الأحد، 2 فبراير 2014

لماذا نحب الأوبرا؟


"ما الذي يعجبكِ في عرض مليء بالنساء الممتلئات وهن يغنين أو بالأحرى يصرخن بصوت ثخين وبكلمات غير مفهومة؟" هو السؤال الذي يواجهني كلما عبرت عن حبي للعروض الأوبرالية، ثم إذا كان السائل ظريفاً فهو يبدأ بتقليد الغناء الأوبرالي راسماً كلمات الأغنية من خياله الخاص محاولاً بذلك تقليد اللغة الإيطالية.

إذن لماذا أحب الأوبرا؟

كانت البداية في أيام الجامعة، في فصلي الثاني تحديداً في جامعة الكويت حين أخذت مقرر "مقدمة إلى الأدب العالمي مترجماً" مع الدكتور عبدالسلام البهبهاني. ولقد رأى أن يدرسنا الأدب العالمي بصحبة الأوبرا فكنا نقرأ المسرحيات المترجمة ثم نشاهد العروض الأوبرالية المستوحاة منها. فقرأنا وشاهدنا مسرحيات عديدة من بينها "التروبادور" و"لا ترافياتا" المستوحاة من رواية غادة الكاميليا لآلكسندر دوماس. في البدء كنتُ أتبادل النظرات مع زميلتي في الصف ونضحك خفية خلال مشاهدتنا لهذه العروض ولكن مع مرور الأيام أصبحت أقدرها أكثر فأكثر. الأوبرا فن يجمع بين المسرح والتمثيل والغناء والموسيقى والقصة، وجماله آت من شموليته هذه. فإن لم يعجبك أحدهم، فلنقل القصة مثلاً، لا بد أن يعجبك التصميم المسرحي أو الموسيقى.

كان الإنبهار الأول للتصميم المسرحي مع أوبرا "ريجوليتو" لجيوسيبي فيردي والتي حضرتها في دار الأوبرا السلطانية، فبدلاً من إسدال الستار لتغيير المكان ما بين الفصول، كانت التغييرات المسرحية تحدث أمام الجمهور. كان شيئاً من السحر أن ينتقل المشهد من غرفة النوم إلى خارج المنزل بسلاسة وجمال أمام المشاهد، فترى السرير يدخل، والجدار يتحرك، والأبواب تستبدل. أما أوبرا "لا ترافياتا" لفيردي أيضاً فقد اعتمد تصميمها المسرحي على المرآة، فوضعت مرآة ضخمة مقسمة إلى عدة مرايا صغيرة في خلفية المسرح وتمت إمالتها بزاوية معينة بحيث تعكس الأرضية، وفي الأرضية قطعة قماش ضخمة تصور المكان وتتغير بتغير الفصول، فمثلاً في المشهد الأول من الفصل الثاني والذي تدور أحداثه في بيت ريفي خارج باريس كانت الأرضية مغطاة بقطعة قماش فيها مئات من زهور الأقحوان الأصفر وقد انعكست هذه الأرضية على المرآة. في المشهد الأخير من الأوبرا، حين تموت البطلة بفعل مرض السل، ترتفع المرآة وتميل بزاوية قائمة بحيث تعكس الجمهور لا الأرضية، وبذلك ثم إدخال الجمهور في العرض بطريقة تفاعلية بديعة، وكأن المخرج يريد أن يرينا أننا لسنا بعيدين عن المأساة بل نحن جزء فاعل منها. كان لهذه الحركة الأثر الكبير في نفسي وشعرت حينها بالتعاطف الكبير مع البطلة ومأساتها.

تناقش الأوبرا أيضاً الكثير من القضايا الإجتماعية عبر قصصها المختلفة، فأوبرا "مدام بترفلاي" لجياكومو بوتشيني على سبيل المثال تحكي قصة حب بين فتاة جيشا يابانية وملازم أول أمريكي. تتوقف سفينته بشكل مؤقت في ناجازاكي ويقرر الزواج منها بشكل مؤقت من غير علمها، ثم حين يهجرها وتكتشف أنه رجع إلى الولايات المتحدة وتزوج من امرأة أمريكية تقرر إسترجاع شرفها عبر الإنتحار بالطريقة اليابانية التقليدية "هاراكيري" وهي الطريقة التي كان مقاتلوا الساموراي يمارسونها حين يشعرون باقتراب حتفهم من يد عدوهم ويؤمنون أنها تمسح عار الهزيمة وتكفر عن الخطايا. تناقش الأوبرا إلتقاء الحضارتين الشرق والغرب وتفعل ذلك بتوظيف بديع للموسيقى التي دمجت بين الألحان اليابانية التقليدية واللحن الغربي الكلاسيكي، فهي ليست مجرد قصة حب بائسة ولكنها على الأحرى تتحدث عن الصراع الإجتماعي والديني والثقافي بين الحضارتين.

من جماليات الأوبرا أيضاً أن كل عرض يحتمل تفاسير مختلفة من عدة مخرجين، وقد شهدت ذلك على وجه الخصوص مع أوبرا "رباعية الخاتم" أو "دير رينغ ديس نيبلنغين" للمؤلف الألماني القدير ريشارد فاجنر وهي سلسلة مؤلفة من أربعة عروض أوبرالية وهي: الراين الذهبي، والفالكيري، وسيغفريد، وشفق الآلهة، ومستوحاة من الميثولوجيا الجرمانية والإسكندنافية. تم إخراج هذه الأوبرا بطرق مختلفة عبر السنين، فمنهم من أبرز العنصر النسوي فيها بشكل كبير فكان الحصان والطائر والأقزام النيبلونغ والعمال كلهم نساء، ومنهم من فسرها من ناحية إجتماعية فبرز الصراع الطبقي والعلاقة بين الحكومة والطبقة العاملة، ومنهم من فسرها بطريقة سيكولوجية عميقة مركزاً على نفوس شخصياته وأفعالها الواعية واللاواعية. الطائر الذي يقود سيغفريد إلى برونهيلدا، على سبيل المثال، تم تصويره بطرق مختلفة، فمرة كطائر حقيقي، ومرة كطائر محبوس في قفص، ومرة كصبي أشقر، ومرة كصبي أعمى، ومرة كفتاة صغيرة. هذه المرونة في تفسير النص الرئيسي لا نراها إلا من خلال المسرح والعروض الأوبرالية وهي تبعث الجمال والمعنى فيما نشاهد.

إذن تحتوي الأوبرا على أكثر من مجرد إمرأة ممتلئة تغني بصوت ثخين، فالموسيقى والمسرح والقصة كلها عوامل جاذبة ومدهشة ولهذا نحبها ونستمتع بمشاهدتها. جربوا مثلاً الإستماع إلى صوت ماريا كالاس الساحر وهي تغني "آه يا أبي الحبيب" أو صوت إنريكو كاروسو وهو يغني "الدمعة الماكرة"، فذلك كله من جماليات الأوبرا.

________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 03 فبراير، 2014:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق