الأحد، 9 فبراير 2014

اختراق حجاب الشمس



تغاضوا عن صورتي هذه في أعلى المقالة، عن ملامحي الأنثوية، عن هويتي العُمانية والعربية والشرقية والإسلامية، عن حجابي، عن كوني كاتبة في هذه الجريدة، وعن قول الدين أني بحاجة إلى محرم حين أسافر. تغاضوا عن ذلك كله، واعتبروني إنسانة فحسب، إنسانة تريد تجربة السفر لوحدها لفترة طويلة.

لماذا قد يريد الإنسان ذلك؟ ما المتعة في أن تأكل لوحدك وتمشي مع نفسك؟ ولم قد تفضل ذلك على السفر بصحبة الأصدقاء أو العائلة؟

في السفر وحيداً عزلة روحية وفكرية، والإنسان بحاجة من حين لآخر أن يبتعد تماماً عن ضوضاء الحياة وأن يخلو قلبه من خارجه ويدخل في غياهب نفسه، أن يمتلك وقته ويتصرف به كما يشاء، كأن يقضي اليوم بأكمله مستغرقاً في قراءة كتاب، أو متأملاً في وجوه الغرباء. أن يتوه قليلاً وعن قصد، كأن يسلك طريقاً جديداً بلا وجهة محددة ويكون منفتحاً على المغامرة القادمة، أن ينسلخ من ذاته القديمة ويلد ذاتاً أخرى غيّرها السفر الحقيقي. وألا تنسى أيها الإنسان الذي يريد السفر مثلي أن تطفئ هاتفك ولا تشارك تجربة سفرك مع أحد مواقع التواصل الإجتماعي، مقدساً بذلك عزلتك. أن تذهب إلى دولة لم تفسدها التجارة السياحية وتتمتع بجمالها من غير تأثر بما قد يمليه عليك أفواه الناس والإعلانات التلفزيونية، وتتعلم عن ثقافتها وتقاليدها وموسيقاها الشعبية، وتحفظ الكلمات الرئيسية من لغتها حتى تتمكن من التواصل مع فقرائها وأطفالها. أن تخرج من دائرة راحتك في لباسك وطعامك ومنامك، فتترك الثياب والحقائب الفاخرة، وتأكل مما لم تعتد تذوقه، وتنام في بيت تقليدي بصحبة أسرة غريبة كريمة.

في السفر وحيداً فهم لذاتك أكبر، قرب لقلبك أكثر. غربتك تعني اندفاعك نحو المجهول بروح فضولية، تعني حبك للإستكشاف والمغامرة، واستعدادك للإنفصال مؤقتاً عن المفاهيم التي تعتبرها غامضة كالهوية وتمثيل بلادك والأصول. أن تسافر وحيداً مدفوعاً بهذه الروح يعني أنك ستتواصل أكثر مع السكان المحليين، ولربما تقترب من إنسانيتك، وتنفذ لقلبك. ربما لكي تفهم، يجب أن تبتعد قليلاً.

كانت لي تجربة بسيطة قبل سنتين، أستطيع تشبيهها بتجربة السفر وحيدة والعزلة الروحية رغم أنها ليست كذلك تماماً. ذهبت في رحلة تخييم امتدت لعشرة أيام متواصلة. كانت الرحلة جزءا من رحلة استكشافية نظمتها شركة "آوتوورد باوند عُمان" بهدف المشي طوال الخط الساحلي للسلطنة عبر ٨ مجموعات. مشيت مع مجموعتي المكونة من ٤ فتيات أخريات لحوالي ١٠٠ كيلومتر طوال عشرة أيام من هضبة سلمى في جبال الحجر الشرقي نزولاً إلى صور وإنتهاءً في قريات، وكانت معنا مدربة ومصور فوتوغرافي. كنا نقوم من النوم فجر كل يوم، نأكل طعام الفطور، ونوظب أغراضنا وخيمنا وحقيبة ظهرنا ثم نبدأ بالمشي. نتوقف قليلاً للغداء في أي مكان صالح للجلوس، مرة على ممر الجبل ومرة على قارعة الطريق ومرة بجانب البحر، ثم نكمل المشي إلى قبيل دخول المغرب بقليل، فنتوقف وننصب خيامنا ونطبخ طعام العشاء لنأكل وننام بعدها. لم أكن أعرف أي من فتيات المجموعة من قبل، وهاتفي انطفأ في اليوم الثاني ولم أهتم كثيراً بإعادة شحنه، فقد كان معي كتابين وكنتُ سعيدة رغم الصعوبات التي واجهتنا. قمنا بتعلم الصيد على يد صيادين في شواطئ صور وكانت وجبة عشائنا في ذلك اليوم بحرية بامتياز، وتعرفنا على فتيات من قرية قران الجبلية وجلسنا في فناء بيتهم بعد أن أصررن على تقديم "الفوالة" لنا (والفوالة -للقارئ غير العُماني- هي مجموعة أطباق تُقدم للضيف ومكونة من الفواكه والتمر والحلوى العمانية والقهوة)، وأزعجنا نهيق حمار طوال إحدى الليالي وحين صحونا صباحاً رأيناه وصادقناه وأسميناه "بو صابر".

ارتحل الإمام الغزالي لمدة 11 عاماً باحثاً أبداً عن الحقيقة، حتى بعدما مارس التدريس وتأثر به طلابه وأخذوا من علمه، شك هو في كل ما تعلم وفضل السفر وحيداً بين دمشق ومكة والمدينة المنورة والقدس والخليل حتى يفهم أكثر. وكذلك كان الحال مع الكاتب اليوناني نيكوس كزانتزاكيس الذي سافر إلى أثينا وباريس وفيينا وسيناء وموسكو والصين ودول أخرى، كل ذلك في طلب الحقيقة وباحثاً عن الله. بغض النظر عما نظن حيال آراء هؤلاء، فهم في النهاية باحثون اتخذوا من السفر وسيلة، ولا نملك سوى الإعجاب بما فعلوا.

من أقرب الأغنيات إلي أغنية "إلى سلمى" للمغنية التونسية بديعة بوحريزي، وكلمات الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان. أجمل نسخة للأغنية هي حين تغني بديعة في برنامج "آخر كلام" في ضيافة المذيع المتألق يسري فودة بصوت ساحر: "تبغي انفلاتاً من الأمس الذي ألفت، ترجو اختراق حجاب الشمس والزمن، تسعى وتبحث في المجهول عن قبس حي وعن ملتقى غض ومؤتمن". هذه الكلمات، بقدرة الشعر العجيبة، تلخص ما وددت قوله في هذا المقال.

____________________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 10 فبراير، 2014:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق