الاثنين، 24 مارس 2014

عن الإنسان الذي صال تيها وعربد


قد أتفهّم ألا يقبل الأب أن تتزوج ابنته العربية من رجل أمريكي الجنسية، للاختلاف الكبير في القيم والعادات. قد أتفهم ألا تقبل الأم أن يتزوج ولدها من امرأة مسيحية الديانة لخوفها من أن يتأثر الأحفاد. قد أتفهم أن يغضب كبير العائلة لزواج حفيدته من رجل غير عربي وسفرها معه إلى بلاده، ولكن ما لا أتفهمه ولن أتقبّله ما حييت هو عدم تقبل العائلة زواج اثنين لمجرد عدم تناسب القبائل.

تواجد مفهوم القبيلة في القرون الماضية في كافة أنحاء العالم شرقاً وغرباً، من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية إلى القبائل الجرمانية في أوروبا إلى غيرها من التجمعات السكنية. وقد أتى مفهوم القبيلة عند العرب حين كانوا يعيشون في الصحارى القاحلة، فكونوا جماعات سميت غالباً على اسم المنطقة التي استقروا فيها. في ذلك الزمن كان الفرد يعيش حسب قوانين القبيلة، فإن خرج عنها تمّ نفيه وطرده. وهكذا تشكلت جماعة الصعاليك وهم ينتمون لقبائل مختلفة ممن رفضوا سلطة القبيلة فطردوا عنها وامتهنوا غزو القبائل. قد أتفهم في ذلك الزمن عدم رغبة الفرد في الخروج من حماية القبيلة بسبب طبيعة الصحراء التي تجعل من الصعب على الفرد أن يعيش وحيداً، وقد أتفهم افتخار الفرد بقبيلته بسبب كثرة الحروب بين القبائل وضرورة حس الانتماء الذي يجعل الفرد يدافع بشراسة عن قبيلته. ولكن الآن في هذا الزمن وبعد نشوء مفهوم الدولة ومفاهيم العولمة والمواطنة العالمية، أصبح من الصعوبة بمكان أن يتعصب الفرد لقبيلته ولنسبه، ناهيك عن كون ذلك مرادفًا لمفهوم العنصرية في زماننا.

لنسرد سيناريو يتكرر كثيراً في مجتمعاتنا؛ رغب محمد في الزواج بشريفة، زميلته في العمل، تقدم لخطبتها وبدا أن أهلها أحبوا أخلاقه وطموحاته والتمسوا فيه خيراً، فوافقوا على الزواج وباركوا لهما. تمّ تحديد المهر وموعد عقد القران وكل الأمور بدت أنها تمشي في الاتجاه السليم، إلى أن قرر أبو محمد أن يسأل قليلاً عن نسب شريفة، فذهب إلى شيخ طاعن في السن خبير بأمور القبيلة وأخبره باسم شريفة الكامل طالباً منه تبين حسبها ونسبها وأصل جدها الخامس عشر. طلب الشيخ أن يمهله بضعة أيام ليسأل ويتأكد من المعلومة المخيفة التي يعرفها في باطن ذاكرته، ثم رجع إليه بالخبر اليقين: عائلة شريفة ليس لها أصل معروف، قد يكونون من العرب، وقد لا يكونون، وهم منتسبين للقبيلة بالاسم فقط، وإنّ جدها الخامس عشر كان يعمل خادماً لدى القبيلة الفلانية، أو أنهم كانوا أسرى حرب وعوملوا معاملة العبيد. يحاول محمد إقناع أباه بأنّ ذلك من التاريخ العتيق وهو في حقيقة الأمر لا يهمه هذا الاختلاف كثيراً ولكن يرفض الأب رفضاً قاطعاً، وإلا ماذا سيقول النّاس؟ أني زوّجت ولدي بمن ليس لها أصل وأنا ابن القبيلة والحسب والنسب؟ تنتهي هذه القصة بنهاية معروفة ومتوقعة، رمى محمد آماله في الزواج بشريفة، مثلما ترمى الأحلام غير الواقعية في مكب الذاكرة، وتزوج ابنة خالته سارة وهو ربما سعيد في حياته بينما شريفة لا تزال ترفض كل من يتقدّم لها آملة في مستقبل يحقق آمالها.

دعوني أفكر بصوتٍ عالٍ حول أسوأ الاحتمالات التي قد تحدث إن رفض محمد قرار أبيه وتزوج شريفة. ستمر سنة زواجهم الأولى بصعوبة محتملة، كون الأب غير راضٍ وعائلته حانقة على هذا الزواج. سيعاملون شريفة بدونية وربما يتحدثون أمامها عن أصلها بشيء من اللؤم والتشفي. سيذكرونها في كل مناسبة بأن محمدا يستطيع الزواج بمن هي أحسن منها، وربما يذكرونها أيضاً بمساوئها الأخرى من قبيل أن طبق الأرز البرياني –الهندي الأصل– الذي تطبخه سارة ابنة خالة محمد ألذ بكثير من طبق شريفة. هناك احتمالان بعد هذه السنة الأولى للزوجين الحديثين، أن تمل شريفة من هذا الوضع البائس وتطلب الطلاق ليذهب كل منهما في طريقه، أو أن تصر على تحمل هذه التعليقات وتعمل على إنجاح زواجها رغماً عن الصعوبات. لاحظوا معي في كل الأحوال أن حقيقة أن عمل جدها الخامس عشر كخادم لم تؤثر بشكل مباشر على زواجها، لم تحدث أيّ حرب نتيجة شعور الجد بالإهانة بين قبيلة محمد وعائلة شريفة كحرب داحس والغبراء، لم تطالب عائلة محمد باستملاك شريفة نتيجة زواجها وتغيير قبيلتها، لم يحدث أيّ من ذلك، هي حرة وتعمل باستقلالية وأولادها أحرار ويدرسون ويعملون ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي. تكمن الصعوبة الحقيقية في ضغوطات المجتمع من حولهما، المجتمع الحاضر في هذا الزمن وليس الأجداد والأسلاف القدماء. بعد هذا السيناريو الوهمي، دعوني أحلم وأقول ماذا لو لم يحدث ذلك كله؟ لو لم تضطر شريفة لسماع هذه التعليقات التهكمية واللاذعة حول أصلها؟ لعاشت هي ومحمد في أغلب الأحوال بسلام ومودة.

حسب نظرتي المثالية نحو هذا العالم، أرى الإنسان كإنسان فحسب، بطموحات وآمال وأفكار وعواطف، وليس ببلده أو بأصله أو بجنسه أو بثروته الموروثة أو بكل ما لم يختره بنفسه. الإنسان محصلة اختياراته الشخصية، وكل ما عدا ذلك هو من حكمة الله وليس لنا يد فيه. لنذكر أنفسنا بأننا خلقنا من طين، وأن أبانا آدم وأمنا حواء، وكلنا في الحقيقة نعود إلى أصل واحد، لنذكر أنفسنا بقصيدة إيليا أبو ماضي "الطين" والتي يقول في مطلعها: نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيهاً وعربد. ربما – وهذه محض أمنية مثالية أيضاً ولكن لنحلم–، ربما سيصبح العالم أفضل إن سعى كل منّا إلى الابتعاد عن هذه العنصرية المقيتة وهذا التعصب الأعمى.

____________________________
نُشر  المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 24 مارس، 2014:

الأحد، 16 مارس 2014

السيكولوجية من وراء "فعل القتل" والاعتزاز به


كيف نفهم سيكولوجية القاتل الفخور بفعلته؟ وهل التاريخ محايد أم أنه بالفعل يكتب من قبل المنتصرين؟ ما هو المنطق وكيف نفسر اختلافه الجذري بين فرد وآخر؟ إلى أي مدى تصل قسوة الإنسان وتبريره لقسوته هذه؟ ربما يستطيع أياً كان أن يبرر أي فعل لا إنساني بمنطق يجعل الجميع يتفق معه. كيف تتلاعب الحكومات والسلطات بأفكار الشعب وتجعلهم يؤمنون باللامنطقي واللاإنساني؟ كل هذه الأسئلة والأفكار كانت تتدفق في رأسي بشكل لا متناهي وأنا أشاهد الفيلم الوثائقي "فعل القتل" للمخرج جوشوا أوبنهايمر.

بدأت أحداث التطهير الشيوعي في إندونيسيا في أكتوبر عام 1965 بعد فشل انقلاب حركة 30 سبتمبر ويقدر أعداد المقتولين بخمسمئة ألف خلال أقل من عامين. تمخضت المنظمة شبه العسكرية "شباب بانكاسيلا" من هذه الإبادة الجماعية وإلى يومنا هذا لها أتباعها من الشعب والحكومة والذين يفاخرون بما حدث قبل حوالي خمسون عاماً. يقول قائد المنظمة في أحد الخطب الجماهيرية: "يقولون أن منظمة شباب بانكاسيلا هي منظمة عصابات، إن كانت كذلك فأنا أفخر بأني أكبر رجل عصابة". إذن لا محاكمات للقتلة، لا نصب تذكارية للموتى، لا اعتراف دولي بخطأ ما حدث، بل العكس من ذلك تماماً، هم يحكمون البلد ويعتبرون أنفسهم أبطالا قوميين. لا يتحدث فيلم "فعل القتل" عن هذه الأحداث التاريخية على وجه التحديد ولكنه ينقل لنا صورة ما حدث بطريقة مختلفة جداً عما اعتدنا عليه في الأفلام الوثائقية. التقى المخرج في عام 2005 بأنور كونغو، الأب الروحي لمنظمة شباب بانكاسيلا، والذي قتل بنفسه حوالي ألف من الشيوعيين، وأخبره أنه يريد تصوير فيلم عن هذا الحدث. يوافق أنور ومجموعة من أصدقاءه القتلة على تصوير فيلم يمثلون فيه كأبطال وكضحايا، ويكتبون نص السيناريو بأنفسهم، ويعيدون تصوير مشاهد قتلهم لضحاياهم. وبما أنهم شغوفون جداً ومتأثرون بالسينما الأمريكية الهوليوودية، فقد أرادوا تصوير مشاهد القتل هذه على أسلوب أفلامهم المفضلة؛ الويسترن ورعاة البقر، وأفلام العصابات، وأفلام الموسيقى الغنائية. ولكن ما لا يعرفوه وهم يصورون هذا الفيلم أن المخرج في الحقيقة يصور أيضاً انفعالاتهم وحواراتهم ويرصد أفكارهم ومشاعرهم، وأن الفيلم في الأصل يبحث في الأسباب الإنسانية والإجتماعية والسياسية التي تجعل من عملية الإبادة عملية مقبولة ومبررة، ويعطينا القدرة على استيعاب كيفية عمل عقول القتلة.


في أحد مشاهد الفيلم، يقوم هؤلاء القتلة بإعادة تصوير أحد طرق قتلهم لضحاياهم حيث يتم وضع الضحية ممدداً على الأرض – في هذه الحالة قاموا بوضع ما يبدو أنه كيس من الطحين – ويضعوا إحدى أرجل طاولة مربعة على رقبته، ثم يجلسون كلهم على الطاولة ويبدأون بالغناء إلى أن يموت. وفي مشهد آخر قاموا بإعادة تمثيل ما حدث لإحدى القرى الاندونيسية التي اغتصبوا نسائها وقتلوا رجالها وأطفالها. من فظاعة المشهد قامت إحدى البنات الصغيرات بالبكاء حين انتهى التصوير، فعاطفتها الإنسانية لم تتحمل الهلع رغم علمها بأن ذلك كله تمثيل. نهرها أباها – وهو مناصر للقتلة – وقال لها أنها تحرجه وهو يريدها أن تكون شجاعة وألا تبكي. يقول أنور كونغو: "لم كان علي قتلهم؟ كان علي فعل ذلك لأن ضميري أمرني بالقتل" ذلك المفهوم المسمى الضمير والذي نستعين به في العادة لإعلان الحواجز الأخلاقية كالعطف والرحمة التي تمنعنا من ارتكاب الأذى، هو نفسه المفهوم الذي استعان به أنور كونغو لتبرير فعل القتل الجماعي. في مشهد آخر نرى أنور كونغو المحب لأحفاده والعطوف بالحيوانات، فيجبر حفيده الذي كسر رجل بطة بالاعتذار لها وطلب المغفرة منها. ونرى طوال الفيلم أيضاً حبه للموسيقى والأفلام وتأثره بشكل خاص بمارلون براندو وآل باتشينو وأفلامهم. يحكي في مشهد آخر عن الرؤوس التي قطعها ولم يغلق أعينها، ويقول أن هذه الأعين التي لم يغلقها تطارده في منامه. إذاً نحن أمام إنسان حقيقي، لا شيطان أو وحش أو شخصية شريرة من فيلم أكشن، أنور كونغو إنسان حقيقي وعادي وطبيعي بجميع انفعالاته وعواطفه ومنطقه شئنا أم أبينا تصديق ذلك. وهذا ما يرعبنا ويزعجنا؛ القدرة المذهلة للإنسان الحقيقي على فعل الشر الخالص والتبرير له لنجد أنفسنا غير قادرين بعد ذلك على التعرف على ملامح وجهنا بقدر ما أصبحت مشوهة وأصبحنا نشك في وجودها وإنسانيتها.


لا يزال الخوف سيد الموقف إذ لا يجرؤ أحد على انتقاد ما حدث في تلك السنة حتى لا يصنف على أنه شيوعي ويحدث له ما حدث لهم. يحكي أحد طاقم الفيلم قصته في ما وراء الكواليس، كيف أنه حمل جثة زوج أمه الصيني الشيوعي بعدما قتلوه ورماه في النهر بمساعدة جده، ورغم أن ذلك حدث وهو ابن اثنتي عشرة عاماً إلا أنه يتذكر تلك الليلة بكل تفاصيلها. ثم تم نفي عائلات الشيوعيين إلى قرية مقفرة قريبة من الأدغال وهناك عاش بقية حياته. في نهاية سرده لقصته هذه، حرص على القول أنه لا ينتقد ما فعل هؤلاء القتلة الذين كانوا يستمعون إليه، هو فقط يريد إضافة قصته إلى الفيلم. ثم يخبرونه أنهم لا يستطيعون إضافة كل قصة يستمعون لها وإلا لما انتهى الفيلم، كما أن قصته معقدة جداً وستحتاج لأيام لتصويرها. ولكنهم لا يعلمون أن قصته أصبحت بالفعل جزءاً من الفيلم ورفضهم دليل عدم تقبلهم للقصة التي لا تناسب هواهم وحقيقتهم هم التي ينظرون إليها من زاوية أحادية. مع نهاية الفيلم نرى الأعداد الكبيرة من مجهولي الهوية – وهم على الأغلب من الجنسية الاندونيسية – الذين شاركوا في إنتاج الفيلم وفضلوا عدم الإفصاح عن أسمائهم.

في مقابل كل هذا الهول، يتخلل الفيلم باستمرار مشاهد طبيعية فائقة الجمال، والتي تجعل عواطف المشاهد في رحلة متقلبة بين الرعب والجمال، وكأنها تذكرنا بحنان الطبيعة في مقابل قسوة الإنسان. لم أستغرب حين عرفت في نهاية الفيلم أن المخرج الألماني القدير فيرنر هتزوج هو مدير الإنتاج، فلمسته كانت واضحة بشكل خاص في اللقطات الطبيعية وفي ثيمة الفيلم عن الشر الخالص.
"كان ذلك... جداً، جداً، جداً" لعل هذه الجملة التي قالها أنور كونغو تلخص مدى بشاعة ما حدث وهي في رأيي من أبلغ ما قيل في الفيلم كله، ألاّ يعرف كيف يصف هذا الهول سوى بكلمة "جداً" لأن كل الكلمات تبدو غير كافية للوصف. وأتسائل، مثلما أسأل القارئ: إن كنت في موضعهم، هل تثق بأنك لن تفعل ما فعلوا؟ إن أجبت بسرعة "نعم، أثق بأنه يستحيل علي القتل" أطلب منك عزيزي القارئ – بغير تحمل أي مسؤولية عن أي نوع من الأذى النفسي الذي قد ينتج إثر هذا القرار – أن تشاهد الفيلم، وربما ستفكر مرتين قبل هذه الإجابة السريعة.

_______________________
نُشر المقال في جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 16 مارس، 2014:

وجريدة الرؤية بتاريخ 17 مارس، 2014:

الاثنين، 10 مارس 2014

في رثاء الكلمات


حلمتُ قبل عدة أيام بأني أحاول تلمس رأس طفلة في الثالثة أو الرابعة من عمرها. كانت بلا رأس، وكنت مذعورة وأنا أحاول عبثاً إمساك رأسها. أظن ذلك هو الجدوى، وأخشى حقاً أنه - كرأس الطفلة - غير موجود.

ترجمتُ قصيدة أحبها لشاعرة أمريكية معاصرة اسمها آندريا جيبسن، تقول في أحد مقاطع القصيدة: "سمعت في الأمس قصة فتاة من العراق، في السادسة من عمرها، لا تستطيع النوم لأنها حين تفعل لا تحلم سوى باليوم الذي رأت فيه كلبها وهو ينهش جثة جارها. إن أخبرتها أن الحرب انتهت، أتظنها ستنام؟" أنهيتُ الترجمة وكنت سعيدة إلى حدٍ ما بها وأتطلع إلى نشرها، ولكن ظل سؤال واحد يؤرقني: ها أنتِ ترجمتِ هذه القصيدة التي تذم الحرب وآثارها على الجميع، ثم ماذا؟ هل سيقرأ هذه الترجمة مجرم حرب ويقرر فجأة التوقف؟ ثم ماذا؟ هل ستقرأ الطفلة العراقية هذه القصيدة ثم تنام مطمئنة وغير خائفة؟ وهكذا ظلت محاولة البحث عن فائدة ملموسة ويمكن قياسها من وراء الكلمات والقصائد والروايات. ولهذا السبب بالضبط لم ألتزم بكتابة المقالات بشكل أسبوعي. رغم أني تعللت بمختلف الانشغالات والارتباطات إلا أن السبب الجوهري والباطني هو هذا السؤال عن الجدوى. نحن نشهد المجازر من حولنا فلا نملك إلا استخدام القلم كأداة حرب بدلاً من إشهار السلاح، نرى الجوع والفقر في بطون الأطفال ثم نرسم هذه البطون بمبالغات وأحلام السريالية ونعلقها في منازلنا، نقرأ عن أرجل مبتورة وأعين فقئت ثم نطبع القصائد عن هذه الأرجل والأعين ونجعلها خلفية لهواتفنا أو لصفحاتنا في الفيسبوك، نحن نحول الدم إلى أحرف الكترونية على الآيباد، البندقية إلى فرشاة ألوان، ونظن بذلك كله أننا أدينا واجبنا الإنساني بإظهار التعاطف والتآزر والدعم عبر هذه القصائد واللوحات، ولكن الحقيقة -الظاهرية على الأقل- تقول أن الأوضاع لا زالت كما هي ولم تتغير. أليست المثل العليا المتمثلة في الآداب والفنون والمعرفة والحضارة كلها تبدو تافهة مقارنة بهذه المآسي العالمية؟

هناك حكاية رمزية عن رجل في غابة، صادف أسدا فبدأ يجري هربا منه. وقع وهو يجري في بئر وتشبث بحبل، وفي قاع البئر كانت أفعى تنتظره. إن هو وقع التهمته الأفعى، وإن تسلق الحبل افترسه الأسد. وفوق هذه المأساة كان هناك فأران أحدهما أبيض والثاني أسود يقضمان الحبل الذي كان يتشبث به. إذاً هو هالكٌ لا محالة، ومع ذلك لمح شيئاً لزجاً على الحبل وحين ذاقه تبين أنه عسل، فالتهى عن الفأران والأفعى والأسد وأخذ يلعق العسل. لشرح الرمزية، فالأسد هو الموت والأفعى عذاب ما بعد الموت، والفأران هما الليل والنهار يقضمان من أعمارنا، في حين أن الحبل هو الحياة والعسل ملذاته. فمن ناحية أخرى، تعتبر كل هذه المكملات الحضارية من جماليات وملهيات الحياة، وهناك دوماً الأسد الذي ينتظر والذي يفتك بالجميع من غير استثناء.

إن كان غسان كنفاني نفسه، شهيد القضية الفلسطينية والذي أرعب السلطات الاسرائيلية بقلمه حتى اغتالوه، قال: "كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه عن غياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون من أجل شيء أحترمه"، فما عسانا نقول نحن؟ تكمن المأساة الحقيقية في أننا لا نعرف غير الكلمات، وفي أننا لا نحب السلاح. إذنً كلماتنا تعويض صفيق وتافه عمّاذا تحديداً؟ لا أعلم في حقيقة الأمر بديلاً عن السلاح. وها أنا أناقض كل ما كتبته عبر نشر هذا المقال الذي أعتبره أقرب إلى البوح من كونه ذا نفع. وسأستمر في الكتابة لا لشيء سوى لأجل الوصول، إلى أين تحديداً؟ لا أعلم ولكنه مكان مقدس، فليس لنا من خلاص آخر ولا لنا سلطة إلا على الحروف.

__________________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 10 مارس 2014
http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/91608

وفي جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 11 مارس 2014
http://www.araa.com/opinion/22038

الأحد، 23 فبراير 2014

في سبيل غسيل الروح


بدأنا منذ سنة مجموعة حوارية صغيرة، كان معظم أفرادها من العائلة، إذ كانت تحت قيادة أخي وبمشاركتي وإخوتي وأقربائي. نجتمع كل أسبوعين بعد الاتفاق على موضوع الحوار بالتصويت، وكل مرة يدير الحوار شخص مختلف. وبسبب الاهتمامات والتخصصات المتعددة، نناقش في كل مرة مواضيع مختلفة تتراوح في العادة ما بين العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والنفس والفنون، والعلوم النظرية كالفضاء والطب، ونطرح في بعض الأحيان مواضيع جدلية وفكرية لنستمع إلى وجهات النظر المختلفة. صادف السبت الماضي، بتاريخ 22 فبراير 2014، الذكرى السنوية الأولى لمجموعتنا، ولذا يجيء هذا المقال كنوع من الامتنان والتقدير ولأجل التعريف أيضاً.

ناقشنا في ذلك الاجتماع تأثير الفن ومدى فعاليته في إحداث عملية التغيير في المجتمعات عبر التاريخ، وقد كان اجتماعاً مثرياً بحق إذ عرض الكثير من النماذج الجميلة. فبين من شكك بفعاليتها وفرق بين الفنون النافعة وغير النافعة، وبين من أيدها وقال أنها المحرك الرئيسي نحو التغيير، وفي النهاية احتفظ كلٌ منا بوجهة نظره ولكنه تقبل في نفس الوقت وجهة النظر المغايرة.

من بين القصص التي تم سردها هي قصة المغني الجامايكي بوب مارلي الذي أقام حفلة في 22 أبريل عام 1978 في العاصمة الجامايكية كينغستون، وقد تمت تسمية الحفلة بحفلة الحب الواحد والسلام وكان هدفها إطفاء نار الحرب بين حزبين متعارضين. كان المسرح مقسماً إلى ثلاثة أقسام وهي الوحدة، والحب، والسلام، وقد شددت الحكومة الجامايكية وقتها على الأمن والسلامة خوفاً من حدوث أي اضطراب. كانت تلك الفترة حرجة سياسياً في جامايكا بحيث شكل الحزبان عصابات للقتال في الشوارع محدثة بذلك فوضى وحرباً أهلية. كان بوب مارلي يرتجل وهو يغني منادياً للسلام والوحدة، ففي أحد الأغاني بدأ يقول: "هلا تقدم السيد مايكل مانلي والسيد إدوارد سيجا إلى المسرح؟ تعالوا هنا، أنا أريد أن نتصافح فحسب وأن نري الناس أننا سنتحد." وفعل ذلك وسط هتافات الجمهور بالسلام، تصافح كلا الحزبين في إشارة إلى رغبة صادقة بإيقاف الفوضى.

كما أنني شاركت بدوري عن قصة "رقصة زالونغو"، ففي ديسمبر 1803، استولى العثمانيون بقيادة علي باشا على منطقة سولي في اليونان. معظم سكان المنطقة هربوا بعد هزيمتهم إلى مناطق أخرى، ما عدا مجموعة من النساء وأطفالهن لم يستطعن الهرب لأنهم حوصروا وهم في جبل زالونغو من قبل القوات العثمانية. قررت النساء ألا يقبلن العبودية، فبدأن برمي أطفالهن من على حافة الجبل ثم رمي أنفسهن وهن يغنين ويرقصن. يُقدر عدد النساء اللاتي شاركن في رقصة الموت هذه بـ63 إمرأة. ثم تساءلت بعدها عن جدوى الرقص والغناء في مثل هذه المواقف على وجه التحديد، فهما ركيزة أساسية في بعض الثقافات الشرقية والافريقية والتي تستعين بهما في مناسبات الأفراح والأحزان. لذا يجيء الفن كأسلوب تعبيري في بعض الثقافات وتكمن أهميته المعنوية في العزاء ومشاركة المآسي والشعور بالترابط والاتحاد.

وفي مقابل مشاركة القصص الواقعية التي حدثت في العالم، شارك البعض منا بقصص شخصية حدثت لهم. فمثلاً حكى أحدنا أنه حضر يوماً محاضرة دينية لأحد شيوخ الدين، وكان الشيخ يتحدث عن حرمة فن النحت مورداً الأسباب الشرعية، وذلك مفهوم ومقبول طالما أنه لا يتعدى كونه رأي، ولكنه بدأ بفرض ذلك على الحاضرين بقوله أنه يجب عليهم أن يمنعوا أولادهم من ممارسة هذا الفن وأن يدمروا أي منحوتة موجودة في منازلهم. وهذا دفع صديقنا إلى العودة إلى منزله، أخذ قطعة الصلصال، ونحت صورة الشيخ نفسه! فعل ذلك كتعبير عن غضبه ورفضه، وكتنفيس للكربة أيضاً. إن لم يفعل، لربما حمل غضبه معه إلى مماته حسب قوله. وفي حدث آخر، كان أحدنا يمشي في أحد شوارع مدينة تشيانج ماي في تايلند حين سمع صوت طبول آتية من بعد. تبع الصوت رغبة في معرفة المصدر، إلى أن وصل إلى مكان الموسيقى. فوجئ بفرقة كل أعضاءها من بلدان مختلفة حول العالم، وكل فرد منهم لديه طبلته الخاصة به والآتية من ثقافته وبلده. لا يتحدثون لغة واحدة مشتركة، ولكن جمعتهم الموسيقى.

هذا وبالإضافة إلى العديد من الأفكار المطروحة والقصص المختلفة عن التقسيم الموسيقي الجغرافي للسنغال والبرازيل، وحول بيتهوفن وعلاقته بنابليون، وفان جوخ، وشاعرية القرآن والوحي. قالها بيكاسو وصدق: "الفن يغسل الروح من غبار الحياة اليومية"، أليس غسيل الروح من ضروريات الحياة؟

___________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 24 فبراير، 2014: 

الأحد، 9 فبراير 2014

اختراق حجاب الشمس



تغاضوا عن صورتي هذه في أعلى المقالة، عن ملامحي الأنثوية، عن هويتي العُمانية والعربية والشرقية والإسلامية، عن حجابي، عن كوني كاتبة في هذه الجريدة، وعن قول الدين أني بحاجة إلى محرم حين أسافر. تغاضوا عن ذلك كله، واعتبروني إنسانة فحسب، إنسانة تريد تجربة السفر لوحدها لفترة طويلة.

لماذا قد يريد الإنسان ذلك؟ ما المتعة في أن تأكل لوحدك وتمشي مع نفسك؟ ولم قد تفضل ذلك على السفر بصحبة الأصدقاء أو العائلة؟

في السفر وحيداً عزلة روحية وفكرية، والإنسان بحاجة من حين لآخر أن يبتعد تماماً عن ضوضاء الحياة وأن يخلو قلبه من خارجه ويدخل في غياهب نفسه، أن يمتلك وقته ويتصرف به كما يشاء، كأن يقضي اليوم بأكمله مستغرقاً في قراءة كتاب، أو متأملاً في وجوه الغرباء. أن يتوه قليلاً وعن قصد، كأن يسلك طريقاً جديداً بلا وجهة محددة ويكون منفتحاً على المغامرة القادمة، أن ينسلخ من ذاته القديمة ويلد ذاتاً أخرى غيّرها السفر الحقيقي. وألا تنسى أيها الإنسان الذي يريد السفر مثلي أن تطفئ هاتفك ولا تشارك تجربة سفرك مع أحد مواقع التواصل الإجتماعي، مقدساً بذلك عزلتك. أن تذهب إلى دولة لم تفسدها التجارة السياحية وتتمتع بجمالها من غير تأثر بما قد يمليه عليك أفواه الناس والإعلانات التلفزيونية، وتتعلم عن ثقافتها وتقاليدها وموسيقاها الشعبية، وتحفظ الكلمات الرئيسية من لغتها حتى تتمكن من التواصل مع فقرائها وأطفالها. أن تخرج من دائرة راحتك في لباسك وطعامك ومنامك، فتترك الثياب والحقائب الفاخرة، وتأكل مما لم تعتد تذوقه، وتنام في بيت تقليدي بصحبة أسرة غريبة كريمة.

في السفر وحيداً فهم لذاتك أكبر، قرب لقلبك أكثر. غربتك تعني اندفاعك نحو المجهول بروح فضولية، تعني حبك للإستكشاف والمغامرة، واستعدادك للإنفصال مؤقتاً عن المفاهيم التي تعتبرها غامضة كالهوية وتمثيل بلادك والأصول. أن تسافر وحيداً مدفوعاً بهذه الروح يعني أنك ستتواصل أكثر مع السكان المحليين، ولربما تقترب من إنسانيتك، وتنفذ لقلبك. ربما لكي تفهم، يجب أن تبتعد قليلاً.

كانت لي تجربة بسيطة قبل سنتين، أستطيع تشبيهها بتجربة السفر وحيدة والعزلة الروحية رغم أنها ليست كذلك تماماً. ذهبت في رحلة تخييم امتدت لعشرة أيام متواصلة. كانت الرحلة جزءا من رحلة استكشافية نظمتها شركة "آوتوورد باوند عُمان" بهدف المشي طوال الخط الساحلي للسلطنة عبر ٨ مجموعات. مشيت مع مجموعتي المكونة من ٤ فتيات أخريات لحوالي ١٠٠ كيلومتر طوال عشرة أيام من هضبة سلمى في جبال الحجر الشرقي نزولاً إلى صور وإنتهاءً في قريات، وكانت معنا مدربة ومصور فوتوغرافي. كنا نقوم من النوم فجر كل يوم، نأكل طعام الفطور، ونوظب أغراضنا وخيمنا وحقيبة ظهرنا ثم نبدأ بالمشي. نتوقف قليلاً للغداء في أي مكان صالح للجلوس، مرة على ممر الجبل ومرة على قارعة الطريق ومرة بجانب البحر، ثم نكمل المشي إلى قبيل دخول المغرب بقليل، فنتوقف وننصب خيامنا ونطبخ طعام العشاء لنأكل وننام بعدها. لم أكن أعرف أي من فتيات المجموعة من قبل، وهاتفي انطفأ في اليوم الثاني ولم أهتم كثيراً بإعادة شحنه، فقد كان معي كتابين وكنتُ سعيدة رغم الصعوبات التي واجهتنا. قمنا بتعلم الصيد على يد صيادين في شواطئ صور وكانت وجبة عشائنا في ذلك اليوم بحرية بامتياز، وتعرفنا على فتيات من قرية قران الجبلية وجلسنا في فناء بيتهم بعد أن أصررن على تقديم "الفوالة" لنا (والفوالة -للقارئ غير العُماني- هي مجموعة أطباق تُقدم للضيف ومكونة من الفواكه والتمر والحلوى العمانية والقهوة)، وأزعجنا نهيق حمار طوال إحدى الليالي وحين صحونا صباحاً رأيناه وصادقناه وأسميناه "بو صابر".

ارتحل الإمام الغزالي لمدة 11 عاماً باحثاً أبداً عن الحقيقة، حتى بعدما مارس التدريس وتأثر به طلابه وأخذوا من علمه، شك هو في كل ما تعلم وفضل السفر وحيداً بين دمشق ومكة والمدينة المنورة والقدس والخليل حتى يفهم أكثر. وكذلك كان الحال مع الكاتب اليوناني نيكوس كزانتزاكيس الذي سافر إلى أثينا وباريس وفيينا وسيناء وموسكو والصين ودول أخرى، كل ذلك في طلب الحقيقة وباحثاً عن الله. بغض النظر عما نظن حيال آراء هؤلاء، فهم في النهاية باحثون اتخذوا من السفر وسيلة، ولا نملك سوى الإعجاب بما فعلوا.

من أقرب الأغنيات إلي أغنية "إلى سلمى" للمغنية التونسية بديعة بوحريزي، وكلمات الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان. أجمل نسخة للأغنية هي حين تغني بديعة في برنامج "آخر كلام" في ضيافة المذيع المتألق يسري فودة بصوت ساحر: "تبغي انفلاتاً من الأمس الذي ألفت، ترجو اختراق حجاب الشمس والزمن، تسعى وتبحث في المجهول عن قبس حي وعن ملتقى غض ومؤتمن". هذه الكلمات، بقدرة الشعر العجيبة، تلخص ما وددت قوله في هذا المقال.

____________________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 10 فبراير، 2014:

الأحد، 2 فبراير 2014

لماذا نحب الأوبرا؟


"ما الذي يعجبكِ في عرض مليء بالنساء الممتلئات وهن يغنين أو بالأحرى يصرخن بصوت ثخين وبكلمات غير مفهومة؟" هو السؤال الذي يواجهني كلما عبرت عن حبي للعروض الأوبرالية، ثم إذا كان السائل ظريفاً فهو يبدأ بتقليد الغناء الأوبرالي راسماً كلمات الأغنية من خياله الخاص محاولاً بذلك تقليد اللغة الإيطالية.

إذن لماذا أحب الأوبرا؟

كانت البداية في أيام الجامعة، في فصلي الثاني تحديداً في جامعة الكويت حين أخذت مقرر "مقدمة إلى الأدب العالمي مترجماً" مع الدكتور عبدالسلام البهبهاني. ولقد رأى أن يدرسنا الأدب العالمي بصحبة الأوبرا فكنا نقرأ المسرحيات المترجمة ثم نشاهد العروض الأوبرالية المستوحاة منها. فقرأنا وشاهدنا مسرحيات عديدة من بينها "التروبادور" و"لا ترافياتا" المستوحاة من رواية غادة الكاميليا لآلكسندر دوماس. في البدء كنتُ أتبادل النظرات مع زميلتي في الصف ونضحك خفية خلال مشاهدتنا لهذه العروض ولكن مع مرور الأيام أصبحت أقدرها أكثر فأكثر. الأوبرا فن يجمع بين المسرح والتمثيل والغناء والموسيقى والقصة، وجماله آت من شموليته هذه. فإن لم يعجبك أحدهم، فلنقل القصة مثلاً، لا بد أن يعجبك التصميم المسرحي أو الموسيقى.

كان الإنبهار الأول للتصميم المسرحي مع أوبرا "ريجوليتو" لجيوسيبي فيردي والتي حضرتها في دار الأوبرا السلطانية، فبدلاً من إسدال الستار لتغيير المكان ما بين الفصول، كانت التغييرات المسرحية تحدث أمام الجمهور. كان شيئاً من السحر أن ينتقل المشهد من غرفة النوم إلى خارج المنزل بسلاسة وجمال أمام المشاهد، فترى السرير يدخل، والجدار يتحرك، والأبواب تستبدل. أما أوبرا "لا ترافياتا" لفيردي أيضاً فقد اعتمد تصميمها المسرحي على المرآة، فوضعت مرآة ضخمة مقسمة إلى عدة مرايا صغيرة في خلفية المسرح وتمت إمالتها بزاوية معينة بحيث تعكس الأرضية، وفي الأرضية قطعة قماش ضخمة تصور المكان وتتغير بتغير الفصول، فمثلاً في المشهد الأول من الفصل الثاني والذي تدور أحداثه في بيت ريفي خارج باريس كانت الأرضية مغطاة بقطعة قماش فيها مئات من زهور الأقحوان الأصفر وقد انعكست هذه الأرضية على المرآة. في المشهد الأخير من الأوبرا، حين تموت البطلة بفعل مرض السل، ترتفع المرآة وتميل بزاوية قائمة بحيث تعكس الجمهور لا الأرضية، وبذلك ثم إدخال الجمهور في العرض بطريقة تفاعلية بديعة، وكأن المخرج يريد أن يرينا أننا لسنا بعيدين عن المأساة بل نحن جزء فاعل منها. كان لهذه الحركة الأثر الكبير في نفسي وشعرت حينها بالتعاطف الكبير مع البطلة ومأساتها.

تناقش الأوبرا أيضاً الكثير من القضايا الإجتماعية عبر قصصها المختلفة، فأوبرا "مدام بترفلاي" لجياكومو بوتشيني على سبيل المثال تحكي قصة حب بين فتاة جيشا يابانية وملازم أول أمريكي. تتوقف سفينته بشكل مؤقت في ناجازاكي ويقرر الزواج منها بشكل مؤقت من غير علمها، ثم حين يهجرها وتكتشف أنه رجع إلى الولايات المتحدة وتزوج من امرأة أمريكية تقرر إسترجاع شرفها عبر الإنتحار بالطريقة اليابانية التقليدية "هاراكيري" وهي الطريقة التي كان مقاتلوا الساموراي يمارسونها حين يشعرون باقتراب حتفهم من يد عدوهم ويؤمنون أنها تمسح عار الهزيمة وتكفر عن الخطايا. تناقش الأوبرا إلتقاء الحضارتين الشرق والغرب وتفعل ذلك بتوظيف بديع للموسيقى التي دمجت بين الألحان اليابانية التقليدية واللحن الغربي الكلاسيكي، فهي ليست مجرد قصة حب بائسة ولكنها على الأحرى تتحدث عن الصراع الإجتماعي والديني والثقافي بين الحضارتين.

من جماليات الأوبرا أيضاً أن كل عرض يحتمل تفاسير مختلفة من عدة مخرجين، وقد شهدت ذلك على وجه الخصوص مع أوبرا "رباعية الخاتم" أو "دير رينغ ديس نيبلنغين" للمؤلف الألماني القدير ريشارد فاجنر وهي سلسلة مؤلفة من أربعة عروض أوبرالية وهي: الراين الذهبي، والفالكيري، وسيغفريد، وشفق الآلهة، ومستوحاة من الميثولوجيا الجرمانية والإسكندنافية. تم إخراج هذه الأوبرا بطرق مختلفة عبر السنين، فمنهم من أبرز العنصر النسوي فيها بشكل كبير فكان الحصان والطائر والأقزام النيبلونغ والعمال كلهم نساء، ومنهم من فسرها من ناحية إجتماعية فبرز الصراع الطبقي والعلاقة بين الحكومة والطبقة العاملة، ومنهم من فسرها بطريقة سيكولوجية عميقة مركزاً على نفوس شخصياته وأفعالها الواعية واللاواعية. الطائر الذي يقود سيغفريد إلى برونهيلدا، على سبيل المثال، تم تصويره بطرق مختلفة، فمرة كطائر حقيقي، ومرة كطائر محبوس في قفص، ومرة كصبي أشقر، ومرة كصبي أعمى، ومرة كفتاة صغيرة. هذه المرونة في تفسير النص الرئيسي لا نراها إلا من خلال المسرح والعروض الأوبرالية وهي تبعث الجمال والمعنى فيما نشاهد.

إذن تحتوي الأوبرا على أكثر من مجرد إمرأة ممتلئة تغني بصوت ثخين، فالموسيقى والمسرح والقصة كلها عوامل جاذبة ومدهشة ولهذا نحبها ونستمتع بمشاهدتها. جربوا مثلاً الإستماع إلى صوت ماريا كالاس الساحر وهي تغني "آه يا أبي الحبيب" أو صوت إنريكو كاروسو وهو يغني "الدمعة الماكرة"، فذلك كله من جماليات الأوبرا.

________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 03 فبراير، 2014:

الأربعاء، 29 يناير 2014

طائر النار الأرمني



بورتريه
لعل منحوتة الفنان فازا ميكابيريدز في ساحة تبليسي القديمة تقول أكثر مما نستطيع قوله عن المخرج الأرمني سيرجي باراجانوف. ليست المنحوتة لباراجانوف واقفاً مكتفاً يداه ويتطلع إلى السماء، ولا تصوره وهو يمسك في يده عصا وينظر إليك متأملاً، بل هي منحوتة معلقة على الجدار، إن نظرت إليها من زاوية مستقيمة ستظنه يطير. يمد فيها يديه فتبدو أكمام قميصه كجناحين، وترى رجليه وكأنهما في وضعية الطيران، وتظهر على وجهه ابتسامة دافئة.
ستُعجب بهذا المخرج أكثر إن علمت أن المنحوتة مأخوذة من صورة فوتوغرافية لباراجانوف وهو يقفز وسط حارة قديمة في تبليسي. هناك منحوتة أخرى أمام متحف يريفان في أرمينيا تصوره واقفاً باسطاً يديه أمام صدره ويحمل حمامة، ورافعاً يده الأخرى كتحية سلام وحول يده برواز بلا صورة. كما أن هناك صورة فوتوغرافية مدهشة، من تصوير الفنان يوري ميخيتوف، تصوره وهو ينظر مباشرة نحو الكاميرا بعينين ثاقبتين، ويحمل في يده مزهرية ورود، وفي رأسه قبعة سوداء، وفوق القبعة قفص دائري، وفوق القفص يقف عصفور.

مذنب لأنه متفرد
حين حُكم على باراجانوف بالسجن لخمسة سنوات في مخيم للعمل الشاق في سيبيريا بفعل أفكاره التي اعتبرت شاذة في وقتها عن الإتحاد السوفييتي، كتب آندريه تاركوفسكي إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوكرانيا قائلاً: "في السنوات العشر الماضية، أخرج سيرجي باراجانوف فيلمين فقط: ظلال أجدادنا المنسيون، ولون الرمان. ولقد أثرا على السينما أولاً في أوكرانيا، ثانياً في هذا البلد ككل، وثالثاً في العالم بأسره. هناك عدد قليل جداً من الناس في هذا العالم ممن يستطيعون مجاراة مواهب باراجانوف الفنية. هو مذنب، مذنب لأنه متفرد. ونحن مذنبون لأننا لا نفكر فيه يومياً ولأننا فشلنا في استكشاف أهمية هذا الفنان." وقد احتج مجموعة من الفنانين والسينمائيين وقتها رفضاً لهذا الحكم، من بينهم جان لوك جودار وفرانسوا تروفو وايف سان لوران وفيديريكو فيليني ومايكلانجلو انتونيوني ولويس بونويل.


متعة غير تقليدية
لجأت في مقدمتي عن هذا المخرج الأرمني إلى مجموعة من الصور تحكي لنا عنه أكثر مما قد نقرأه في كتب السيرة، وإلى إقتباس من أحد أكبر وأهم صناع السينما في العالم. أفلام سيرجي باراجانوف بصرية بامتياز، تحمل أقل قدر ممكن من الحوار، وتبهر المشاهد بتصويرها للتراث والثقافة الاوكرانية والأرمنية. هي ليست أفلام ممتعة بمعنى المتعة التقليدي، ولكنها أفلام ذكية وتتحدى المشاهد بقصصها وصورها غير الاعتيادية.

ثلاثة أوطان
ولد باراجانوف في مدينة تبليسي في جورجيا في التاسع من يناير عام 1924، ويقول عن نفسه: "يعرف الجميع أن لي ثلاثة أوطان، فقد ولدت في جورجيا، وعملت في أوكرانيا، وسأموت في أرمينيا"، لذا احتفاءاً بأعماله الخارجة عن المألوف دوماً، ورغبة في تعريف المشاهد العربي بمخرج عالمي بعيد كل البعد عن الإنتاج الهوليوودي، جاء هذا المقال. سأركز فيه على ثلاثة عوامل مهمة ومتكررة في أفلامه، وهي توظيف الألوان والبراعة التصويرية، والتراث الاوكراني الشعبي والديني، واللغة الشعرية، وسأعرض أمثلة من فيلمين على وجه التحديد، هما أهم أفلامه القليلة التي أخرجها؛ "ظلال أجدادنا المنسيون"، و"لون الرمان". قصة الفيلمين بسيطة؛ فكلاهما يتحدثان عن رجل وُلد وعاش وأحب وحزن ومات. في "ظلال أجدادنا المنسيون" الرجل هو إيفان، رجل بسيط يسكن في قرية تابعة لشعب الهوتسول في جبال الكاربات في أوكرانيا، يقع في حب فتاة تدعى ماريتشكا منذ صغره، ولكن تاريخ عائلته وعائلة الفتاة شائك، فأباها قتل أباه، ولكنهما رغماً عن ذلك يصران على البقاء معاً إلا أن الأقدار تمنعهما فيتفرقان. أما فيلم "لون الرمان" فهو يحكي سيرة حياة الشاعر الأرمني سايات نوفا (وهذا الإسم يعني ملك الأغنية) من طفولته إلى مماته، ولكن بطريقة بصرية وشعرية أكثر مما هي ذاتية أو حرفية، ومقسم إلى ثمانية فصول، يمكننا تسميتها لوحات حية لكونها تتمتع بأقل قدر ممكن من الحركة وتبدو وكأنها لوحة فنية، ويتخلل الفصول أبيات شعرية من كلمات الشاعر.

رمزية اللون
برع باراجانوف في توظيف الألوان بطريقة رمزية لصالح معاني أفلامه، ورغم أن الفيلمين تم إنتاجهما في الستينيات من القرن الماضي، أي بتقنيات بصرية محدودة، إلا أنه استطاع إخراجهما بطريقة سابقة لعصره. في النصف الأول من فيلم "ظلال أجدادنا المنسيون"، النصف السعيد والمغمور بالحب، كانت الألوان حادة وصارخة وكان اللون الأحمر طاغياً ومتمثلاً في الثياب التقليدية والنار، وأيضاً جاء استخدام الألوان الأرضية – الأصفر والأخضر والبني – كثيراً، دالاً بذلك على أهمية الطبيعية لدى شعب الهوتسول. يتحدث باراجانوف عن هذا الفيلم ويقول: "الطبيعة هي التي أنجبتنا وهي من سيعيدنا ثانية إلى حضنها. ينبغي أن نبجل الطبيعة: حقيقتها، مثلها العليا، أمومتها، ومنشأها." أما في النصف الثاني وبعد حادثة مريعة جعلت إيفان صريعاً للكآبة، فقدت الألوان حيويتها وأصبحت كلها باهتة وخافتة بل وأصبح الفيلم أقرب إلى الأبيض والأسود منه إلى الملون. تقع أحداث الفيلم في جبال الكاربات الباردة والمكسوة بالثلج في معظم أيام السنة، ولكن المشاهد لا يشعر ببرودة الأجواء إلا حين تحولت الألوان وأصبحت رمادية ومعها أصبح الجو يبدو لنا قارساً وقاسياً أكثر. وصف أحد مراجعي الفيلم في موقع قاعدة بيانات الأفلام العالمية IMDb تجربة مشاهدته بركوب لعبة أفعوانية بها خلل، وأجد ذلك الوصف دقيقاً بسبب الحركة المستمرة للكاميرا وزوايا التصوير غير الاعتيادية. ينصدم المشاهد في أول مشهد من الفيلم – على سبيل المثال – بشجرة تقع على أحد الرجال وترديه ميتاً، تم تصوير هذا المشهد من زاوية الشجرة فنشهد وقوعها وكأننا نحن من وقعنا على الرجل. وكذا الحال أيضاً مع فيلم "لون الرمان" فمن العنوان نعرف أن هذا الفيلم يستخدم الألوان بطريقة رمزية، ومن بداية الفيلم، يرى المشاهد فاكهة الرمان على قطعة من القماش الأبيض وكأنها تنزف دماً. يختبر باراجانوف براعته مع الكاميرا كطفل يلعب بدميته ويعاملها كصديقة، فيدخل المشاهد في جو مشحون ومليء بالحركة إلى درجة الإبهار.


تقاليد أوكرانيا
غالباً ما تكون الأفلام العالمية مقدمة تعريفية للثقافات والشعوب المختلفة، وما أدهشني في أفلام باراجانوف هو عمق وتجذر الثقافة الاوكرانية فيها. فمن خلال هذين الفيلمين، أخذت نظرة حول تقاليد الولادة والزفاف والوفاة وتعرفت بشكل مقرب إلى الأغاني والرقصات الاوكرانية الشعبية، حتى صرت أنشدهم بلا حفظ للكلمات ولكن بحب للحن. كغرابة الصورة الفوتوغرافية لباراجانوف التي تحدثت عنها في بداية المقالة، أتى فيلم "لون الرمان" بصور سريالية متعددة وكأنها خارجة للتو من حلم أحد المجانين. يكفينا أن نكتب اسمه في محرك البحث غوغل ونفتح على صوره لننصدم بعجائبيته. صورة للشاعر وهو مغمض العينين ويحمل جمجمة عليها خوذة محارب، صورة لرجل نائم على سرير أسود، بجانبه الأيمن طفل يحمل كرة ذهبية، وبجانبه الأيسر طفل آخر بجناحين على ظهره يشبهان قرون الأيل، صورة لسقف منزل مرصوف عليه مجموعة كبيرة من الكتب المفتوحة. يُعتبر الشاعر سايات نوفا من أهم شعراء أرمينيا في القرون الوسطى، وقد نسب إليه ما يقارب 220 أغنية، كتبهم بعدة لغات منهم الفارسية والأرمنية والجورجية، ولكن معظمهم باللغة الأذربيجانية. وهو يعتبر من شعراء التروبادور أو "عاشيق" وهم شعراء متجولون وعازفون للعود. أصبح قسيساً في أواخر سنين حياته وقُتل وهو في الكنيسة من قبل قوات الشاه الإيراني آغا محمد خان قاجار لرفضه الدخول إلى الإسلام وتمسكه بالمسيحية. لذا جاء الفيلم مليئاً بالصور الرمزية المسيحية والأناشيد الدينية، ففي أحد المشاهد البديعة، على سبيل المثال، والتي تستفتح ببيت شعري لسايات نوفا: "كمجموعة من الضحايا البريئون، أتينا إلى هذا العالم لنقدم لك القرابين يا إلهي" يغني مجموعة من الأطفال في كنيسة وهم يحملون مختلف القرابين والرموز، كصورة المسيح، وقرون الأيل، ومنحوتة حمامة، وكأس، ويحملون معاً قطعة قماش بيضاء عليها نقوش مخرمة، فيما يحفر الشاعر قبر كاهن توفى، ثم تدخل الكنيسة مجموعة كبيرة من الخرفان. ينتهي هذا المشهد ببيت شعري آخر: "طلبت كفناً أبيضاً لتغطية الجسد الميت، ولكنهم بدلاً عن ذلك أعطوني نوبات جنونية مضطربة من أجسادهم الحية، من أين لي بحب غير أناني؟". في مشهد آخر، من فيلم "ظلال أجدادنا المنسيون" نرى تقاليد الزفاف الأوكراني. يدخل البطل الذي سيتزوج لابساً ثياباً تقليدية الكنيسة، لتستقبله نسوة يغنين بفرح، ثم تقترب منه أحدهن وفي يدها قطعة قماش لتغطي بها عينيه ثم تقوده إلى كرسيه. بعد ذلك تأتي الزوجة، معصوبة العينين أيضاً، لتجلس بجانبه. تأتي النسوة بسلم خشبي صغير وتضعنه على رأسيهما كدلالة على ارتباطهما معاً. يقول باراجانوف عن هذا الفيلم: "لقد ركزت فيه على الجانب الأثنوغرافي: على الله، على الحب، وعلى المأساة. وهذا هو ما يعنيه الأدب والسينما بالنسبة لي."


شعر
على الرغم من قلة الحوار في أفلام باراجانوف، لاعتمادها الكبير على الصورة البصرية، إلا أن اللغة الشاعرية تجبرك على التوقف قليلاً وأنت تشاهد الفيلم لتقول "آه، يا للجمال!" وقد فعلت ذلك مراراً أثناء مشاهدة هذين الفيلمين. لذا رأيت أن أعرض بعض الاقتباسات منهما بلا تعليق على المشهد حتى يتسنى للقارئ استكشاف الفيلمين بنفسه.

- إيفان وماريتشكا يتحاوران بالغناء. ماريتشكا: غني إيفان طالما تستطيع الغناء! وسأغني لك حتى لا تفهمني. إيفان: أخبريني، أخبريني يا فتاتي، أين فقدت عقلي؟ أو ربما خبأته بين شجرات البتولا أو الحور. ماريتشكا: حين وقعنا في الحب، حتى شجرة السنديان الجافة بدأت بالإزدهار، وحين افترقنا ذبل الليلك. إيفان: آه يا حلوتي ماريتشكا، يا عصفورتي الثرثارة، لو قدر لنا فقط أن نحب بعضنا لصيف واحد! ماريتشكا: تذكرني يا إيفان، ولو مرتين يومياً، فأنا أتذكرك سبع مرات في الساعة الواحدة. تبرعمت شجرة التفاح، ونحن أحببنا بعضنا منذ الصغر. إيفان: ذهبت إلى المرج، ورأيت عصفوراً هناك، ماذا تفعلين الآن يا ماريتشكا ذات الشعر الأسود؟
- يجب أن نحافظ على الكتب ونقرأها، لأن الكتب أرواح وحياة. دون كتب، لن يرى العالم شيئاً فيما عدا الجهل.
- صلاة: إلهي دع الأرواح الضائعة تنضم إلينا، تلك المجروحة في الرحلات الطويلة، أو تلك التي غرقت في مياه عميقة.
- كنا نبحث عن ملجأ لحبنا، ولكن بدلاً عن ذلك، قادنا الطريق إلى أرض الأموات.
- كيف أحمي قلاع حبي الشمعية من وهج نيرانك المفترسة؟

مغامرة
حين سألوا باراجانوف كيف أصبحت مخرجاً؟ أجاب: "أعتقد أنه ينبغي على المخرج أن يولد مخرجاً. الأمر مثل مغامرة طفل، أن تأخذ روح المبادرة وسط أطفال آخرين وتصبح مخرجاً، مبتكراً بذلك لغزاً. عليك أن تصوغ الأشياء في شكل ما وتعيد خلقها من جديد. أن تعذب الناس بموهبتك الفطرية، أن ترعب والدتك وجدتك في منتصف الليالي. أن ترتدي ثياباً أشبه بثياب عمنا شابلن أو مثل هنس كريستيان أحد بطال أندرسون. أن تستخدم الريش المخبأ في صندوق الثياب، أن تحّول نفسك إلى ديك أو طائر النار. هذا هو ما كان يشغلني ويستحوذ علي دائماً، وهذا هو الإخراج." وكان هو هكذا، طائر النار، مجنوناً وعبقرياً وساخراً وأرمنياً جداً. كتب علي كامل مقال عنه في صحيفة إيلاف، وكان من جملة ما ذكر أن باراجانوف أراد الإحتفال مرة بعيد ميلاده، فخرج إلى الشوارع وهو يصرخ ويدعو الجميع إلى حضور الحفل. حضروا مئة، وشقته الصغيرة لم تكن تكفي سوى لعشرين منهم، فأدخلهم وأجلس البقية على سلالم وممرات المبنى السكني من الطابق الأول وحتى الطابق الخامس، بلا استئذان من سكنة المبنى. وكان يستقبلهم بفرح وهو يرفع نخبهم وينتقل بين الطوابق كطفل. أصيب بسرطان الرئة عام 1989 وتدهورت صحته مذاك، وفي أواخر أيامه كان يتوسل الطبيب أن يمدد في عمره ولو لستة أيام فقط حتى يكمل كتابة سيناريو فيلمه الأخير "الإعتراف"، ولكن وافته المنية قبل تحقيق أمنيته ومات في 21 يوليو عام 1990، تاركاً وراءه قصة حياة عظيمة وأفلام خلدت تاريخ أوكرانيا وتراثها وثقافتها.


___________________________________

نُشر المقال في صحيفة آراء الإلكترونية بتاريخ 29 يناير، 2014:

http://www.araa.com/article/84384