تصف الشاعرة والروائية الأمريكية سيليفا بلاث قصائدها بقولها: "قصائدي ليست عن هيروشيما، ولكن عن طفل يشكّل نفسه إصبعاً بإصبع في الظلام، ليست عن إرهاب التصفية الجماعية، لكن عن غموض القمر على شجرة الريحان في مقبرة مجاورة". وأتفق معها على نحو ما، إذ إنها ليست مهمة الآداب والفنون تصوير الواقع كما هو، فهذا شيء قد يفعله التاريخ - رغماً عن التحوير الدائم للأحداث التاريخية - بل إنها، أي الآداب والفنون، تعطينا دخولاً عجائبياً إلى عالم آخر من وحي وخلق الإنسان. هذا العالم الخيالي هو محاولة مستمرة للتحذير مما لا نريده، أو للترغيب فيما نريده. وما يجذبني شخصياً في هذا العالم هو تمثيله لأفكارنا ومشاعرنا وفتحه لباب الاحتمالات اللامتناهية والتي توسع آفاقنا ومداركنا. إحدى الشخصيات التي أشعر دوماً بالارتباط معها بطريقة أو بأخرى هي شخصية المتأمل الصامت في الآداب والفنون، ولعل ذلك يرجع إلى شخصيتي الهادئة رغم فوضى الأفكار إذ أشعر أنّ في صمت هذه الشخصيات المعنى الكثير.
على سبيل المثال، في رواية إف سكوت فيتزجرلد "غاتسبي العظيم" توجد شخصية مهمة وهي عينا الدكتور تي جي إيكلبورغ المطلتان على وادي الرماد. بعدما يصف فيتزجرلد على لسان الراوي نيك كاراوي هاتين العينين الزرقاوتين الضخمتين المطلتين عبر نظارة صفراء، يقول: "يبدو أن طبيب عيون ماجن قد أقامها هناك ليزيد زبائنه في مقاطعة كوينز، ثم انحدر هو نفسه إلى العمى المطلق أو نسيهما وانتقل بعيداً. لكن عينيه اللتين أعتمتهما أيام طويلة عديمة اللون تحت الشمس والمطر، ظلتا تحملقان في الأرض الجرداء." ويتبين للقارئ أن هاتين العينين هما في الأصل لوحة إعلانية. ولكن هذه الصورة المتكررة في الرواية تدلنا على شخصية مهمة ورمزية وليس فقط لوحة إعلانية، فعينا الدكتور تي جي إيكلبورغ شاهدتان على الخراب الأخلاقي والقيمي للمجتمع الأمريكي في عشرينيات القرن الماضي، وهما يمثلان انتقاداً صارخاً لهشاشة الحياة الباذخة وما يترتب عليها من سطحية ومادية وركض وراء الملذات الفارغة. كما إنهما صورة رمزية للرب الذي هجر أمريكا وترك عينيه شاهدتين ومستنكرتين على تدني القيم الأخلاقية.
أما في المسلسل القصير "الوصايا العشر" المكون من عشر حلقات للمخرج البولندي القدير كريستوڤ كيسلوڤسكي، يظهر رجل بشكل متكرر في معظم الحلقات، بشخصيات مختلفة دوماً: سائق دراجة، ومتسول، وعامل بناء، ورجل يحمل أكياس تسوق، وغيرها من الشخصيات. هذا الرجل لا يفعل شيئاً طوال ظهوره في الشاشة سوى التحديق في الشخصيات الرئيسية للحلقة في لحظات مفصلية من حياتهم وهم يقررون أو يفعلون شيئاً سيغير من قدرهم. في الحلقة الرابعة مثلاً، تجد الشخصية الرئيسية آنا رسالة مغلفة في منزلها مكتوب عليها بخط والدها "لا يفتح قبل وفاتي". آنا فتاة تعيش وحيدة برفقة والدها، إذ ماتت أمها بعد ولادتها بقليل. تذهب آنا في نزهة إلى بحيرة وتقرر وقتها فتح الرسالة وقراءتها، إذ إنّ محتواها قد يُغير من حياتها. تفتح الظرف وتجد بداخله ظرفا آخر مكتوب عليه بخط والدتها "إلى ابنتي آنا"، وحين تقرر فتحه يخرج من البحيرة الرجل الذي بلا اسم حاملاً قاربه ويتأمل في وجهها لفترة قصيرة، وعليه ملامح الحزن والاستنكار، ثم يذهب في حال سبيله. لم يفعل شيئاً ولكن بعدما رأته آنا قررت عدم فتح الرسالة وأرجعته إلى الظرف الأول. مثل "غاتسبي العظيم"، اعتبر بعض النقاد السينمائيين أن هذا الرجل يرمز إلى الرب بنظراته التأملية واستنكاره لما يفعله النّاس.
أمّا شخصية تايرسياس في القصيدة الطويلة "الأرض اليباب" لـ تي إس إليوت فهي مثيرة حقاً. أصل الشخصية هي أسطورة إغريقية حيث صدف أنّه مرّ يوماً في غابة ورأى أفعى فضربها، فتحول بعد ذلك إلى امرأة، وعاش حياة النساء لسبع سنوات. وفي أحد الأيام وهو يمشي في الغابة رأى نفس الأفعى فضربها مرة أخرى ورجع إلى هيئته الذكورية ولكنّه بقي بثديين أجعدين. احتدم النقاش يوماً بين كبير الآلهة جوبيتر وزوجته جونو، حول من يستلذ بالحب أكثر الرجل أم المرأة، واستدعيا تايرسياس لحكمته ولأنّه اختبر الجنسين، فوقف في صف جوبيتر. غضبت جونو وحكمت عليه بالعمى، ولكن جوبيتر أشفق عليه وأعطاه بدلاً عن ذلك القدرة على رؤية المستقبل. قصيدة "الأرض اليباب" مليئة بالصور والاستشهادات التاريخية والأسطورية والأدبية، إذ يكاد لا تخلو صفحة واحدة منها من اقتباس أو إشارة إلى قصائد أو أحداث تاريخية مشهورة. في فصل موعظة النار من القصيدة، وظّف إليوت شخصية تايرسياس ليلعب دور المشاهد والمتأمل لحياة فتاة الطابعة، إذ يستطيع أن يرى روتينها اليومي من وظيفتها كآلة في مكتب عملها إلى بيتها الفوضوي وطعامها الذي هو عبارة عن بقايا الفطور ثم قدوم حبيبها وشعورها بالبرود تجاهه. يقول إليوت: "أنا تايرسياس، عجوز أجعد النهدين، أدركت ما رأيت ثم تنبأت بما تبقى" فهو يرى هذه المعاناة اليومية واختبر المأساة الإنسانية على مر العقود ويعلم عن الأحزان والمصائب قبل حدوثها، ولكنه لا يفعل شيئاً، يتأمل فحسب ولا يملك غير الشعور بالشفقة.
كل هذه الشخصيات شاهدة على مآسي وأحلام كثيرة، فهي ترى ما لا يبصره الآخرون، ولذلك هي دائماً أعلم وأخبر من كل الشخصيات الأخرى، ولكنها رغماً عن ذلك لا تفعل شيئاً حيالها بل تتأمل بأسى فحسب، ربما هي عاجزة عن إحداث التغيير، أو ربما هي لا ترغب فقط، وقد تكون يئست من البشر وتكرارهم المستمر لنفس الأخطاء على مر القرون. يتساوى المعنى واللامعنى في حضورهم، إذ يبدو أحياناً أنهم منمقات إضافية لا طائل منها، وفي أحيان أخرى يكمن في وجودهم المعاني كلها. شخصية المتأمل الصامت بمثل ما صورتها الأمثلة السابقة غير حقيقية وغير واقعية، ولكن هذا الشعور بالارتباط معها حقيقي وذلك ما يهم. وربما هو ذا السبب الذي نقرأ لأجله.
_________________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 26، مايو 2014:
http://alroya.om/ar/writers/266-writer022/101244-2014-05-25-12-08-02.html
وفي جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 27، مايو 2014:
http://www.araa.com/opinion/24594
وفي جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 27، مايو 2014:
http://www.araa.com/opinion/24594
اجد في نفسي بعض من هذه الصفات والتأملات، لذلك أعجبني جداً المقال، أحسنتِ
ردحذف