الاثنين، 25 نوفمبر 2013

في معنى الخوف... (شيءٌ من السينما والأدب والموسيقى)

في اجتماع حواري مع مجموعة من الأقرباء ناقشنا معنى الخوف بشكل شخصي لكل واحد منا. اختلفت آراؤنا وتوجهاتنا، فمنا من رأى الخوف في حشرة أو قطة صغيرة تقتحم غرفته وتتعدى على خصوصيته، ومنا من رأى الخوف في المرتفعات والأماكن المغلقة كالمصاعد وغيرها، وغيرنا فسر معنى الخوف من الناحية العلمية رابطاً هذا الشعور بخلايا دماغية. حين جاء دوري لأتحدث، قلتُ في البدء "ولكني لا أخاف من شيء." ووضحت أن المخاوف الطبيعية لكل إنسان مثل المرتفعات والحشرات والظلام وظواهر ما وراء الطبيعة وغيرها لا تنطبق علي ولا ترعبني، ثم سكت وأكمل البعض حديثهم. في نهاية الجلسة أدركتُ شيئاً صعقني، مخاوفي وهواجسي كلها آتية من مجموعة من الإقتباسات والصور! حين بدأتُ أعددهم، الواحد منهم تلو الآخر، التمعت عيناي رعباً وبدأتُ أرتجف. ضحكوا علي بالطبع لغرابة مخاوفي وضحكتُ معهم ولكن لا تزال هذه الفكرة مستحوذة علي لذا سأسردها علّ سردي يريحني رغم أنني سأشعر بعدها بأنني مكشوفة ومجردة.

حول المرايا والأقنعة والجنون
ألا تلاحظون معي أن الجنون مرتبط دوماً بالأقنعة؟! ففي قصة "كيف صرتُ مجنوناً" من كتاب جبران خليل جبران "المجنون" تُسرق أقنعة الراوي السبع في إحدى الليالي فيركض بين الناس وهو يلعن اللصوص الذين سرقوا أقنعته، فيضحكون عليه ويتهمونه بالجنون إلى أن يرفع وجهه العاري لأول مرة باتجاه الشمس فيدرك كم هي جميلة وأنه لم يعد بحاجة إلى أقنعته ويبارك اللصوص، ومن يومها وهو يُلقب بالمجنون. يطرح إميل سيوران نفس الفكرة في كتابه "المياه كلها بلون الغرق" ويقول: "نحن نحتمي بوجوهنا لكن المجنون يفضحه وجهه، إنه يمنح نفسه، يسبق الآخرين إلى اتهامه، لقد أضاع قناعه لذلك فهو ينشر حيرته، يفرضها على أول عابر، يفضح أسراره."

إذاً إن تخلينا عن أقنعتنا سنصبح مجانين؟ نحن بين شرين؛ الزيف والجنون، أيهما أهون وأيهما سنختار؟! أن نلبس قناع الاهتمام والمجاملة في الأوساط والمحافل الإجتماعية ونبتسم ونحن في دواخلنا نرى تفاهة وعدم جدوى هذه التجمعات؟ أن نغير في لبسنا واختيارنا لقطع ثيابنا مع تغير إسم البلد التي تطأها أقدامنا إرضاءاً لمجتمعنا؟ أن نكذب على أنفسنا حتى ننسى بأننا نكذب ويتداخل ويتمازج الكذب والزيف مع وجوهنا حتى نظن أنها نحن. لربما نحن نفعل ذلك لأن فكرة أن يرانا الآخر كما نحن تفزعنا، لأن أرواحنا وأفكارنا معقدة لذا من الأسهل ألا تظهر للناس، لأننا لا نحب دواخلنا وننتقدها، نريدها أجمل وأكمل فنسدل عليها ستاراً من المثاليات لتبدو كذلك، لأننا لا نطيق علامات الإستفهام على وجوه الناس الطالبة للإجابات والتوضيحات.

ولكن إل تورينو، إحدى شخصيات كتاب "كلمات متجولة" لإدواردو جاليانو إختار أن يواجه هذا العدو فهو دائماً يسير في البلدة حاملاً مرآة في يده وينظر إلى نفسه بجبين مقطب، وحين يسألونه الناس عما يفعل يقول "أنا هنا، أراقب الأعداء" فيصفونه بالجنون. أما شخصية المممثلة السويدية ليڤ أولمان، ممثلة المسرح إليزابيت ڤوجلر فقد إختارت الصمت بديلاً عن الكذب في الفيلم الأشهر لإنجمار برجمان "القناع" فتصارحها الطبيبة التي لم تستطع تشخيص أي مرض عضوي ليفسر صمتها المفاجئ وتقول في مونولوج مطول: "حسناً، أنا أتفهم، ذلك الحلم البعيد المنال حول أن تكوني، لا أن تترائي. تلك الفجوة بين من تكونين حين تصبحين مع الناس ومن تكونين حين تصبحين وحيدة. الإنتحار؟ لا، فذلك مبتذل وسوقي. ولكن بإمكانك أن ترفضي التحرك وترفضي التحدث، حتى لا تضطري إلى الكذب. بإمكانك أن تغلقي على ذاتك فلا يتوجب عليكِ أن تلعبي أي دور." ثم تكمل حديثها إلى أن تصل إلى نقطة مفزعة أخرى وتقول: "بإمكانك أن تستمري في لعبة الصمت هذه، إلا أن تملي من هذا الدور فتتركينه كما تركتِ أدوارك واحدة بعد الأخرى." وتنظر إليها إليزابيت طوال حديثها بنظرة ساهمة وعينين حزينتين وخائفتين.

يبدو أن الحلول المعتدلة تنقصنا فتأكلنا الحيرة ولا نملك سوى محاولة أن نصبح أصيلين، حقيقيين. لربما لو ظهر كلٌ منا بلا قناعه الذي يحتمي به لما كوّنا أية صداقات أو علاقات حب أو عائلات، وذلك هو الرعب بعينه. ولكن ذلك لن يحدث، فهيا نعزي أنفسنا بأن جميع سكان العالم تقريباً يعانون من المشكلة ذاتها.

حول الجدران
"لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟!" السؤال الذي صعق سائق الشاحنة في الرواية القصيرة لغسان كنفاني "رجال في الشمس" وطاردني لسنين طويلة مذ قرأتُ الرواية. إجابة هذا السؤال البسيط في شكليته وفي معناه ليست بتلك البساطة، فنحن نعترف ضمنياً بضعف الإنسان، بفقدانه للأمل، باستسلامه للقدر، بتخليه عن أحلامه، حيث الحلم البسيط يكمن في سقف وزوجة وقليل من المال لقضاء حاجيات الإنسان اليومية، حيث تحقيق الحلم سيكون في أرض خصبة وثرية وغير محتلة كفلسطين. ذلك السؤال هو صرخة رجل واحد مندداً بالقيادات العربية وبالشعب المهزوم وبالخليج الغني والعاجز.

ذلك هو الجدار المرعبُ الأول، فأما الثاني فمن القصة القصيرة "ورق الحائط الأصفر" لشارلوت بيركينس غيلمان والتي تحكي قصة إمرأة تم تشخيصها بالكآبة الحادة وكان علاجها في ذلك الزمن هو عزلها عن الناس في قصر ريفي وإصرار زوجها ألا تعمل وألا ترهق نفسها. المرأة الراوية، بخيالاتها الجامحة وتمردها الكامن، ترفض هذا العلاج وتبدأ في تأمل ورق الحائط الأصفر في غرفة النوم وسرعان ما يتضح لها أن هناك إمرأة خلف ذلك الورق وذلك الجدار تحاول الخروج والتحرر. في المشهد الأخير للقصة تقتنع الراوية أن عليها مساعدة تلك المرأة الحبيسة خلف الجدران فتبدأ في إزالة ورق الحائط إلى أن تتحرر المرأة وتبدأ تزحف على الأرض بظهر محودب وتتحد كلياً مع الراوية ليصبحا في جسد واحد وليكتشف القارئ أن الراوية ما حررت إلا نفسها. تقول الراوية قرب نهاية القصة: "لا أحب التأمل من النافذة، فأنا أرى هؤلاء النسوة الزاحفات، وهن يزحفن بسرعة شديدة. أتسائل إن خرجن كلهن من ورق الحائط ذاك مثلما فعلت أنا."

هذه القصة - والتي أتذكرها دوماً بشيء من الفزع لسبب لا أفهمه - تذكرني بأخرى مشابهة لها. يحكي فيلم "من خلال الزجاج المعتم" لإنجمار برجمان عن إمرأة إسمها كارين تعاني من الشيزوفرينيا ترخّص من المستشفى لتقضي إجازة الصيف مع عائلتها في جزيرة منعزلة. تنتظر كارين في الليالي المعتمة في علية منزلها خروج الرب من بين الجدران، فهي تؤمن بأنها ستراه وستحدثه وإيمانها ذاك يقودها إلى الجنون شيئاً فشيئاً. فكرة أن نرى الرب - كم هي مشوقة! فخيالات الإنسان المحدودة جداً لا تستطيع فهم هذه القوة العظمى وهذا السبب الكوني الأكبر. لذلك يقودنا الإيمان إلى التسليم به طوعاً وإنتظار نهاية هذه الحياة حتى نصل إلى الخلاص المنشود. ولكن يبقى السؤال الوجودي "ماذا لو لم يحدث ذلك" يقلقنا أحياناً كثيرة فنحاول قمعه بالإصرار على الإيمان.

شذرات من صور وكلمات
* وجه الممثلة ماريا فالكونيتي وهي تنظر ساهمة شاردة ضائعة إلى القضاة ورجال الكنيسة الذين اتهموها بالإلحاد، من الفيلم الشهير الذي صور أحداث محاكمة عذراء أورلينز "آلام جان دارك" للمخرج الدنمركي كارل ثيودور دراير.

* المقطوعة الأوبرالية "آلام القديس ماثيو" ليوهان سيباستيان باخ والتي هي عبارة عن توسلات وتضرعات القديس للرب بأن يرحمه.

* قول إميل سيوران "في كل مواطن من مواطني اليوم، يكمن غريبٌ قادم" وإدراكي أنه قال ذلك على الأغلب في ستينيات القرن الماضي، وظني بأن نبوءته تحققت في هذا الزمن، أول على الأقل بالنسبة لي.

* كلمات كريستوفر ماكيندلز الأخيرة، ذلك الشاب الذي كره الحياة المادية والمجتمع الإستهلاكي وفضّل السفر والترحال بعيداً عن عائلته وأصدقاءه، كتب في مذكراته قبل أن يموت متسمماً: "لا تكون السعادة حقيقية إلا حين تصبح مشتركة".

* "كرجل أعمى في غرفة مظلمة يبحث عن قطة سوداء غير موجودة." يُقال أن هذا الإقتباس لتشارلز داروين وهو يصف علماء الرياضيات، ولكن ذلك غير صحيح تماماً إذ أثبتت الأبحاث أن مصدر هذه الجملة غير معروف على وجه الدقة. عموماً، هل أنا الوحيدة التي تشعر بأن هذه الصورة مرعبة إلى حد كبير؟!

* مشهد سريالي من الفيلم القصير "الكلب الأندلسي" للمخرج الاسباني لويس بونويل: رجل يتأمل يده مندهشاً إذ يخرج النمل من فجوة في كفه.


بعيداً عن الرجال الذين يحدقون في وجوههم عبر المرايا والنساء اللاتي تحاولن الخروج من الجدران، كل ما كتبته عن الخوف إلى هذه النقطة يبدو لي سخيفاً، كل هذه الإقتباسات والصور السينمائية والروايات والقصص تبدو تافهة الآن وأنا أتذكر الحروب والطوفانات والأعاصير والزلازل والأمراض المميتة - كل الويلات التي لم أختبرها بعد، فأقول لنفسي أني لا أعرف معنى الخوف، لا أعرف بعد معنى كلمات كورتز الأخيرة قبل أن يموت في رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد "الرعب، الرعب".



هذا الوجه، لإمرأة صينية ناجية من زلزال قوته 6.6 رختر، عرف معنى الرعب

_________________________

نُشر المقال في صحيفة آراء الإلكترونية بتاريخ 24 نوفمبر، 2013 :
http://www.araa.com/article/78179

الجمعة، 2 أغسطس 2013

جدلية الأخلاق في "الوصايا العشر" لكيسلوفسكي

من أين تأتي الأخلاق؟ وكيف نحكم على الأمور بالصواب أو الخطأ؟ من أين يأتي الإحسان البالغ أو القسوة التي لا توصف؟

قد تبدو إجابات هذه الأسئلة سهلة للوهلة الأولى، قد يجاوبني أحدهم بقوله أن الأخلاق تأتي من الدين أو من قيم المجتمع، إذاً هل معنى هذا أن الأخلاق مسألة نسبية لا مطلقة؟ تتغير هذه العوامل بتغير أفكار وايدولوجيات الإنسان من مجتمع إلى آخر. فمثلاً، يستطيع الفرد العربي أن يصف من تخرج عارية الصدر من نساء دولنا العربية بكل سهولة بأنها "عديمة أخلاق"، ولكن هل يستطيع فعل ذلك مع نساء قبيلة "نياي نياي" في شمال ناميبيا اللواتي يمشين في صحارى كالاهاري من دون أي قطعة قماش تغطي صدورهن؟ حتماً سنفكر عدة مرات قبل وصفهن بهكذا وصف.
إن جزءًا كبيرًا من مفاهمينا للصواب والخطأ يأتي مما يسمى في الدراسات النقدية بالمتناقضات الثنائية Binary Opposition وهو زوجان من المفاهيم المتضادة في المعنى: الحق والباطل، الحلال والحرام، الشرق والغرب، الأبيض والأسود... الخ، وفرضية أن أحد هذين الزوجين أفضل من الآخر. هذه الأفضلية تسبب إشكالات عديدة على مر التاريخ، فهي التي دعت أدولف هتلر إلى أن يؤمن إيماناً لا شك فيه بأفضلية العرق الآري على بقية الأجناس البشرية، وهي السبب الذي جعل الدول الغربية تحتل دول العالم وتفرض حملاتها التبشيرية من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن العشرين، وهي أيضاً السبب في الصراعات الطائفية في دولنا العربية.
لستُ بصدد إبراز وجهة نظري الشخصية حول الإشكاليات الأخلاقية في هذا العالم ولكني رأيت ضرورة كتابة مثل هذه المقدمة التي تمهد لعمل سينمائي يُعتبر من أهم وأفضل الأعمال الدرامية التي صنعت خصيصاً للتلفاز وهو المسلسل القصير "الوصايا العشر" للمخرج البولندي الشهير صاحب "ثلاثية الألوان: أزرق، أبيض، أحمر" و"حياة فيرونيكا المزدوجة" كريستوف كيسلوفسكي.



يتألف المسلسل من عشر حلقات، وتمتد كل حلقة لحوالي ساعة أو أقل قليلاً. تدرس كل حلقة وصية من الوصايا العشر التي وجدها النبي موسى عليه السلام منقوشة على ألواح حجرية في جبل سيناء حسب التراث المسيحي واليهودي. تُعتبر هذه الوصايا قواعد أخلاقية عامة موجودة عند البشرية جمعاء، من قبيل: لا تسرق، لا تزنِ، لا تقتل، لا تشهد شهادة الزور، وغيرها. ولكن كيسلوفسكي لم يعرض قضية كل حلقة بشكل مواعظي وتوجيهي مباشر، بل عرض صراعات أخلاقية عميقة تجعل المشاهد في نهاية كل حلقة متسائلاً ومشككاً حول أبسط المبادئ الأخلاقية - أو ما تبدو كذلك!
جدير بالذكر كذلك أنه ليس هناك إرتباط أو تطابق مباشر بين كل حلقة ووصية من الوصايا العشر، لأن الكثير من الحلقات تعرض قضايا أخلاقية تتمحور حول أكثر من وصية واحدة، فمثلاً الحلقة السابعة والعاشرة متعلقتان بالسرقة، والحلقات الأولى والرابعة والسابعة تتحدث عن إشكاليات في قضية الأبوة والأمومة، وهكذا تتداخل بعض الوصايا مع بعض الحلقات ولكن يستطيع المشاهد في حلقات أخرى أن يربط بين الحلقة والوصية بشكل مباشر. كل حلقة من الحلقات تحكي قصة مختلفة لأبطال مختلفين ولكن الجامع بين الحلقات حسبما أرى هو شيئان: جميع الشخصيات تعيش في نفس البناية السكنية في عاصمة بولندا "وارسو"، حتى أن بعض الشخصيات من حلقات مختلفة تلتقي في بعض الأحيان في البناية، والجامع الثاني هو وجود رجل واحد بلا إسم في كل الحلقات تقريباً يتأمل الشخصيات الرئيسية في لحظات مهمة من الحلقة مؤدياً أدواراً مختلفة مثل متشرد، أو طالب في الجامعة، أو سائق دراجة.



لا يعلم المشاهد من يكون هذا الرجل المتأمل الذي لا يتدخل أبداً، وحين سُأل كيسلوفسكي عنه قال: "لا أعلم من يكون، هو مجرد إنسان يأتي ويراقبنا، يتأمل حياتنا. وهو غير راضٍ عنَّا". بعض النقاد السينمائيين إعتبروا أن هذا الرجل يمثل المسيح، مثل الناقد الأمريكي الشهير روجر إيبرت، وبعضهم إعتبر أنه الرب أو ملك من ملائكته. كائناً من يكون، وجوده ونظراته المتأملة والحزينة دائماً ما تضفي على الحلقات طابعاً فلسفياً عميقاً يجعل المشاهد يتسائل بعد مشاهدة الحلقة فيما إذا إستطاع هذا المتأمل أن يغير الأحداث لو نبس بكلمة واحدة فقط؟

يدرس مسلسل "الوصايا العشر" رغبة الفرد في البحث عن هوية، والصراع الذاتي والأخلاقي الذي يجعل الإنسان يتخذ القرارات الخاطئة في بعض الأحيان، كما أنه يعرض للمشاهد الأسباب الكثيرة التي تجعل الإنسان يكسر القواعد أو - إن شئتم - الوصايا. تدرس الحلقة الأولى علاقة أب بإبنه الصغير، الأب أستاذ في الرياضيات في إحدى جامعات بولندا، ويحب التكنولوجيا ويؤمن بالعلم في حين أنه لا يؤمن بالديانات. أما الإبن ذو الإحدى عشرة عاماً فهو شغوف أيضاً بالعلم ويحب الإستكشاف والتأمل ويحمل أسئلة كبيرة – كحال جميع الأطفال الذين لا يزالون يحتفظون بالدهشة الأولى.

تساؤلات الطفل وإيمان الأب بالعلم جلي في أحد مشاهد الحلقة، حين يرى الطفل كلباً ميتاً وممدوداً على الأرض خارج منزلهم، ثم يرجع المنزل ليسأل والده عن الموت، ماهيته وماذا يحدث حين يموت. يجاوب الأب بشكل مبسط أن القلب يتوقف عن العمل ولا يصل الدم إلى الدماغ فتتوقف كل الأعضاء عن العمل. ثم يقول الطفل: "أرجو أن ترقد روحها في سلام، لمَ لمْ تذكر أي شيء عن الروح؟" فيرد الأب: "هذه كلمات وداعية فقط. لا يوجد روح، تؤمن الناس بوجود الروح لأن الحياة ستكون أسهل هكذا".



في أحد الأيام يود الطفل أن يذهب للتزلج على الماء المتجمد في بركة قريبة، وبمعيّة والده وبمساعدة الحاسوب يحسبون معاً مدى سماكة الجليد وفيما إذا كان صالحاً للتزلج أو لا. يقرر الأب أن البركة متجمدة بما فيه الكفاية لتصبح صالحة للتزلج ويسمح لإبنه الصغير أن يذهب ليتزلج مع أصدقاءه. يثق الأب بحساباته، يثق بالحاسوب وبالأرقام، وكيف لا وهو أستاذ الرياضيات في الجامعة؟ ولكن إيمانه المطلق بالعلم يخذله، إتخاذه للعلم إلهاً له جعله يندم، وهنا تأتي الوصية الأولى: "أنا الرب إلهك، لا يكون لك إله غيري".

تبدو دوروتا قلقة وهي تزور الطبيب في الحلقة الثانية من المسلسل. زوجها مريض وطريح الفراش في المستشفى، فتسأل الطبيب سؤالاً حرجاً: هل سيموت زوجي قريباً أم أنه سيعيش؟ يتضح للمشاهد أن دوروتا حامل من رجل آخر، فزوجها عقيم، وهي تريد أن تقرر: إن عاش زوجها فستجهض الطفل في بطنها، وإن مات زوجها فستحتفظ بالطفل. أمام إلحاح وقلق دوروتا، لا بد للطبيب أن يقرر، أن يصبح الإله من خلال كلمة نعم أو لا، يموت أو لا يموت، وبذلك يربط المشاهد بين هذه الحلقة والوصية الثانية من وصايا الرب لموسى "لا تحلف باسم الله باطلاً".

الحلقة الثامنة من "الوصايا العشر" تتحدث عن أستاذة في علم الأخلاق إسمها صوفيا، تلتقي بمترجمة أعمالها إليزابيت والتي أتت إلى بولندا لتعمل على بحث حول مصير اليهود الذين نجوا من النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. تطرح إليزابيت أثناء محاضرة لصوفيا قضية أخلاقية مقتبسة عن قصة حقيقية: في وارسو، بولندا عام ١٩٤٣ تؤخذ طفلة يهودية عمرها ستة سنوات هاربة من الحرب إلى زوجان من الديانة الكاثوليكية واللذان وعدا أن يتبنوها ويصبحان أبويها بالتعميد الكاثوليكي، وذلك لكي يحموها من النازيين. ولكن في آخر لحظة يتراجع الزوجان لأنهما لا يريدان أن يشهدوا بالديانة الكاثوليكية للطفلة في حين أنها يهودية، لا يريدان أن يشهدوا شهادة زور أمام الرب الذي يؤمنون به. ولأجل هذا المبدأ الديني، هذه الوصية، يتخليان عن وعدهما ويتركان الطفلة أمام خطر الموت من القوات النازية التي لا تفرق بين الأطفال والكبار.

تعمدتُ طرح قصة بعض الحلقات بغير تعليق مباشر حول القضايا الأخلاقية المعروضة، ولكن من الواضح أنها ليست قضايا تقع في إحدى خانتي المتناقضات الثنائية فليس هناك خط واضح وفاصل بين الأبيض والأسود وبين الصواب والخطأ، مما يدلنا على نسبية "الحقيقة"، وربما تكون هذه رسالة كيسلوفسكي التي أراد إيصالها للمشاهدين - مثلما هناك إستثناءات لكل قاعدة ولكل وصية، هناك إستثناءات لكل حقيقة نؤمن بها.
ولعلنا لا نزال داخل الكهف، مقيدون، ونرى ظلال الأشياء أمامنا لا حقائقها. لعل الفيلسوف الذي يؤمن أفلاطون أنه هو الذي سيتخلص من القيود ويخرج من الكهف ليرى الأشياء بحقيقتها هو أيضاً الفنان أو العالِم أو الكاتب - لعله أنت.

_____________

نُشر المقال في صحيفة آراء الإلكترونية بتاريخ 31-07-2013 ، الوصلة:

http://www.araa.com/article/67678

وصلات خارجية:

هنا الحلقة الأولى من المسلسل بترجمة إنجليزية:

https://www.youtube.com/watch?v=PPk_1qYBKE8

الثلاثاء، 19 مارس 2013

"دعاء الكروان"


بطاقة الفيلم:
دعاء الكروان (1959)
اللغة: العربية
إخراج: هنري بركات
بطولة: فاتن حمامة، وأحمد مظهر، وزهرة العلا
الجوائز والترشيحات: رشح لجائزة أحسن فيلم في مهرجان وبرلين، ووصل إلى التصفية النهائية ضمن أفضل خمسة أفلام أجنبية لجوائز الأوسكار، كما استحق عدة جوائز محلية.

"وهذا صوتك أيها الطائر العزيز يحمله إليّ الهواء من بعيد فيبلغني ضئيلا ً، ولكنه على ذلك يشيع في سكون الليل كما يشيع الضوء في الجو.وهذا صوتك أيها الطائر العزيز يدنو مني شيئا ً قشيئا ً فيملؤني أمنا ً ودعة وهدوءا ً وحزنا ً معا.. إنه يردني إلى اليقظة الخالصة التي تشعر بنفسها وتفكر في نفسها وتذكر ما مضى على علم به وتقدير ٍ له.. وتستقبل ُ ما سيأتي في رويّة وبصيرة واستعداد للاحتمال" - طه حسين، رواية "دعاء الكروان"

ما بين ما مضى وما سيأتي الكثير، وما بين ماض بسيط وحياة غير متكلفة، ومستقبل مبهم وغامض ومشؤوم، يأتي فيلم "دعاء الكروان" ليجسد قصة ملحمية في الحب والكراهية، والشد والجذب، وتناقضات المشاعر المتشابكة. فيلمنا المقتبس عن رواية بنفس الاسم للأديب المصري الكبير طه حسين يعد من أشهر الأفلام المصرية الكلاسيكية، وقد لاقى نجاحاً باهراً منذ إخراجه سنة 1959 وإلى يومنا هذا لا يزال يستقطب المعجبين من كافة الدول العربية. الفيلم من إخراج هنري بركات وتمثيل سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة التي أدت دور "آمنة"، وزهرة العلا التي مثلت دور أخت آمنة "هنادي"، وأحمد مظهر الذي أدى دور المهندس. يرى معظم النقاد أن هذه الثنائية بين بركات وفاتن حمامة هي الأكثر نضجاً للإثنين – حيث كان إبداع الإخراج لبركات في أجمل مظاهره، وجمال التمثيل لفاتن حمامة وقدرتها على تجسيد شخصية معقدة للغاية من الناحية النفسية في أقوى تجلياته.

تتحدث قصة الفيلم عن فتاة ريفية بسيطة تخطط للانتقام من شاب مهندس كان السبب في غواية أختها التي كانت تعمل عنده كخادمة ووقوعها في حبه مما أدى إلى قتلها على يد خالها في قضية شرف. تعاهد آمنة نفسها في القرية ومع صوت غناء الكروان أنها ستنتقم لأختها من ذلك المهندس الذي يبدو أنه فعل بها مثلما فعل مع الكثير غيرها – إذ أنها كانت مجرد رقم يُضاف إلى قائمة طويلة من الفتيات اللاتي تم إغوائهن. تعتزم على أن تعمل لدى المهندس الأعزب هي الأخرى كخادمة بنية قتله، وهكذا تتطور مجريات القصة إلى أن تصل إلى النهاية المأساوية، مع تداخل عدة عناصر وعدة قصص أخرى قصيرة – مثل قصة خديجة ابنة المأمور، وقصة زنوبة الرقاصة – مع القصة الرئيسية.

ما أبهرني في قصة الفيلم إلى جانب عناصر أخرى هو تطور الشخصية الرئيسية والتغيرات التي طرأت عليها والتي أدت إلى نضوج شخصيتها وتعقيدها في آن واحد. فآمنة التي كانت في البدء فتاة تميل إلى السذاجة والبساطة والحياء الشديد تغيرت مع تطور الأحداث لتصبح آمنة القوية التي رسمت مستقبلها واختارت مصيرها بنفسها. في بادئ الفيلم، كانت آمنة تعمل كخادمة لدى المأمور، آمنة التي عاشت قبل ذلك في بيت بسيط في بادية مصر وتحمل جرة الماء وتذهب إلى النهر وتعجن مع أختها وأمها، أصبحت تعمل في منزل بحديقة غناء لدى ابنة المأمور المدللة خديجة التي تتعلم الفرنسية وتعزف البيانو. في إحدى مشاهد الفيلم اللطيفة، تنبهر آمنة من البيانو الذي لم ترى مثله من قبل، فتصفه لأختها هنادي بأنها "ماكينة اسمها البيانة، سودا ولها صوابع بيضا، أول ما الست (تقصد بها خديجة) تلمسها، تقولي ساكنها جان وتسمعي كراونات الدنيا كلها"، هذا الربط بين غناء الكروان وعذوبة صوت البيانو من أرق ما سمعت في الربط ما بين الموسيقى والطبيعة، وما الموسيقى إلا امتثال لأوامر الطبيعة! أما في مشهد آخر، بعد تطور شخصية آمنة ونضوجها، تقول للمهندس: "الصياد عمره ما افتكر في الطير اللي وقع، كل همّه في الطير الجديد.. دايماً العصفور هو اللي غلطان والصياد ما عليهش لوم" يتضح من هذين المشهدين تغير صورة العصفور من كائن بسيط يغني ويحب الحياة إلى ضحية للصياد – لكأن آمنة تمثل عصفور الكروان في حالتيه، فرحه وحزنه، غناءه وشجيه.

وصفت رواية "دعاء الكروان" لطه حسين بأنها رواية شعرية لكثرة الإطناب والإسهاب فيها وكثرة حديث ومناجاة النفس، وأرى أن الفيلم أيضاً ممكن وصفه بالشاعرية، وذلك لكمية المشاعر التي تولدها في المشاهد حين يتفاعل مع شخصيات الفيلم المغزول بمشاعر الحب والكره والانتقام والتوبة والشرف والخداع وغيرها من المشاعر المتناقضة. ليس ذلك فحسب، بل وحتى أسلوب التصوير والإضاءة والتمثيل خدموا جميعاً شاعرية الفيلم فلكأنه قصيدة ملحمية طويلة من قصائد نساء البادية والصحراء.
__________________

رابط الفيلم  كاملاً على اليوتيوب: http://www.youtube.com/watch?v=Rf02Nzpa0KQ 

الجمعة، 15 مارس 2013

ثيودورس انجلوبولس: جامِع التحديقات الإنسانية المتلاشية



اليونان: المرج ذو الأعشاب التي تقطر ندى لتكون منبع النهر، الطفلة التي تبحث عبثاً عن أباها الذي تركها، الحبيبة التي فقدت حبيبها في حرب لا تمت إليه بصلة، الشجرة الوحيدة في الضباب، الشاعر الذي يشتري الكلمات ليكتب أغنيات الثورة، التحديقة الأولى، الفرقة المسرحية التي تبيع أزيائها على شاطئ البحر...


صور متعددة تمثل جميعها دولة اليونان بالنسبة للمخرج ثيودوروس انجلوبولس، وهكذا كان همه السينمائي يتمحور حول الهوية والوطن والمنفى ورحلة الاستكشاف والبحث عن الأشياء المفقودة. هذه الثيمات المتكررة في أفلامه بمعية الصور المتكررة مثل الزفاف، المظلات السوداء، الضباب، الملاءات البيضاء، والبحر وغيرها جعلت لسينماه هوية خاصة بها يستطيع أي هاوٍ أن يميزها عن غيرها من الأفلام.
إن ثيو المخرج السينمائي لا يختلف كثيراً عن ثيو الإنسان اليوناني بحيث نجد في أفلامه نواحي عدة من قصة حياته وسيرته الذاتية. ليس بالضرورة أن تكون سينماه سرداً محكماً تفصيلياً لنواحي حياته المختلفة، بل هو يأخذ صوراً متفرقة من ذاكرته ويخرجها في أفلامه كمثل الجندي الألماني وهو يوجه حركة المرور، أو صوت صفارات الإنذار أيام الحرب. وقد أقر ذلك بنفسه في إحدى اللقاءات الصحفية معه حيث قال: "خلال الحرب الأهلية اليونانية، ليس فقط عائلتي انقسمت إلى شيوعيين ومعادين للشيوعية، بل أن أبي كان قد تعرّض للاعتقال على أيدي الشيوعيين وحكم عليه بالموت، غير أنه استطاع الهرب والنجاة. وقتئذ، وكنت في التاسعة من العمر، أخذتني أمي إلى حجرة مليئة بالجثث للتعرّف على جثة أبي. كيف بوسعي ألا أتأثر بعمق بما يحدث حولي مثلما أتأثر بكل لحظات السعادة والحزن، اللغة، المنظر الطبيعي.. وغير ذلك." لذا كانت اليونان وتاريخها ومآسيها دوماً حاضرة في أفلامه سواء كانت أفلام تاريخية تحكي قصة جماعات أو أفلام شخصية تحكي قصة أفراد أو أفلام تجمع بين هاتين الثيمتين. فيما عدا تأثره بتاريخ اليونان ومرورها عبر كل تلك الحقب التاريخية من سلطة ديكتاتورية إلى الحرب العالمية إلى الحرب الأهلية، فقد تأثر انجلوبولس أيضاً بمجموعة من الشعراء والأدباء والمفكرين اليونانيين وغير اليونانيين أمثال تي إس إليوت وريلكه وجيمس جويس وفولكنر وسيفيريس، كما نجد تأثير الميثولوجيا الإغريقية جلية أيضاً في أفلامه عبر ملاحمها الشهيرة كالأوديسة والإلياذة وغيرهم، وهو في أحيان كثيرة يقتبس اقتباسات مباشرة من أعمال هؤلاء ليضعها ضمن سيناريو سينماه لتخلق جواً شاعرياً ساحراً، كقوله مثلاً على لسان إحدى شخصيات فيلم "تحديقة عوليس": "في البدء كانت الرحلة"، وهي اقتباس مباشر لإحدى قصائد الشاعر اليوناني جورج سيفيريس. وكقوله أيضاً على لسان أحد الأطفال في فيلمه "الأبدية ويوم": "ما هو الزمن؟ الزمن طفل يلهو بالحصى على حافة البحر" وهو اقتباس مباشر أيضاً للفيلسوف اليوناني هيرقليطس. مع كل هذه العوامل والتأثيرات، أتت أفلام انجلوبولس لتحاكي مأساة الإنسان والهوية والوطن، وإن كانت المأساة تخص اليونان ولكنها بألم واقعها تصور كافة البلدان الأخرى التي مرت بتجارب الحرب، وتدمج ذلك بشكل جميل بالتجارب الذاتية لشخوص أبطالها.

سوف أقوم بالتركيز على أربعة من أفلام ثيو انجلوبولس وهم: "الأبدية ويوم"، و"منظر طبيعي في السديم"، "وتحديقة عوليس"، و"المرج الباكي" بالتركيز على الثيمات التالية: رحلة البحث عن المفقود، اللقطات الطويلة والزمن اللاحقيقي، ورمزية المرأة والوطن، وعامل السريالية والغرائبية في أفلامه.



"نحن نسافر.. البعض منا يسافر للأبد.. للبحث عن أوطان أخرى، حيوات أخرى، أرواح أخرى" – آناييس نِن
إن مفهوم الرحلة يُعتبر أحد الثيمات الأساسية والمشتركة في جميع أفلام انجلوبولس بحيث يوجد دائماً شيء مفقود وشخصية تبحث عنه، ولو كان بشكل رمزي غير مباشر. فيلم "منظر طبيعي في السديم" يتحدث عن أخ وأخته يهربان من منزلهم لأن أمهم أخبرتهم أن أباهم الذي لم يرونه طوال حياتهم يعيش في ألمانيا، فيذهبان إلى محطة القطار ويقفان طويلاً أمام القطار، مترددان في الركوب إلى أن يذهب القطار، يكرران ذلك عدة مرات في بداية الفيلم إلى أن يقررا أخيراً أن يركبا القطار. يصادفان في رحلتهما عدة أشخاص وعدة صعوبات، فعالمهما الوردي الجميل سرعان ما يتصادم مع الواقع القاسي – إذ ليس كل الناس لطفاء، ولا الطبيعة دوماً حنونة. يشهدان عروساً تبكي وهي خارجة تركض من قاعة الاحتفال، فيلحقها ما يبدو وأنه زوجها، ثم عربة تجر حصاناً يحتضر ثم ينقطع الحبل ويُترك الحصان فيركض الصغيرين نحوه ليحدقا فيه وهو يحتضر، ثم تقع الأخت – في الحادية عشر من عمرها – في حب شاب يساعدهما في رحلتهما وتبكي حين تكتشف أنه لا يحبها – إنها رحلة المعرفة، رحلة اكتشاف الذات والبحث عن الجذور والهوية. في أكثر من موضع تكرر الأخت لأخاها الصغير عن قصة خلق العالم فتقول: "في البدء كان الظلام ثم كان هناك ضوء. الضوء انفصل عن الظلام، والأرض انفصلت عن البحر، وخُلقت الأنهار والمحيطات والجبال. بعد ذلك خُلقت الزهور والأشجار، الحيوانات والطيور.." وبشكل غير مباشر تتمثل هذه القصة في رحلة الطفلين فهما يبدأن الرحلة في الظلام، وتنتهي الرحلة إلى الضوء – ولو كان ضوءاً وهمياً مثلما نرى في نهاية الفيلم.
أما الفيلم الآخر الذي يعرض مفهوم الرحلة فهو "تحديقة عوليس". يعرض الفيلم في بدايته مقطع من فيلم قديم يُسمى "النسّاجون" والذي يُقال بأنه أول فيلم صُنع في تاريخ اليونان أو دول البلقان على وجه الأصح، ويتسائل بطل الفيلم وهو مخرج أفلام: "ولكن هل هو حقاً أول فيلم؟ هل هي أول تحديقة؟" في إشارة منه إلى امرأة طاعنة في السن تنسج وتغزل وهي تحدق في الكاميرا. ثم يتضح للمشاهد قصة الفيلم وهي أن هذا المخرج يؤمن بأن هناك فيلماً أقدم من هذا الفيلم وهو من عمل الأخوان ماناكياس، فيذهب في رحلة بحثاً عن هذه الأفلام المفقودة. ها هو هذا المخرج المنفي عن اليونان، القادم من الولايات المتحدة، يذهب إلى اليونان أولاً ثم يتقفى آثار هذا الفيلم فيسافر عبر الحدود إلى ألبانيا ومقدونيا وبلغراد ورومانيا وأوكرانيا وصربيا وكرواتيا والبوسنة، متسائلاً طوال رحلته: "كم من التخوم علينا أن نعبر حتى نصل إلى أوطاننا؟" فهذه الأفلام المفقودة تمثل ما تبقى من ذاكرة اليونان، هي على لسان البطل: "المناظر الطبيعية في اليونان، الأعراس، الزبائن المحليين، التغييرات السياسية، القضايا القروية، الثورات، الحروب، الاحتفالات الرسمية، السلاطين، الملوك، الوزراء، الأساقفة، الثوار" – هي ببساطة التاريخ، هو يبحث عن التاريخ، هوسه بوطنه وبهويته جعله يشد الرحال بحثاً عن هذه الأفلام/  الهوية / الوطن المفقود. في أحد المشاهد البديعة للفيلم، يستقل البطل سيارة أجرة ليذهب إلى ألبانيا. تتوقف السيارة في وسط عاصفة الثلج القوية، ويخبر سائق الأجرة البطل أن الثلج أخبره بأن يتوقف، ثم يقول: "أتعلم، إن اليونان تحتضر. نحن كشعب، نحتضر. لقد وصلنا إلى نهاية الدائرة المتكاملة" ثم يخرج من سيارة الأجرة ويصرخ وسط العاصفة قائلاً: "ولكن إن كانت اليونان ستموت، فمن الأفضل لها أن تفعل ذلك سريعاً... لأن العذاب الذي يطول يصدر الكثير من الضوضاء" ثم يكمل كلامه صارخاً في اللامكان: "أيتها الطبيعة، أنتِ وحيدة! أنا وحيد أيضاً، خذي قطعة البسكويت هذه" ثم يرمي قطعة بسكويت في الفضاء في مشهد قد يكون به نكهة كوميدية ولكنه عميق ومؤثر جداً.هل يبحث المخرج عن هذه الأفلام لكي لا تموت اليونان؟ هو حتماً لا يريد لها الموت، ويرى أن تلك الأفلام سوف تنقذ اليونانيون مما هم عليه من حروب ومآسي، مثلما قد ينقذ الفن هذا العالم، بجماله وتسامحه ودعوته الدائمة إلى تقدير الجمال. لو تأملنا أيضاً إسم الفيلم "تحديقة عوليس" فهو يحمل أكثر من معنى يرمز إلى الرحلة، فالتحديقة قد تكون بمعناها البسيط هي تلك التحديقة التي ظهرت في أول فيلم يوناني "النساجون" لإمرأة عجوز، مثلما وصفها بطل الفيلم في إحدى المشاهد: "تحديقة تكافح لأجل الانسلاخ من الظلام.. تحديقة بمثابة الولادة الأولى"، وأما عوليس فلا ذكر له في الفيلم بتاتاً، وكما نعلم فإن عوليس – وهذا هو الإسم اللاتيني عن الإسم الإغريقي أوديسيس – هو بطل ملحمة هوميروس الشهيرة "الأوديسة" والتي تتحدث عن ملك إيثاكا الذي استغرق عشر سنوات للرجوع إلى منزله بعد حرب طروادة بسبب غضب إله البحر بوسيدون بعدما لعنه لأنه فقد أحد أصدقاءه في الحرب، حتى رجع إلى زوجته بينلوبي التي ظلت وفية له طوال تلك السنين. وبالإضافة إلى كون عوليس بطل الأوديسة فهو أيضاً إسم رواية جيمس جويس الشهيرة التي تحاكي رحلة بطلها، وقد ذكرنا سابقاً تأثر انجلوبولس بالميثولوجيا الإغريقية وبالروائي الإيرلندي جيمس جويس.
"أن تكون هو أن تتغير، أن تتغير هو أن تنضج، وأن تنضج هو أن تستمر في خلق نفسك إلى ما لا نهاية" – هنري برغسون
إن أسلوب ثيو انجلوبولس في تصويره للقطاته السينمائية كأسلوب الشاعر في اختيار كلمات قصائده، هو لا يريد أن يصور المشهد ومعناه فحسب بل ينتقي بكل دقة زوايا التصوير والصورة والطبيعة وإلى غيرها من الأمور التي تجبر المشاهد على تأمل المشهد الذي أمامه والاهتمام بكل تفاصيله الجمالية وكأنه قصيدة شعرية. قلما يستخدم انجلوبولس اللقطات المتقطعة في أفلامه، فهو يفضل اللقطات الطويلة والصور المتواصلة بلا انقطاع، وكمثال على ذلك فإن فيلمه "الممثلون الجوالون" يتألف من 80 لقطة فقط رغم أن مدة الفيلم حوالي 4 ساعات، وللمقارنة فإن الأفلام الأمريكية عادة ما تحتوي على 600 إلى 2000 لقطة في فيلم بطول ساعة ونصف! (أجرى هذه المقارنة الناقد السينمائي أمين صالح في كتابه براءة التحديقة الأولى)، وذلك يتماشى عادة مع ذوق المشاهد العام للأفلام الذي يحب الإثارة واللقطات القصيرة والمتقطعة والسريعة، وقد لا يطيق الملل في اللقطات الطويلة بحيث تبدو بطيئة في بعض الأحيان، وقد قيل أن انجلوبولس مخرج صعب لا يحبه غير المتذوقين للأفلام والذين يرون أن السينما فن بصري، لا فقط وسيلة تسلية. عندما يستخدم انجلوبولس تقنية العودة إلى الزمن أو الزمن اللاحقيقي فهو لا يغير في الألوان ولا يستعمل الفلاشباك ولا يوحي بأن الزمن تغير بأي من التقنيات البصرية، وذلك جلي في إحدى مشاهد فيلم "الأبدية ويوم"، حيث يعيش البطل الكساندر وهو كاتب وشاعر الكبير في السن أيامه الأخيرة حراً لأنه سوف يذهب إلى المستشفى لتشخيص حالته المرضية المميتة، وفي طريقه يصادف طفلاً صغيراً ألبانياً يريد العودة إلى وطنه فيساعده الرجل العجوز، يعيش طوال مجريات الفيلم والتي تمتد ليوم واحد في بوتقة الماضي والحنين إليه. يرى زوجته المتوفاة وعائلته وهم في عز شبابهم – وهو ما يبدو أنه أسعد أيام حياته – ويعيد تصوير هذه المشاهد التي يتذكرها من شبابه، ولكن بهيئته العجور، حيث يرقص مع زوجته وعائلته على شاطئ البحر في مشهد واحد طويل من غير تقطيع أيضاً. يبدأ المشهد مع دخول الرجل لمنزله القديم ليفتح باب الشرفة ليرى أمه وهي تهدهد ابنته الصغيرة – وتظهر في الفيلم في مشاهد الزمن الحقيقي على هيئة امرأة بالغة متزوجة – في حين أن عائلته وزوجته يرقصون على البحر بأنغام فرحة بقدوم المولودة الجديدة. في حركة تصويرية بديعة تنتقل الكاميرا بسلاسة من أعلى الشرفة إلى أسفلها ثم تتقدم لتصورهم وهم يرقصون، لنرى الكساندر يمشي ببطء نحو زوجته ليرقصوا معاً، فيسألها: "كم من الوقت سيدوم الغد؟" في مفهومنا الاعتيادي، فالغد، ككل الأيام، سيدوم 24 ساعة، ولكن زوجته ترد عليه همساً: "الأبدية ويوم"، وذلك اقتباس غير مباشر من مسرحية شكسبير "كما تحبها".
في أحد المشاهد البديعة من فيلم "تحديقة عوليس" فإن انجلوبولس يصور مشهداً طويلاً بلا انقطاع من عشر دقائق تقريباً يعرض فيه رقص عائلة البطل في ليلة رأس السنة وعلى مدى 5 سنوات من عام 1945 إلى عام 1950. يبدأ المشهد بدخول البطل إلى منزله بصحبة أمه وتستقبله عائلته، ثم يدخل الأب العائد من الحرب في عام 1945 وترقص العائلة فرحاً بعودته، إلى أن يدخل رجال الأمن المنزل ويقطعون رقص العائلة ليسحبوا أحد أفرادها معهم فيصرخ ذلك الفرد: عام 1948 سعيد جميعاً، ثم يذهب معهم، وذلك يبين إعتقال الأمن الحكومي المناهض للشيوعية لأحد أفراد العائلة المنادية بالديموقراطية وذلك من آثار الحرب الأهلية اليونانية. ثم تستكمل العائلة الرقص ويعلق أحدهم ويخبر والد البطل: "لقد حصلت على الترخيص أخيراً.. سوف تذهب إلى اليونان" وذلك لأن العائلة كانت في ذلك الوقت تعيش في رومانيا، بوخارست تحديداً، إثر النزوح بسبب الحرب. ثم تستكمل العائلة الرقص إلى أن تأتي عاملة المنزل وتصرخ: "اللجنة الشعبية للمصادرة أتت"، ويدخل مجموعة من الرجال المنزل ويصادرون أثاثه في حين تكمل العائلة الرقص غير مبالية ويقول أحدهم: "تجاهلوهم، فلنكمل الرقص، عام 1950، عام سعيد جميعاً" إلى أن يأتي الرجال ويصادرون آلة البيانو التي كانوا يرقصون على أنغامها. يقول انجلوبولس حول هذا المشهد: "مشهد واحد في الفيلم، يدور في حجرة واحدة، هو ليس في زمن حقيقي على الإطلاق: خمس سنوات - خمس سنوات من تاريخ عائلة واحدة، تاريخ رومانيا، تاريخ أوروبا من معسكرات الاعتقال إلى الستالينية – تمر أثناء رقصة فالس قصيرة". وكما في فيلم "الأبدية ويوم" فإن البطل يعيش كل هذه الأحداث مرة أخرى حين عاد إلى بوخارست للبحث عن الأفلام المفقودة، فهو هنا يستذكر مشاهد من طفولته في بوخارست ولكنه حاضر بجسده البالغ ويحضن أمه ويرقص معها ويفرح بمجيء أباه وكأنه لا يزال طفلاً. عاد إلى منزله بهيئته التي عرفناها بها طوال الفيلم، ليرى كل شيء كما كان عليه، ليرى والده ووالدته وعائلته بهيئتهم القديمة وكأنهم لم يكبروا في السن أبداً. يدرك المشاهد ذلك في نهاية اللقطة حين تجتمع العائلة لأخذ صورة فوتوغرافية جماعية وتنادي الأم بابنها: "تعال هنا.. ألا تريد أن تتصور؟" فيجاوبها البطل بصوته الرجولي البالغ: "أنا آتٍ يا أمي" لنرى طفل صغير يركض نحو الأم. هذا الانتقال السلس بين الماضي والحاضر يكاد يكون سمة أساسية في أفلام انجلوبولس، وقد تكون مزعجة في بعض الأحيان للمشاهد المعتاد على الزمن الخطي المتسلسل وعلى وضوح البداية والنهاية، ولكنها باعثة على التفكير والتأمل في كل الأحيان.
"أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله." – غسان كنفاني
لطالما كانت ثنائية المرأة والوطن حاضرة في مختلف أنواع الآداب والفنون، فبين ريتا محمود درويش وبلقيس نزار قباني، تأتي شخصيات أفلام انجلوبولس لتعطي قصة أخرى بطابع يوناني الهوية، وعالمي الفحوى. يتحدث فيلم "المرج الباكي" حول قصة إمرأة يونانية إسمها إيليني، فقدت أهلها في الثورة البلشفية في روسيا حيث كانوا نازحين فعادت مع العائلات اليونانية الهاربة من روسيا لتستقر في اليونان. تشبثت وهي صغيرة بابن إحدى العائلات الصغيرة المكونة من أب اسمه سبايروس وزوجته وابنهما الذي يُدعى آليكسيس، وهكذا كبرت مع تلك العائلة حتى أصبحت فتاة يافعة وأحبت آليكسيس منذ الصغر وأنجبت منه توأمين (يورخي وياني) والذين تم التخلص منهم بسبب العار وتركهم تحت رعاية إحدى العائلات الغنية. حين توفت الأم ومع حزن زوجها سبايروس عليها، قرر أن يتزوج إيليني ولكنها في يوم زفافها هربت مع آليكسيس ليهيما حول اليونان بلا منزل يأويهما، معتمدان دوماً على لطف الغرباء. بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة التي تحكي قصة إيليني وزوجها آليكسيس وابنيهما يورخي وياني، فإن "المرج الباكي" يحكي تاريخ اليونان من عام 1919 وخوضها في الحرب العالمية والحرب الأهلية والفيضانات التي واجهتها، فكأن إيليني هي الوطن، وزوجها آليكسيس هو الشعب، وابنيهما يورخي وياني هما المستقبل. تفترق العائلة إثر الحرب العالمية والحرب الأهلية، فيذهب الزوج آليكسيس إلى الولايات المتحدة ليلتحق بفرقة موسيقية، وحين يكبر الإبنان يلتحق كل منهما بجبهة معادية للأخرى في خلال الحرب الأهلية. في إحدى المشاهد حين تودع إيليني زوجها في الميناء، فإنها تهديه نسيجاً من الصوف، يأخذ الزوج خيطاً منه وتتمسك هي به إلى أن يبدأ النسيج في التفكك، حيث يركب الزوج القارب الذاهب إلى السفينة ولا يزال ممسكاً بالخيط ولا تزال هي أيضاً ممسكة به إلى أن تنحل العقدة وينفك النسيج وينقطع الخيط الذي كان يربطهما معاً. هذا المشهد هو محور أساسي في الفيلم حيث أن الزوج ترك زوجته لأول مرة – المواطن ترك الوطن – مما أدى إلى سلسلة من الأحداث المروعة والمحزنة التي أتت بعد رحيل الزوج. وفي مشهد آخر، يلتقي الأخوان يورخي وياني بعد غياب طويل لالتحاق كل منهما بجبهة معادية للأخرى في الحرب الأهلية اليونانية، وبعد السلام يخبر ياني أخاه يورخي أن أمهما إيليني قد ماتت ثم يبيكيان معاً على هذه المصيبة. ولكن إيليني في الفيلم لم تمت، مات كل من حولها وبقيت هي حية لم تمت إلى آخر لحظة من الفيلم، فإذاً فكرة "موت الوطن" التي صرخ بها سائق الأجرة في فيلم "تحديقة عوليس" تكررت مرة أخرى في فيلم "المرج الباكي" وبهذه الصورة المفجعة وفي خضم الحرب الأهلية التي تركت مستقبل اليونان مبهم وخائف. في مشهد آخر، حين خرجت إيليني من السجن لإيوائها أحد الثوار، كانت تهلوس وهي نائمة وتقول بأنين محزن: "أيها الحارس، ليس لدي ماء، ليس لدي صابون، ليس لدي أوراق لأكتب لأطفالي. أيها الحارس، كم تكلفة الرصاصة؟ وكم يكلف الدم؟ أيها الحارس، أنا في المنفى، أنا لاجئة ومنفية من كل مكان، طفلة في الثالثة من عمرها تبكي على الرصيف" هذا المشهد أوجز مآسي الوطن... بلا ماء والماء حياة، وبلا أوراق والأوراق معرفة، وبرصاصة ودم بثمن بخس، ومنفى وبكاء على الرصيف. من الجدير بالذكر أيضاً، وقد نوه إلى ذلك الناقد السينمائي أمين صالح في كتابه "براءة التحديقة الأولى"، أن إسم إيليني يعني اليونان وفق الأصل اللغوي لهذه الكلمة الإغريقية، فإيليني، الطفلة الصغيرة الهاربة من الثورة البلشفية بروسيا، وإيليني الفتاة اليافعة التي دفعتها العائلة للزواج قسراً من الأب الذي رباها، وإيليني المرأة الحبيبة التي هربت مع حبيبها من ظلم المجتمع، وإيليني الأم الحنون التي ستفعل كل ما بإمكانها فعله لحماية ابنيها، وإيليني السجينة السياسية للنظام الديكتاتوري الذي سجنها لإيوائها أحد الثوار، كلها تمثل صوراً مختلفة من تاريخ اليونان الاجتماعي والسياسي.

"إلى المجانين.. الدخلاء.. الثوار.. صناع المشاكل.. الأوتاد الدائرية في الثقوب المربعة" – إعلان لشركة آبل
استطاع ثيو انجلوبولس بسينماه المبدعة بصرياً وسمعياً وفكرياً أن يجمع كل هذه السمات بواقعية مؤلمة في كثير من الأحيان ولكنه دائماً ما يضيف صورة غرائبية تميل إلى السريالية في كل أفلامه بحيث تسحر المشاهد بجمالها البصري والمعنوي، وفي أوقات، بجمالها المؤلم والمفزع. وقد اخترت ألا أعلق على هذه المشاهد وألا أفسرها، بل أعرضها فحسب، فهي قد تعني دلالات كثيرة يستطيع المشاهد أن يفسرها كلٌ حسب فهمه.
المشهد الأول:
في فيلم "الأبدية ويوم" تقف سيارة الرجل العجوز ومعه الطفل الألباني الصغير وسط الجبال المغطاة بالثلج، فينزلون من السيارة ويمشون قليلاً إلى أن يرون بوابة مقفلة وبها حراس واقفون، وعلى يمين ويسار البوابة تقف أعمدة بها رجال معلقون في الضباب، بوضعيات ثابتة بلا حراك وكأنهم أموات.
المشهد الثاني:
في فيلم "منظر طبيعي في السديم" يجلس الشاب الذي يساعد الطفلين في سفرهم إلى ألمانيا في ميناء على صخرة، إلى أن يقف مدهوشاً من منظر أهاله في البحر، لنرى يد اسمنتية ضخمة تبرز ببطء من سطح البحر، ثم يأتي الصغيرين ليشاركوه دهشته ويتأملون معاً تلك اليد الاسمنتية وهي تُسحب من البحر باستخدام حبال وطائرة هيليكوبتر إلى أن تحلق بعيداً في السماء.
المشهد الثالث:
في فيلم "تحديقة عوليس" وفي إحدى سفرات البطل عبر الحدود، يستقل مركباً لنقل البضائع تحمل تمثالاً ضخماً للزعيم الشيوعي فلاديمير لينين طافياً على نهر الدانوب، في مشهد جنائزي مهيب، لنرى الناس تركض على الشاطئ وهي تتبع التمثال ثم تتوقف لتحييه عبر رفع قبعاتهم ورسم إشارة الصليب.
المشهد الرابع:
في فيلم "المرج الباكي" ترجع إيليني وزوجها آليكسيس إلى قريتهم بعد وفاة والد آليكسيس، ويرجعون إلى منزلهم لتستقبلهم في حديقة المنزل شجرة بها نعاج مذبوحة ومعلقة من أرجلها في أغصان الشجرة العارية الأوراق، فترتسم نظرات الرعب والفزع في أعينهم حين يرون هذا المشهد المفزع، ويرون أن في أسفل الشجرة بركة من الدماء.
ختاماً...
نرى سينما ثيو انجلوبولس وهي تحاكي واقعاً أليما، بصورة بصرية جميلة بحق، جامعة بين الألم والجمال، ممثلة بذلك توازن العالم بين هذه وتلك. نرى سينماه وقد تجلت بمعاني فكرية عميقة حول الهوية واستكشاف الذات، مازجة ذلك بصورة وموسيقى وإخراج بديع. هي وإن تحدثت مجملاً وبشكل مباشر عن اليونان وتاريخها وساكينها وتراثها، تستطيع أيضاً أن تصل رسالتها السامية إلى شعوب العالم بأسره، رسالة السينما التي تدعو إلى الحب وتقدير الجمال والعائلة والوطن ونبذ الحرب، إنها رسالة الإنسانية، هي إعادة إكتشاف الحياة بتحديقاتها وألحانها وأوجاعها.
الشعثاء سلطان

أنهيتُ كتابة المقال في
04/03/2013
قدمتُ المقال في أمسية سينمائية في النادي الثقافي في
11/03/2013
نُشر المقال في مجلة الفلق الإلكترونية
14/03/2013