الأحد، 12 أغسطس 2012

"برسبوليس"... عن ثورة تأكل أبناءها وطفولة صادرها الإستبداد


بطاقة الفيلم:
Persepolis (2007)
اللغة: الفرنسية
إخراج: فينسينت بارانود ومرجان ساترابي
بطولة: تشيارا ماسترويامي
الجوائز والترشيحات: ترشح لأفضل جائزة أوسكار لفئة أفلام الانيميشين

"يسقط الشاه، يسقط الشاه، يسقط الشاه"
وهي ترفع يدها وتجول في أنحاء منزلها وبحماسة بالغة، تغنّت مرجان ساترابي بهذه الكلمات وهي صغيرة أثناء الثورة الإيرانية، وبعدما علمت من أبيها مدى طغيان شاه إيران وأسباب إرادة الشعب لإسقاطه.
فيلم الرسوم المتحركة "برسبوليس" المقتبس من الكتاب المصور الذي يحمل نفس الإسم للكاتبة الإيرانية مرجان ساترابي يحكي قصة حياة الكاتبة وعائلتها الليبرالية أثناء الثورة الإيرانية لإسقاط الشاه وتولي الحزب الإسلامي الحكم وتحويلهم إيران من دولة علمانية إلى دولة تحكم السيطرة والاستبداد تحت راية الدين، ومن ثم الحرب الخليجية الأولى بين إيران والعراق. الفيلم يحاكي بشكل كبير الكتاب المصور من حيث تحويل الرسوم الورقية إلى رسوم حركية وهذا أضاف جانب طفولي إلى الفيلم مع الأخذ بعين الإعتبار أنه ليس للأطفال. فكأن الكاتبة أرادت أن توصل وجهة نظرها عبر استخدام العنصر الطفولي وهذا تكنيك معروف في السينما الإيرانية بشكل خاص. الفيلم يعتبر أيضاً فيلم درامي تاريخي عن هذه الحروب والثورات التي مرت بها إيران، وأثرها النفسي والاجتماعي على حياة الكاتبة، مع إضفاء لمسة كوميدية على أحداث الفيلم من خلال المواقف والتناقضات المضحكة.
يبدأ الفيلم بمشهد مرجان ساترابي البالغة وهي في المطار تستعد للرجوع إلى إيران. وفي كرسي الانتظار، يجول خيالها بعيداً وتتذكر طفولتها، وهنا تتغير الصورة الملونة إلى صورة بالأبيض والأسود. ويستمر الفيلم بهذا الشكل وكأنه مشهد فلاش باك طويل حيث تحكي فيه مرجان ساترابي قصتها للمشاهد: "أتذكر أني كنت أعيش حياة هادئة خالية من الأحداث وأنا صغيرة. كنت أحب البطاطا المقلية بالكاتشاب، وكان بروس لي بطلي المفضل، وكنت ألبس أحذية أديداس الرياضية، ولدي نوعين من الهوس: حلاقة شعر رجلي في يوم ما، وأن أكون آخر نبية على وجه الكون". وقد بدأت بالفعل بأداء دور النبية وهي صغيرة، فأخرجت تعاليمها الخاصة التي تقتضي باحترام الصغير والكبير وحب الجميع، وتخيلت أنها تحكي مع الله في مشهد طفولي أثار الكثير من الجدل واللغط في الأوساط الإسلامية بسبب تصوير الفيلم هيئة الله على أنه رجل ملتحي وحنون، وهي الصورة التقليدية في الأفلام والقصص عن الرب.
هناك شخصيتين رئيسيتين تؤثر في حياة مرجان وهما شخصية عمها وجدتها، اللذين رغم دورهما الثانوي إلا أنهما يشكلان التأثير الأكبر على فكر مرجان وسير حياتها. فعمها كان مسجوناً لفترة طويلة خلال حكم الشاه، ثم أخرجوه من السجن بعد الثورة ليأتي ويحكي لمرجان في مشهد مصور على طريقة الدمى المتحركة عن تاريخ شاه إيران وكيفية وصوله للحكم بمساعدات الولايات المتحدة الأمريكية. ما لبث العم آنوش إلا قليلاً في يد الحرية، حتى قبضوا عليه مرة ثانية، هذه المرة عبر الحكم الإسلامي، ليحكموا عليه بالإعدام ولتبقى ذكراه مع مرجان طيلة حياتها. أما جدتها، الشخصية الثانية المؤثرة على فكر مرجان، فقد أسست فكرة حب إيران وحب الآخرين في فكر مرجان منذ الصغر، وحين ودعتها في المطار وهي في طريقها إلى فيينا لاستكمال دراستها، قالت لها: "كوني صادقة مع نفسك" وظلت هذه الفكرة تطارد مرجان حتى كبرت.
تكاد جميع الثورات العالمية تنقلب من ثورة بإسم الحرية والعدالة إلى حكم إستبدادي بأيدي الثوار، وهي مرحلة طبيعية تمر بها معظم الثورات، والأمثلة على ذلك كثيرة ربما أبرزها الثورة الفرنسية وكيف مسك الثوار زمام الأمور بعد الثورة وأصبحوا يطلقون أحكام الإعدام على جميع من يخالفهم في الرأي، فكأن الناس خرجت إلى الشوارع لتتخلص من حكم مستبد، لتدخل في حكم مستبد آخر من نوع مختلف. وقد أوضح هذا بشكل جلي الكاتب جورج أورويل في روايته الشهيرة "مزرعة الحيوان" حول ثورة حيوانات المزرعة على صاحبها من أجل حياة كريمة، ومن ثم طغيان الخنازير في الحكم وعدم اختلافهم كثيراً عن طغيان صاحب المزرعة. ربما هذا ما أرادت الكاتبة والمخرجة مرجان ساترابي إبرازه من خلال هذا الفيلم التاريخي والكوميدي.

________________
نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية، يوم 12-يونيو-2012

"شجرة الحياة"... الإنسان الحائر بين طريق الرحمة والطبيعة


بطاقة الفيلم:
شجرة الحياة (2011)
اللغة: الإنجليزية
إخراج: تيرينس ماليك
بطولة: براد بيت، شون بين، جيسيكا تشاستين
الجوائز والترشيحات: ترشح لثلاث جوائز أوسكار كأفضل سينماتوغرافيا، وكأفضل فيلم، وكأفضل إخراج

قد تحبه كثيراً، أو تكرهه كثيراً. ربما ستفهمه وتحلل تفاصيله وتصل إلى مرحلة اقتناع أنك قد فهمت الفيلم، أو ربما ستجد أنه بلا معنى وبلا منطق وبلا حبكة. تباينت حوله الآراء بشكل كبير وذلك لاختلافه الواضح من التيار الهوليوودي الاعتيادي.
فيلم "شجرة الحياة" من إخراج تيرينس ماليك، وهو مخرج معروف بقلّة أفلامه وبإبداعها واختلافها في ذات الوقت. فقد أخرج الفيلم الشهير "الخط الأحمر الرفيع" بتعاون أيضاً مع الممثل القدير شون بين، وأخرج فيلم "أيام الجنة" الذي أنوي مشاهدته قريباً. لأفلام تيرينس ماليك طابع نفسي فلسفي بأسئلة لا متناهية عن الوجود والنفس الإنسانية، وهذا هو في الحقيقة ما جعلني أكون من فئة الذين أحبوه كثيراً.
يحكي فيلم "شجرة الحياة" عن عائلة أمريكية من تكساس مكونة من أب (براد بيت) وهو مهندس ومخترع وأم (جيسيكا تشاستين) وهي أم محبة مرحة وأولادهم الثلاثة في فترات مختلفة من حياتهم، بتركيز أكبر على فترة المراهقة. يبدأ الفيلم بسرد من الأم عن الطريق الذي يختاره الإنسان لنفسه في هذه الحياة، فهذا الطريق إما أن يكون طريق الرحمة أو طريق الطبيعة. طريق الرحمة لا يحاول إمتاع نفسه، ويتقبل النسيان والكراهية والإهانات بغير ضغينة، هو طريق العدالة والإنسانية، في حين أن طريق الطبيعة يحب السيطرة ودائماً ما يبرر الأحزان ويجد طريقاً لها حتى لو كان من حوله محباً ومضاءاً، وهو الطريق الذي يتبع قانون الغاب "البقاء للأقوى". في أحد مشاهد الفيلم يقول الأب عن نفسه، موضحاً طريق الطبيعة الذي اتخذه: "أنا لا شيء، انظروا إلى الألق من حولي، انظروا إلى الطيور والأشجار، أنا أهنتهم جميعاً ولم أعر لهم انتباهاً، أنا لم أنتبه إلى البهاء". هذه المقدمة المستوحاة من الفلسفة المسيحية تمهد المشاهد لشخصيات الفيلم التي تنقسم إلى هذين الطريقين، ومنذ البدء يعرف المشاهد أن الأم تتبع طريق الرحمة وأن الأب يتبع طريق الطبيعة، وأن الفتيان مشتتين بين هذا وذاك وبين صرامة الأب ووداعة الأم.
للفيلم جوانب عدة سأتناول كل منها على حدة، رغم ارتباطهم ببعضهم البعض، فهناك الجانب النفسي السايكولوجي، وهناك الجانب التجريدي الانطباعي، وهناك الجانب الفلسفي الوجودي. فمن الجانب النفسي يتجلى في الفيلم بوضوح مفهوم "عقدة أوديب" لمؤسس علم التحليل النفسي سيجموند فرويد، والمستوحاة من الأسطورة الإغريقية. فالإبن الأكبر "جاك" مفتونٌ بوالدته ومتعلق بها وممتعض من والده بل ويصل في أحد مشاهد الفيلم إلى أنه يتمنى لوالده الموت. وفي مشهد آخر يصرخ الإبن في وجه أبيه مشيراً إلى أمه: "هي الوحيدة التي تحبني" وهكذا يعيش الإبن في صراع مع نفسه طوال الفيلم ويبدأ يكتشف مساؤى أبيه ويحب أكثر فضائل أمه. أما من الجانب التجريدي والانطباعي فالفيلم يكاد يخلو من حبكة خطية بنقطة بداية ونقطة نهاية واضحين، ويستطيع المشاهد أن يلتقط أي مشهد قصير في الفيلم ويخلق منه قصة سردية متكاملة وطويلة. هنا أشير إلى بوستر الفيلم المصمم بشكل فسيفسائي عبر وضع عدة صور إلى جانب بعضها البعض، فالفيلم أيضاً يتكون من عدة صور بصرية بديعة يستطيع المشاهد أن يختار أي منها ويطلق لخياله العنان. كما يتداخل مع قصة الفيلم عدة صور لتكوين الأرض والفضاء والجزئيات والحياة الأولية للأرض والبحار، فكأن المشاهد ينتقل بشكل سلس من قصة هذه العائلة الأمريكية إلى فيلم آيماكس وثائقي عن تكوين الأرض والفضاء والبحار، بل وحتى عن حياة الديناصورات، ويمتد هذا الفيلم لحوالي عشرون دقيقة من مجمل الفيلم، ويأتي مع سرد فلسفي لأسئلة وجودية كثيرة من قبيل: "أين أنت؟ هل كنت تعلم؟ هل تشاهدنا؟ أين تعيش؟" وهنا يتداخل الجانب الفلسفي مع الجانب البصري للفيلم ويخلق تحفة بصرية بديعة. من ضمن العناصر الأساسية لتكوين الفيلم أو الثيمة الرئيسية هي ثيمة الموت، إذ يشكل علامة الإستفهام الأكبر في سلسلة الأسئلة المتكررة، ومن الجدير بالذكر أن كل الاسئلة السردية الموجهة إلى الله تأتي بصوت همسي لا عال، فتبدو الشخصيات وكأنها تناجي نفسها وتحدث ربها في السر، وتسأله ما قد يطري على ذهن أي إنسان في حالة المصيبة والموت.

_________________
نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية، يوم 5-يونيو-2012

"برسونا"... الصمت بديلاً عن الإنتحار


بطاقة الفيلم:
برسونا (1966)
اللغة: السويدية
إخراج: إنجمار برجمان
بطولة: بيبي آندرسون وليف أولمان
الجوائز والترشيحات: جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1966

"لقد قلت في وقت ما أن "برسونا" قد أنقذ حياتي، بلا أدنى مبالغة. كنتُ سأتلاشى إن لم تكن لدي الشجاعة الكافية لعمل هذا الفيلم. نقطة هامة أخرى أود ذكرها: وهي أني وللمرة الأولى لم أهتم كثيراً فيما إذا كان الفيلم سيحقق أرباحاً عالية أم لا" – إنجمار برجمان، المخرج.
يعتبر المخرج السويدي القدير إنجمار برجمان من أبرز صنّاع السينما حول العالم، بل قال عنه وودي آلان أنه "على الأغلب، أعظم فنان سينمائي منذ اختراع الكاميرا المتحركة" وقد تأثر برجمان بالعديد من كبار المخرجين حول العالم، أذكر منهم المخرج الإيطالي الشهير فيديريكو فيليني، والمخرج الياباني أكيرا كوروساوا، وأثّر هو بدوره على العديد من المخرجين المعروفين اليوم من أمثال فرانسيس فورد كوبولا (مخرج السلسلة الشهيرة العرّاب)، وستانلي كوبريك، ومارتين سكورسيزي. تمتاز أفلام برجمان بالتمحور حول ثيمات مثل المرض، والموت، والإيمان، والجنون.
أما فيلم "برسونا" فهو حتماً يجمع بين جميع هذه الثيمات الأربعة. كتب برجمان فيلم "برسونا" في خلال 9 أسابيع، خلال فترة علاجه من مرض الالتهاب الرئوي، ويقول عنه أنه أقرب أفلامه إلى قلبه. كان يود تسمية الفيلم في البدء "البعض من علم التصوير السينمائي" وذلك نظراً لاحتواء الفيلم على عدد من التكنيكات المهمة في صناعة السينما، ولكونه يستخدم أيضاً أقل عدد ممكن من الممثلين والأدوات. يبدأ الفيلم بمقدمة موسيقية حادّة مع عرض عدد من المشاهد السريعة والمتقطعة والمزعجة أيضاً، بغير أي رابط بينهم، ثم عرض أطول بعض الشيء لفتى يافع يستيقظ من نومه في غرفة بيضاء تماماً ثم يرى على الجدار ما يبدو وكأنه إسقاط لصورة مقربة لوجه امرأتين، هن بطلات الفيلم. هذه المقدمة البصرية تخدم فكرة من أفكار الفيلم، وكأنها تذكر المشاهد أنه يرى فيلم، لا حقيقة.
يتحدث الفيلم عن ممثلة مسرح إليزابيث فولجر، تؤدي دورها الممثلة ليف أولمان، فقدت قدرتها على الكلام فجأة ووسط مسرحية كانت تمثلها أمام الجمهور وتقوم بالعناية بها الممرضة آلما، والتي تؤدي دورها الممثلة بيبي آندرسون. للفيلم خمسة ممثلين فقط، ولكن أدوار ثلاثة منهم لا تتعدى الدقيقة - أي أن الفيلم بأكمله قائم على تمثيل شخصيتين رئيسيتين، إحداهن لا تستطيع الكلام! لكم أن تتخيلوا حجم الثرثرة التي تقوم بها الممرضة آلما مع تعابير وابتسامات ونظرات ممثلة المسرح إليزابيث.
لفيلم "برسونا" جانبين من وجهة نظري، جانب فلسفي عميق، وجانب شاعري بصري جمالي. لا يستطيع المشاهد أن يخرج من الفيلم إلا وقد تشرّب بمجموعة من الأفكار والهواجس والأسئلة اللامتناهية، فإلى جانب السؤال الرئيسي "لماذا توقفت إليزابيت عن الكلام فجأة من غير أي أثر لمرض عضوي؟" وتداعيات هذا السؤال وجذبه لأسئلة مختلفة عن الصمت ودوافع الصمت، هناك أسئلة سايكولوجية عميقة أخرى عن الحياة، والموت، والحب، والاختيار، والسؤال الوجودي الأزلي: "من نكون؟" تظهر في الفيلم لمدة قصيرة جداً الدكتورة التي ولّت أمر رعاية إليزابيث للمرضة آلما، وتقول: "أتفهم صمتها، ذلك الحلم اليائس عن أن تكوني، لا أن تمثلي، أن تكوني أنتِ. وذلك البعد والاختلاف بين من تكونين في حضرة الآخرين، ومن تكونين في حضرة نفسك، فكل انثناءة وكل ايماءة تبدو وكأنها كذبة، وكل ابتسامة تبدو وكأنها تكشيرة. الانتحار كوسيلة هروب؟ كلا، فالانتحار مبتذل وبذيء. ولكن بإمكانك أن ترفضي التحرك، أن ترفضي الكلام.. لكي لا تضطري إلى الكذب" مع مثل هذا الكلام الشاعري، يبدو الفيلم وكأنه قصيدة مناجاة فردية طويلة تتداخل فيها عدة عناصر وتتشابك عدة قصص. فرغم أن القصيدة على لسان الممرضة آلما، المتحدثة الرئيسية في الفيلم، إلا أن أنغام هذه القصيدة تربط الممرضة بالممثلة، ونعرف من خلالها قصة الممثلة وأسباب صمتها.

______________
نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية، يوم 29-مايو-2012

الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

"العروس السورية".. تكشف مأساة أهالي هضبة الجولان



بطاقة الفيلم:
العروس السورية (2004)
اللغة: العربية
إخراج: إيران ريكليس
بطولة: هيام عباس وكلارا خوري

لطالما كانت الفنون باباً مشرعاً على المشاعر الإنسانية النبيلة وترغم المشاهد على إثارة عواطفه بعيداً عن الإيدولوجيات السياسية أو الدينية أو المجتمعية، حيث يكون "الإنسان" وحب "الإنسانية" هو الدافع الرئيسي لإخراج أعمال فنية على مستوى عال وبهدف سام. وإن كانت القضية التي يناقشها العمل الفني قضية تمس المشاهد بشكل شخصي، وتتطرق إلى أحد همومه اليومية، حينها يميل المشاهد إلى شخصنة وتطبيع العمل، وبالتالي فهمه حسب مقتضيات قصته الخاصة، وتفسيره حسب المشاعر التي اعترته خلال مشاهدة هذا العمل.
يتحدث فيلم "العروس السورية" عن امراءة درزية اسمها منى، تؤدي دورها الممثلة كلارا خوري، من قرية مجدل شمس في هضبة الجولان، في يوم زفافها من ممثل دمشقي شهير. يوم زفافها، هو آخر يوم ترى فيها عائلتها. لأنها ستغادر هضبة الجولان إلى دمشق، ومن يغادر هضبة الجولان الواقعة تحت الإحتلال الإسرائيلي، لا يستطيع دخوله مجدداً. رغم القالب السياسي البحث للفيلم، إلا أنه يجبر المشاهد على التفكير فيه من ناحية إنسانية من غير الخوض في تفاصيل اللعبة السياسية الملعوبة من قبل الأطراف المختلفة سواء اتفقنا معها أم اختلفنا. وهذه هي المهمة الأساسية السامية للفنون المختلفة، إذ أنها تمحو الاختلافات وتجعلنا نركز على نقاط التشابه وعلى "الإنسان" قبل العرق، والدين، والقبيلة، والجنس.
تدور أحداث الفيلم على مدى يوم واحد، وفيه يستكشف المشاهد قصة عائلة بكل تفاصيلها المؤلمة والمضحكة معاً. فكل شخصية لها قصتها المعقدة وصراعها الخاص، سواء كان صراعاً مع السلطة، أو مع المجتمع، أو مع الدين، فمنى التي ستلتقي بزوجها لأول مرة متوجسة من هذا الزواج إذ أنه سيحول دون دخولها لهضبة الجولان مرة أخرى، وأختها آمال والتي تؤدي دورها بإتقان الممثلة الفلسطينية القديرة هيام عباس، هي أم لابنتين وخارجة عن عادات وتقاليد القرية إذ لها طموحاتها وأحلامها في تكملة دراستها، ويمنعها زوجها من ذلك حتى يكون هو دائماً صاحب السلطة الأعلى في المنزل. في حين أن أخاهم حاتم متزوج من امراءة روسية ولم يرى عائلته منذ 8 سنوات لأنه خرج أيضاً من عادات القرية، ويقرر الرجوع لحضور زفاف أخته منى وسط استنكار رجال الدين وتوّعدهم بعدم حضور الزفاف إن رأوا حاتم. كل هذه الشخصيات المجتمعة تمثل الحبكة الأساسية للفيلم، والملفت للنظر، أن الشخصية الرئيسية، العروس السورية منى، هي أقلهم تحدثاً وأكثرهم انطواءاً. فكأن المشاهد يفهم قصة منى عبر أختها آمال وأخويها حاتم ومروان، وأباها حمد.
إن تحدثنا من الجانب التاريخي والديني، فقد تم احتلال ثلثين من مساحة هضبة الجولان بعد حرب الأيام الستة عام 1967 من قبل اسرائيل، ويعيش مواطنوها تحت وطأة الهوية المزدوجة والأعراف الدينية المختلفة، فغالبية سكّان الجزء الخاضع للسلطة الإسرائيلية هم من الدروز والعلويين العرب واليهود. ويتجلى هذا في الفيلم في الصراعات الدينية مع الشيوخ الدروز من ناحية ومع السكان اليهود من ناحية أخرى. رغماً عن آرائنا المسبقة في الديانة الدرزية واليهودية وفي الاحتلال الاسرائيلي والموقف السوري من ذلك، ورغم أن المخرج اسرائيلي الجنسية، إلا أن الفيلم استطاع برأيي أن يمحي كل هذه الفروقات وهذه الآراء المسبقة ويجعلنا نتعاطف مع العروس السورية وعائلتها وقصتها، ونتسائل، كم من العائلات تشتت بسبب هذه الحروب السياسية؟ وهل نظرتنا الأحادية في أغلب الأحيان كافية لفهم واستشعار ما تعانيه جميع الأطراف؟

_________________
نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية، يوم 22-مايو-2012

الاثنين، 6 أغسطس 2012

"وداعاً لينين".. كوميديا سوداء عن سقوط جدار برلين


بطاقة الفيلم:
وداعا لينين! (2003)
اللغة: الألمانية
إخراج: ولفغانغ بيكر
بطولة: دانييل برو وكاترين ساس
الترشيحات: رُشّح لجائزة الغولدن غلوب لأفضل فيلم أجنبي، وأيضاً رشح لجائزة البافتا وجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي

لا تزال الجمهورية الديموقراطية الألمانية قائمة في شقة مساحتها 79 متر مربع، وإن سقط جدار برلين!
فيلم "وداعاً لينين" هو فيلم تراجيدي كوميدي يحكي قصة تأثر عائلة من ألمانيا الشرقية بسقوط جدار برلين وتوحد ألمانيا الشرقية والغربية عام 1989، وكيف أدى ذلك إلى تمثيلية كبيرة في شقة تلك العائلة. بعد أن شهدت كريستين كارنر وهي أم لطفلين مشاركة ولدها آليكس في مظاهرة ضد الحكومة الاشتراكية والقبض عليه من قبل عناصر الشرطة، تصيب الأم جلطة قلبية تقع على أثرها في غيبوبة تستمر لتسعة شهور، وحين تستيقظ أخيراً من غيبوبتها، كان كل شيء قد تغير وتوحدت ألمانيا الشرقية والغربية وسقط جدار برلين. خوفاً من تحذير الطبيب بأن الأم يجب أن لا يثيرها أي شيء وأن أي صدمة قد تتسبب في إصابتها بالجلطة مرة أخرى وتموت، يخطط آليكس بالتعاون مع أخته وصديقته وجيرانهم بإعادة كل شيء إلى ما كان، وكأن شيئاً لم يتغير وكأن ألمانيا لا تزال تحت راية الإشتراكية ولا يزال جدار برلين قائماً. وهكذا تبدأ سلسلة كوميدية من الأحداث الممتعة بدءاً من تصوير وتسجيل مقاطع فيديو إخبارية مزيفة وعرضها على التلفزيون وكأنها النشرة الإخبارية المباشرة ومروراً بالبحث في القمامة عن علب وقوارير لا تُباع في المحلات واختفت بعد سقوط جدار برلين، وانتهاءاً بمحاولاتهم اللانهائية في إبعاد كل ما يخص وضع ألمانيا السياسي الجديد عن الأم.
رغم أن الأحداث تقع في قالب كوميدي ممتع إلا أن للحنين والنوستالجيا ظهور طاغ في الفيلم وهذا يتجلى في عدة جوانب، فهو يبدأ بمقدمة موسيقية لطفلين يلعبان ويضحكان في حديقة منزلهم – يتبين لنا فيما بعد أن الطفلين هما آليكس وأخته – ويتميز هذا المشهد بتصويره في قالب كلاسيكي قديم، فالصورة ضبابية بعض الشيء، وموجودة ضمن إطار بشكل مضلع منحني الزوايا. بالإضافة إلى مشهد آخر لآليكس الصغير وهو يشاهد "سيجموند يين"، أول رائد فضاء ألماني، على التلفاز، وشعوره بالفخر والاعتزاز أن "سيجموند يين" من ألمانيا الشرقية. ترسم هذه المقدمة المعالم الأولية للفيلم ونعرف من خلالها أن هذه العائلة تفخر بكونها من ألمانيا الشرقية، وستحن فيما بعد للماضي الجميل وستحاول إعادته إلى ما كان عليه. حتى في خلال بحث آليكس عن نوع معين من المخللات لم يعد يُباع في الأسواق بعد سقوط الجدار، نرى أن المخلل يرمز إلى ألمانيا القديمة، ألمانيا الجميلة في نظرهم. كما أننا لا نغفل دور الموسيقى في إضفاء هذه اللمسة الحنينية للفيلم، فالموسيقى التي ألفها "يان تيرسن" وهو نفس المؤلف للفيلم الفرنسي الشهير "آميلي"، تمتاز باللحن اللطيف والإيقاع البطيء والمتكرر، وهذا أيضاً يخدم فكرة الفيلم ويتماشى بشكل جميل مع الجو العام.
إذا تطرقنا قليلاً إلى الجانب الفكري للفيلم، فهو من وجهة نظري يبعث إلى التفكير في الاستراتيجيات المتبعة في تصوير النشرات الإخبارية وفي سرد التفاصيل الإذاعية، وذلك من خلال بدء آليكس بتصوير مجموعة فيديوهات إخبارية مزيفة للأم. يرى المشاهد ألمانيا من عيون آليكس من خلال هذه التقارير، ألمانيا التي يريدها آليكس وتريدها الأم. فهذه التقارير لم تكن فقط لإقناع الأم أن الأوضاع لم تتغير، بل كانت أيضاً بمثابة التاريخ الذي يصنعه آليكس. وهنا نسأل، كم من الأفكار الاجتماعية والسياسية والدينية التي نتبناها كحقيقة لا مجال للشك فيها، كم من هذه الأفكار هي عبارة عن عدسة صوّرناها في أدمغتنا وصدّقناها وأصبحت تمثل واقعنا وتاريخنا؟ مثل آليكس، نحن قد نصنع التاريخ باستخدام عدسة داخلية تجعلنا نفخر في من نكون، وفي بطولاتنا التي قد تكون غير حقيقة أو غير موجودة.
ختاماً، فيلم "وداعاً لينين" فيلم يستحق المشاهدة، فإلى جانب كونه كوميدي وممتع فهو يضيف أيضاً مادة للتفكير والتأمل ويصوّر بطريقة واقعية مفيدة أحداث سقوط جدار برلين وأثر ذلك النفسي والاجتماعي على عائلة من ألمانيا الشرقية. تبقى نقطة أن اللغة الألمانية قد تكون ثقيلة على مسمع العربي وغير مستساغة ولكننا نستطيع تعدي هذه الإشكالية البسيطة إلى معنى الفيلم العميق وقصته الجميلة.


وصلات خارجية:
http://www.youtube.com/watch?v=-RxkxCj4cpc 
موسيقى الفيلم البديعة..

_______________
نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية، يوم 15-مايو-2012

"12 رجلاً غاضباً" يميطون اللثام عن عنصرية أمريكا



بطاقة الفيلم:
12 رجلاً غاضباً (1957)
إخراج: سيدني لوميت
بطولة: هنري فوندا
الجوائز والترشيحات: ترشح لثلاث جوائز أوسكار، وفاز بـ 14 جائزة أخرى

12 رجال غاضبين، بلا أسماء، في غرفة واحدة، زمان واحد، وقضية واحدة يريدون التخلص منها بسرعة ليرجعوا إلى بيوتهم في أحد أيام الصيف الحارة. لديهم 12 قصاصة ورق، و12 فرصة للقتل.
فيلم "12 رجلاً غاضباً" يحكي قصة فتى من الإثنية الأقلية في أمريكا متهم بقتل والده. فيما عدا الدقائق الأولى والأخيرة، الفيلم كله يدور في غرفة هيئة المحلفين بين مجموعة رجال لا يعرفون بعضهم البعض ومستعدين لتحديد مصير الفتى سواء كان مذنباً أم بريئاً.
يبدأ الفيلم بدخولهم غرفة هيئة المحلفين وباقتراح أحدهم بالتصويت بشكل سري لجس النبض العام ومعرفة رأي الأغلبية في القضية. 11 منهم صوّت بأن الفتى مذنب دون أدنى شك، أما الرجل الثاني عشر، العضو رقم 8 من هيئة المحلفين وهو بطل الفيلم هنري فوندا، فقد قرر التصويت ببراءة الفتى، لا لشيء إلا لأنه أراد التحدث عن القضية قبل إبداء رأيه الذي قد يودي بحياة الفتى إلى الكرسي الكهربائي. المشاهد يعي في تلك اللحظة أنه أمام بطل عميق التفكير ومختلف عن الآخرين. وهو أيضاً مثلما وصفه العضو رقم 9 من هيئة المحلفين: "هذا الرجل وقف وحيداً ضدنا، ليس من السهل أن تقف وحيداً ضد سخرية الآخرين."
إذاً منذ البدء يرى المشاهد الشخوص المختلفة لأعضاء هيئة المحلفين، وهكذا يستمر الفيلم إلى النهاية بسلسلة نقاشات حول قضية الفتى تتضح من خلالها الكثير من الغضب المكبوت، والأسرار الخفية، والعنصرية المقيتة، والنمطية الاستعلائية.
فيلم "12 رجال غاضبون" يعتمد بشكل شبه كلي على براعة الممثلين وعبقرية السيناريو، أما بقية العناصر السينمائية الأخرى فهي تكاد تكون مختفية، فمثلاً مجمل الفيلم تم تصويره في غرفة واحدة، وثلاث دقائق فقط من مدة عرض الفيلم تم تصويره خارج غرفة هيئة المحلفين. قد يتسائل المشاهد ويقول "ألن يكون الفيلم مملاً هكذا؟" هنا تكمن عبقرية الحوار والتمثيل، إذ تمكن المخرج سيدني لوميت من خلال حبكة الفيلم من جذب المشاهد وجعله يستمر في قمة التركيز إلى نهاية الفيلم. يقوم أعضاء هيئة المحلفين بدرس تفاصيل قضية الفتى، من الدافع إلى الأدلة إلى الشهود والمكان والزمان، ولهذا لا يشعر المشاهد بالملل أثناء الفيلم إذ تتضح معالم القضية شيئاً فشيئاً إلى أن يصلوا، أعضاء هيئة المحلفين والمشاهد أيضاً، إلى حقيقة ما جرى.
يحكي الفيلم أيضاً عن النظرة النمطية لمختلف الإثنيات العرقية المتواجدة في الولايات المتحدة الأمريكية. فالفتى المتهم بقتل أبوه هو من جنوب أمريكا، من بورتوريكا تحديداً، ولذا نشاهد طوال الفيلم وجهات النظر العنصرية التي تقرر مصير الفتى لمجرد أنه ليس من ذوي الجلد الأبيض وتربط عرقه بمختلف الجرائم. في إحدى الحوارات يقول العضو رقم 10 وهو الأكثر تطرفاً من بين جميع اعضاء هيئة المحلفين: "ألا تعلمون كيف يعيشون حياتهم؟ هؤلاء سكارى طوال الوقت، من الطبيعي أن يرتكبوا مثل هذه الجرائم.. هم هكذا، طبيعتهم هكذا.. عنيفة!"
الفيلم يستحق أن يُدرس من الناحيتين، الناحية النفسية والناحية الاجتماعية.
بالنسبة للناحية النفسية، فالفيلم يحتوي على كافة أنماط الشخصية المتعارف عليها في علم النفس، فهناك الهادئ المنطوي، وهناك شخصية القائد المستبد، وهناك شخصية المستمع الذكي، وشخصية اللطيف الساذج، وغيرها من الشخصيات التي تجلت بشكل عبقري في أعضاء هيئة المحلفين.
أما من الناحية الاجتماعية، فالفيلم يدرس التطور المجتمعي للمجتمع الأمريكي واحتواءه على مختلف الأعراق، كما أنه يدرس النظرة النمطية للأقليات والجنسيات الأخرى غير المنتمية إلى الجنس الأوروبي.
_____________

نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية، يوم 8-مايو-2012