الأحد، 9 نوفمبر 2014

حول ابتلاع العالم والقنابل الرمّانية - رواية "أطفال منتصف الليل"


لعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا حين نسمع اسم (سلمان رشدي) هو روايته التي سببت جدلاً كبيرًا في العالم العربي والإسلامي «آيات شيطانية» والتي أفتى بسببها آية الله الخميني بجواز قتل سلمان رشدي بسبب ما كتب في الرواية، ولا يزال الجدل قائمًا إلى يومنا هذا رغم مضي ستة وعشرين عامًا منذ صدورها. ولكن الرواية التي حازت على شهرة عالمية وجوائز كثيرة هي روايته «أطفال منتصف الليل» الني نشرت عام 1981م. حصدت الرواية جائزة البوكر لذلك العام، ثم حصدت جائزة أفضل البوكر، أي أفضل كتاب بين جميع الكتب الفائزة بجائزة البوكر منذ بدايتها، في الذكرى الخامسة والعشرين، ثم مرة أخرى في الذكرى الأربعين.

حين بدأت بقراءة الرواية، كنتُ متشككة إلى حد ما في إبداعها ومنزعجة قليلاً من طولها، حيث إني قرأتها لغرض جامعي – وربما سنتفق أننا نستثقل أي قراءة واجبة علينا – ولكن مع تقدم الصفحات والفصول وجدتني منجذبة إليها وأنتهز الفرص لقراءتها حتى أتممتها فتمنيت لو أنها كانت أطول! الرواية مدهشة على جميع الأصعدة في نظري، كقصة وسرد وشخصيات ولغة وعوامل المكان والزمان وصوت الراوي، حتى تفاصيلها الكثيرة والتاريخية التي تمنيت لو أنها أقل، تفهمت ضرورتها مع إنهائي للرواية. في نفس الليلة التي أنهيت فيها الرواية قررت مباشرة أن أشاهد الفيلم المقتبس عنها، إخراج ديبا مهتا وبإشراف وسيناريو سلمان رشدي نفسه. كان الفيلم متعة بصرية مدهشة إذ احتوى على عدد من المشاهد الجميلة مثل مشهد استقلال الهند ومشهد الزفاف، ولكنه مخيب للآمال قليلاً لأنه لم ينقل سحر الرواية وكانت أحداثه سريعة وغير متماسكة كما أن تطور الشخصيات لم يكن واضحًا مثلما وجدتُ في الرواية. كل هذا مفهوم من ناحية لأن الرواية فيها كثير من التفاصيل والأحداث المتشابكة وكأنها لوحة واحدة كبيرة، وهذا صعب نقله إلى فيلم مدته ساعتان ونصف تقريبًا – لا بد أن يضيع شيئًا ما في عملية النقل هذه. أود التركيز في هذا المقال على موضوعين مهمين تناولهم رشدي في «أطفال منتصف الليل»، وهما تصوير الدين، وذاتية الحقيقة.


لا بد أولاً من إعطاء مقدمة بسيطة عن «أطفال منتصف الليل» من غير سرد الكثير من التفاصيل التي قد تفسد إثارة القصة على القارئ الذي يود قراءة الرواية. تتحدث الرواية عن قصة سليم سيناي، الذي ولد في الخامس عشر من أغسطس عام 1947م، أثناء تشابك أيدي الساعة في المنتصف تمامًا، مرحبةً بقدومه مثلما يؤمن هو، أي الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل، اللحظة إياها لاستقلال الهند من الاستعمار البريطاني. كانت ولادته وولادة الهند الجديدة – توأمته – متزامنة، وهكذا هي أحداث الرواية: قصة حياته بالتوازي وأحيانًا التطابق مع قصة الهند التاريخية والسياسية. يمتلك سليم موهبة التوارد بالخواطر لأنه ولد في هذا اليوم التاريخي المميز، وكذلك أطفال منتصف الليل، الذين ولدوا ما بين الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الواحدة صباحًا وهم 581 طفلا، كل منهم يمتلك قوى خارقة فريدة وكلما كان موعد ولادتهم أقرب إلى منتصف الليل، كانت قواهم أشد وأعظم. شيفا، الذي ولد في نفس لحظة ولادة سليم، يمتلك موهبة الحرب والقوة، في حين أن بارفاتي التي ولدت بعد ثوان معدودة من منتصف الليل تمتلك موهبة السحر. بينما يكتب سليم سيناي قصته، يقرأها على بادما، صديقته التي تعتني به، وهي تمثل صوت القارئ المتشكك والساخر والعاقل، وهي تحاول غالبًا أن تجعله يسرع في سرد الأحداث ولا ينغمس كثيرًا في التفاصيل. في إحدى شكاويها المضحكة – والتي قالتها في الفصول الأولى حيث يسرد سليم قصة عائلته قبل ولادته – تلح عليه: «من الأفضل لك أن تسرع قليلاً، وإلا لمتّ قبل أن تكتب عن ولادتك!» ولكنه يؤكد لاحقًا ويكرر دائمًا أنه «مبتلع حيوات» ولكي نفهمه جيدًا يجب أن نبتلع العالم بأكمله.

الدين في رواية سلمان رشدي محرك أساسي في تسلسل الأحداث، فمنذ الصفحات الأولى نرى كيف أثر قرار آدم عزيز -جد سليم سيناي- على حياته وحياة أولاده وأحفاده من بعده. في إحدى الصباحات الكشميرية الباردة، أصاب آدم عزيز أنفه أثناء السجود في الصلاة، ونزف دمًا تجمد فورًا إلى كرات من الياقوت، ثم بكى وتجمدت دموعه وأصبحت كرات من الألماس. بعد هذه الحادثة قرر الجد ألا يسجد مرة أخرى لرب أو لإنسان، مما كوّن فجوة بحجم قبضة اليد في بطنه جعلته هشًا ومتشككًا طوال حياته. هذه الفجوة انتقلت إلى ابنته ممتاز –أو اسمها بعد الزواج أمينة سيناي– التي ستحمل معها شعورًا بالذنب، ورآها سليم بسبب قدرته على التوارد بالخواطر. هذه الفجوة لاحقت سليم سيناي حتى بعد وفاة جده لأنه الوحيد الذي استطاع أن يراها، وهي موازية في رمزيتها لاعتقاد سليم وإيمانه التام بأنه سوف يموت في عيد ميلاده الحادي والثلاثين في الذكرى الحادية والثلاثين لاستقلال الهند. من الفصول الأولى يعلل سليم رغبته بالكتابة عن حياته بإحساسه بأنه سوف يموت ويطلب من القارئ أن يقبل بأنه في النهاية القريبة سوف يتداعى إلى جسيمات ترابية منسية ولا صوت لها.

من أكثر المشاهد المروعة التي صوّرتها الرواية هو مشهد مقتل شهيد، صديق سليم وجندي باكستاني شاب. حلم شهيد بالشهادة، تحقيقًا لأمنية والده الذي أراد له أن يستحق اسمه. كان يحلم برمانة تحلق خلفه وهي تمثل موته ونيله للشهادة، إلا أنه شهد رمانة من نوع آخر –إذ سقطت قنبلة عليه أثناء الحرب الباكستانية الهندية وفقد رجليه إثر ذلك. حمله سليم إلى مئذنة قريبة، ليواجه حربًا أخرى لأن مجموعة من النمل انتقلت من التهام صرصار إلى افتراس دم شهيد وسط صراخه. همّ سليم إلى مساعدته وضرب مرفقه مفتاح كهربائي شغل مكبر الصوت الخاص بالمئذنة، وبعد ذلك «لن ينسى الناس كيف ارتفعت الصرخات المنددة بعذابات الحرب الفظيعة من المسجد». من خلال هذه الصورة المروعة، عبر سلمان رشدي عن استنكاره للحرب والموت اللامنطقي والعبثي، حيث أن هذه الصرخة كانت حقيقية وليست جوفاء ولامرئية مثل فجوة آدم عزيز، وهي تمثل الرفض القاطع لآلاف الفظائع التي شهدتها الهند وباكستان في تلك الفترة. شهيد الذي حلم بالشهادة كان موته عنيفًا ومأساويًا وكانت شهادته بلا معنى وكأن رشدي يريد عبر إيصال هذه الصرخة عبر المئذنة أن يرينا أن الموت واحد، سواء كان لمسلم أو هندوسي، وأن الكل خاسر في الحرب.

الثيمة الأخرى المتكررة في الرواية هي ذاتية وعدم موثوقية الحقيقة والذاكرة. في فصل «السلم والثعبان» يتحدث سليم عن حبه لهذه اللعبة وهو طفل صغير، وكيف أثرت في تفكيره ونظرته نحو الأمور. لعلنا جميعًا نعرف قواعد اللعبة: السلم يصعد بك إلى الأعلى وهو جيد ويجعلك تفوز، والثعبان يهبط بك إلى الأسفل وهو سيء ويجعلك تخسر. وقد أدرك سليم منذ الصغر أننا كلما صعدنا سلمًا وجدنا ثعبانًا ينتظرنا ليوقعنا. ولكن ما لا توضحه اللعبة هو عدم حتمية ومطلقية هذه العلاقة، إذ قد تكون السلالم ثعابين، وقد تكون الثعابين سلالم في الحياة. يقص علينا سليم كيف وهو صغير أصيب بحمى التيفوئيد وكيف عالجه جارهم الذي يسكن في غرفة في علية منزلهم وهو مختص بدراسة الثعابين عبر إعطائه سما مخففا لثعبان الكوبرا. أدرك سليم من خلال هذه الحادثة «غموض الثعابين»، أي عدم حتمية الشر وتلازمه مع الخير حد التماهي في بعض الأحيان. هذا الصراع ما بين قوتين خارجيتين الذي ما يلبث أن يتحول إلى صراع داخلي بين قوى متشابكة متكرر طوال الرواية ونراه في أوضح صوره عبر العلاقة بين سليم وشيفا، سليم الذي يؤمن بالأفكار والمبادئ وشيفا الذي يؤمن بالمال والقوة.

أخطأ سليم في تواريخ بعض الوقائع التاريخية مرتين، في حدث انتخابي وفي اغتيال غاندي، ولكنه لا يعتذر عن هذه الأخطاء بل يؤكد أنه يسرد قصته منطلقًا من ذاتية حياته وذاكرته. يقول: «الذاكرة لها نوعها الخاص، فهي تختار، وتمسح، وتبدل، وتبالغ، وتقلل، وتمجد، وتذم، ولكنها في النهاية تكون حقيقتها الخاصة، نسختها اللامتجانسة ولكن المتماسكة من الأحداث». في آخر فصل من الكتاب يضع سليم عدة أسئلة تجعل القارئ يتساءل عن صحة الأحداث، بل ويشك في حدوثها، مثل «لم احتاج سليم لحادثة لكي يكسب قواه الخارقة؟»، وأسئلة أخرى لن أضعها لكي لا أفسد على القارئ المفاجئات التي تخبأها الرواية. ولكنه ينهي هذه الفقرة بتأكيده على أن الأمور حدثت هكذا لأنها حدثت هكذا، ولا تفسير آخر غير ذاك. هنا مرة أخرى نرى عدم موثوقية السرد ونتذكر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، رائد النظرية التفكيكية، الذي يؤكد على لامركزية اللغة وعدم وجود مفاهيم كالذات والحقيقة والوعي لأنها جميعًا مختلقة ومصطنعة، كما أنه يعارض التفكير الثنائي الذي يقسم الأشياء والأفكار إلى متناقضات وبالتالي يؤدي إلى صفها في ترتيب هرمي، جاعلاً أحدها أفضل من الآخر، ويقترح بدلاً من هذا أن «نفكك» اللغة ونبين أن الأشياء في الحقيقة ليست متناقضة بل معنية ببعضها وربما أيضًا متطابقة. يؤكد سليم هذه اللاحتمية ويقول: «الحقيقة مسألة نسبية، لذا بقدر ما تنأى عن الماضي، يبدو لك هذا الماضي محسوسًا ومعقولًا أكثر، وبقدر ما تقترب من الحاضر، يبدو لك أبعد وأبعد عن المعقولية». مثلما ذكرت في بادئ المقال، عندما انتهيت من مشاهدة الفيلم كنت غاضبة لأنه غير دقيق، وغيّر من تسلسل الأحداث، ومسح بعض الأحداث المهمة، وأهمل بعض الشخصيات الرئيسية، إلى أنني وبعد مضي فترة من الزمن، أدركت أن الرواية بأكملها ليست مطلقة، وأن سلمان رشدي لا يريد لنا أن نتقبلها بالضبط كما هي، لأن سليم بنفسه شك في حقيقية بعض الوقائع. ولكن ما يهم في النهاية هو إدراكنا أنها «رغم كل شيء نابعة عن حب»، مثلما يؤكد سليم في نهاية الرواية.

ومرة أخرى، مقالي هذا يتناول موضوعين فحسب من الرواية، وفي الحقيقة هي نظرتي الذاتية والنسبية التي جعلتني أركز على هذين الموضوعين خاصة دون الأخرى. يمكن قراءة الرواية في سياقها التاريخي وتحليل الكثير من أحداثها مثل الانتخابات، والحروب بين الهند والباكستان، واستقلال البنغلاديش، ودور رئيسة الوزراء إنديرا غاندي التي تعتبر محورا أساسيا في الرواية (وفي تاريخ الهند الحديث أيضًا)، كما يمكن قراءة الرواية من منطلق صراع الطبقات الاجتماعية ما بين البرجوازية والبروليتارية والاستعمارية، وأيضًا من زاوية أنها بأكملها ترمز إلى الهند بكافة شخصياتها وعوالمها السحرية والواقعية. لكي نفهم الرواية، كما يبدو لي، يجب أن نبتلع الهند بحدودها الحديثة والقديمة، وهذا حتمًا شيء مدهش وساحر.


————————-

*تُرجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية، وأصدرتها دار الجمل بترجمة عبدالكريم ناصيف.


————————-

نُشر المقال في مجلة أكثر من حياة بتاريخ 09 نوفمبر، 2014:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق