه بدلاً عن ذلك القدرة على رؤية المستقبل. قصيدة "الأرض اليباب" مليئة بالصور والاستشهادات التاريخية والأسطورية والأدبية، إذ يكاد لا تخلو صفحة واحدة منها من اقتباس أو إشارة إلى قصائد أو أحداث تاريخية مشهورة. في فصل موعظة النار من القصيدة، وظّف إليوت شخصية تايرسياس ليلعب دور المشاهد والمتأمل لحياة فتاة الطابعة، إذ يستطيع أن يرى روتينها اليومي من وظيفتها كآلة في مكتب عملها إلى بيتها الفوضوي وطعامها الذي هو عبارة عن بقايا الفطور ثم قدوم حبيبها وشعورها بالبرود تجاهه. يقول إليوت: "أنا تايرسياس، عجوز أجعد النهدين، أدركت ما رأيت ثم تنبأت بما تبقى" فهو يرى هذه المعاناة اليومية واختبر المأساة الإنسانية على مر العقود ويعلم عن الأحزان والمصائب قبل حدوثها، ولكنه لا يفعل شيئاً، يتأمل فحسب ولا يملك غير الشعور بالشفقة.

كل هذه الشخصيات شاهدة على مآسي وأحلام كثيرة، فهي ترى ما لا يبصره الآخرون، ولذلك هي دائماً أعلم وأخبر من كل الشخصيات الأخرى، ولكنها رغماً عن ذلك لا تفعل شيئاً حيالها بل تتأمل بأسى فحسب، ربما هي عاجزة عن إحداث التغيير، أو ربما هي لا ترغب فقط، وقد تكون يئست من البشر وتكرارهم المستمر لنفس الأخطاء على مر القرون. يتساوى المعنى واللامعنى في حضورهم، إذ يبدو أحياناً أنهم منمقات إضافية لا طائل منها، وفي أحيان أخرى يكمن في وجودهم المعاني كلها. شخصية المتأمل الصامت بمثل ما صورتها الأمثلة السابقة غير حقيقية وغير واقعية، ولكن هذا الشعور بالارتباط معها حقيقي وذلك ما يهم. وربما هو ذا السبب الذي نقرأ لأجله.
_________________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 26، مايو 2014:
http://alroya.om/ar/writers/266-writer022/101244-2014-05-25-12-08-02.html

وفي جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 27، مايو 2014:
http://www.araa.com/opinion/24594

الاثنين، 12 مايو 2014

المبصرون العميان... وكوابيس أخرى


يقول نيكوس كزانتزاكيس في سيرته الذاتية الفكرية "تقرير إلى جريكو": "كانت الخطوة الأولى في الاستهلال -كما قلت لنفسي- هي: الخير والشر عدّوان. الدرجة الثانية والأعلى هي: الخير والشر زميلا عمل. الخطوة الأعلى وأعلى خطوة أستطيع الوصول إليها الآن هي: الخير والشر متطابقان (هما الشيء ذاته)". قد لا يتفق الأعم الأغلب مع هذا الاقتباس، وسيحاولون دحضه بكافة الوسائل المعرفية والشواهد التاريخية، بيد أنني لم أكتب هذا المقال لتأييده أو لدعمه، بل إنني أكتبه بروح متسائلة ومتشككة وبأسئلة وعلامات استفهام أكثر من أجوبة ونقاط مفصلية. سأجمع بعض المشاهدات السينمائية والقراءات الأدبية حول طبيعة الشر في النفس البشرية، من غير تحليل عميق ولكن بطريقة السرد والموازنة.

أنهيتُ قبل قليل قراءة رواية "العمى" للكاتب البرتغالي خوزيه ساراماجو، وبقدر ما جذبتني وأبهرتني بقدر ما أرعبتني وجعلتني أحملق مدهوشة في خيالات وأفكار وكوابيس الكاتب. تتحدث الرواية عن وباء تفشى في مدينة ما، وهو داء العمى الأبيض؛ إذ بدأ الأمر مع رجل كان واقفاً في إشارات المرور الحمراء، وفجأة فقد قدرته على الرؤية، وبعكس ما نتخيل العمى المظلم والأسود كان هذا العمى أبيضاً. يتفشى الداء بالملامسة البصرية فقط؛ فكل من قابلت عيناه عينا الأعمى يصاب بالعمى بدوره. حاولت الحكومة في البدء التحكم بالوباء وحبست كل من أصيب به في مشفى للأمراض العقلية ومنعت كل وسيلة للتواصل معهم، وأصدرت بعض القوانين على العميان من قبيل أن مغادرة المبنى تعني الموت الفوري وفي حالات الوفاة يجب على المرضى دفن الجثث في الفناء وعدم الاعتماد على أي تدخل خارجي في حال حدوث أية اعتداءات. صوّرت الرواية حالة هؤلاء العميان في المحجر وكفاحهم للبقاء وتشكّل العصابات والدكتاتورية العمياء. ولكن لم تنجح هذه الطريقة، وتفشى العمى في أرجاء المدينة كلها، وتفسخت الحكومة إذ لا طائل من عميان يحكمون عميان فكلهم في الفراغ والبياض سواء. أن تفقد البشرية جمعاء حاسة من حواسها؛ فذلك يُرجعها إلى البدائية والحيوانية، أن يكون الهدف للإنسان في ظل هذه الظروف هو البقاء والطعام فحسب، فإنه يفقد كل مظاهر الأقنعة والمجاملات والحضارة وتظهر طبيعته الحقة. لربما نحن على لسان زوجة الطبيب في الرواية: "بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون". لربما العمى موجود منذ الأزلية، وكل ما رافقه في الرواية من أحداث تنم عن الخوف والازدراء والأنانية والطمع وحب السلطة والديكتاتورية والقتل والسرقة واستغلال الضعيف والجشع، موجود كذلك منذ الأزلية إلا أن داء العمى زاده وضوحاً فحسب. إن كنا نحب التقسيمات المطلقة، فذلك خير وهذا شر، فهل نحن واثقون تماماً من الجانب الخيّر فينا حين لا يرانا الآخرون؟

أتذكر أيضاً مشهد سرده الكاتب السوري دارا عبدالله في كتابه "الوحدة تدلل ضحاياها"؛ حيث قدم سجينًا اسمه "أبو سمير" إلى السجن، وقد كان مقاتلاً في الجيش الحر. استقبله السجناء بكثير من الترحيب والتهليل وعومل معاملة الأبطال، إلا أنه كان مصاباً بطعنة في قدمه ولم يقدم له العلاج، ومع مرور الأيام التهب الجرح وتعفن، وأصبح يصدر روائح كريهة ضايقت السجناء من حوله، شيئاً فشيئًا أصبحوا ينفرون منه، وانعدم التعاطف وأصبح التأفف والتذمر معلناً؛ حين مات بفعل الجرح "حزن البعض، صمت البعض، وفرح البعض الآخر، وكان من بين المسرورين أشخاص رحبوا به في البداية. عندما نقلوا جثته كان بعض السجناء يقومون بالدعس على الديدان التي كانت تسقط من جسده". مهما كنا نقدر ونبجل شيئاً ما أو شخصاً ما، فحالما يتعدى هذا على مساحة راحتنا الخاصة إلى أن يظهر الشر الكامن فينا، ولعله مثال ينطبق على الجميع ولكن بدرجات متفاوتة، ولعله لا يظهر إلا في الأوقات الصعبة حيث تكشف الوجوه الحقيقية من غير قناع المجاملات.

وفي الفيلم الإسباني "فيريديانا" للمخرج السريالي لويس بونويل، تقوم البطلة الرئيسية بإيواء مجموعة من المتسولين في منزلها الكبير، بدافع الرحمة والعطف ولأنها متدينة وتريد بذلك رضا الرب واستغلال ثروتها فيما هو خير. حالما تخرج البطلة في مهمة طويلة إلى المدينة وتدع المنزل في أيدي المتسولين حتى يستغلوا هذه الفرصة ويقيموا مأدبة عشاء فيها سكروا وتقاتلوا وتضاجعوا ورقصوا وأحدثوا الكثير من الفوضى. يسخر بونويل في هذا الفيلم من الكثير من مظاهر وقيم التعفف والحضارة، فحالما ترى السيدة ما حدث لمنزلها حتى تقرر التخلي عن طيبتها وتطردهم جميعاً. في مشهد الفوضى داخل المنزل، يقرر المتسولون أخذ صورة لهم وهم على طاولة العشاء، ويجلسون في نفس وضعية الجالسين في لوحة "العشاء الأخير" للفنان الكبير ليوناردو دا فينشي، والمفارقة واضحة هنا ما بين الدلالة الدينية والأخلاقية للوحة ووضعية المتسولين المثيرة للضحك والسخرية. في مشهد آخر ينقذ رجل كلباً كان مربوطاً بعربة يجرها حصان، ويظن بذلك أنه فعل خيراً، وفي اللحظة ذاتها تمر عربة أخرى مربوط بها كلب آخر ولا يراه الرجل. كل هذه الأحداث جعلتني أتساءل مع نهاية الفيلم عن الخير والشر، هذين المفهومين المتطابقين حسب فلسفة كزانتزاكيس، وفيما لو كان الإنسان خيِّراً بطبعه أم شريراً بطبعه، أم أنه يحمل في داخله هاتين القوتين بشكل مركب ومتقاطع، ولعلي أرجح هذا الخيار الأخير إذ يبدو لي أقرب للحقيقة.

... أنهي هذا المقال -الذي هو أقرب إلى لوحة من الفسيفساء بجزيئات ملونة ومختلفة، ولكنها تشكل جميعها صورة واحدة عن موضوع واحد جوهري- باقتباس أخير من الفيلم الوثائقي القصير "ليل وضباب" للمخرج الفرنسي آلان رينيه. يتحدث الفيلم عن أحد معسكرات النازية في بولندا بكثير من التفصيل عن الأحداث المروعة التي شهدته، ويعتبر من أهم الأفلام العالمية التي تناولت موضوع الهولوكوست. يُنهيه الراوي بتساؤل وتحذير للبشرية جمعاء: "من منا يسهر من على برج المراقبة الغريب هذا ليحذرنا من قدوم جلادينا الجدد؟ هل وجوههم مختلفة عنا حقاً؟ نحن نحدق في هذا الحطام الآن وكأن المسخ القديم مسحوق للأبد تحت هذه الأنقاض، نحن نتظاهر بالأمل وكأن الصورة من الماضي تلاشت، وكأننا شفينا إلى الأبد من كارثة المخيمات العسكرية. نحن نتظاهر أن كل ذلك حدث مرة واحدة فقط، في زمان ومكان محددين. نحن نغض الطرف عما يحدث حولنا، ونصم آذاننا عن الصرخة الإنسانية اللامنتهية". بطريقة ما، هو يحذرنا كي لا نصبح المبصرين العميان، كرمزية رواية ساراماجو، وكخذلان رفاق أبو سمير، وكسخرية بونويل.

________________
نُشر المقال يوم 12 مايو، 2014 في جريدة الرؤية:
http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/99465----

وجريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 13 مايو، 2014:
http://www.araa.com/opinion/24121