الأحد، 16 مارس 2014

السيكولوجية من وراء "فعل القتل" والاعتزاز به


كيف نفهم سيكولوجية القاتل الفخور بفعلته؟ وهل التاريخ محايد أم أنه بالفعل يكتب من قبل المنتصرين؟ ما هو المنطق وكيف نفسر اختلافه الجذري بين فرد وآخر؟ إلى أي مدى تصل قسوة الإنسان وتبريره لقسوته هذه؟ ربما يستطيع أياً كان أن يبرر أي فعل لا إنساني بمنطق يجعل الجميع يتفق معه. كيف تتلاعب الحكومات والسلطات بأفكار الشعب وتجعلهم يؤمنون باللامنطقي واللاإنساني؟ كل هذه الأسئلة والأفكار كانت تتدفق في رأسي بشكل لا متناهي وأنا أشاهد الفيلم الوثائقي "فعل القتل" للمخرج جوشوا أوبنهايمر.

بدأت أحداث التطهير الشيوعي في إندونيسيا في أكتوبر عام 1965 بعد فشل انقلاب حركة 30 سبتمبر ويقدر أعداد المقتولين بخمسمئة ألف خلال أقل من عامين. تمخضت المنظمة شبه العسكرية "شباب بانكاسيلا" من هذه الإبادة الجماعية وإلى يومنا هذا لها أتباعها من الشعب والحكومة والذين يفاخرون بما حدث قبل حوالي خمسون عاماً. يقول قائد المنظمة في أحد الخطب الجماهيرية: "يقولون أن منظمة شباب بانكاسيلا هي منظمة عصابات، إن كانت كذلك فأنا أفخر بأني أكبر رجل عصابة". إذن لا محاكمات للقتلة، لا نصب تذكارية للموتى، لا اعتراف دولي بخطأ ما حدث، بل العكس من ذلك تماماً، هم يحكمون البلد ويعتبرون أنفسهم أبطالا قوميين. لا يتحدث فيلم "فعل القتل" عن هذه الأحداث التاريخية على وجه التحديد ولكنه ينقل لنا صورة ما حدث بطريقة مختلفة جداً عما اعتدنا عليه في الأفلام الوثائقية. التقى المخرج في عام 2005 بأنور كونغو، الأب الروحي لمنظمة شباب بانكاسيلا، والذي قتل بنفسه حوالي ألف من الشيوعيين، وأخبره أنه يريد تصوير فيلم عن هذا الحدث. يوافق أنور ومجموعة من أصدقاءه القتلة على تصوير فيلم يمثلون فيه كأبطال وكضحايا، ويكتبون نص السيناريو بأنفسهم، ويعيدون تصوير مشاهد قتلهم لضحاياهم. وبما أنهم شغوفون جداً ومتأثرون بالسينما الأمريكية الهوليوودية، فقد أرادوا تصوير مشاهد القتل هذه على أسلوب أفلامهم المفضلة؛ الويسترن ورعاة البقر، وأفلام العصابات، وأفلام الموسيقى الغنائية. ولكن ما لا يعرفوه وهم يصورون هذا الفيلم أن المخرج في الحقيقة يصور أيضاً انفعالاتهم وحواراتهم ويرصد أفكارهم ومشاعرهم، وأن الفيلم في الأصل يبحث في الأسباب الإنسانية والإجتماعية والسياسية التي تجعل من عملية الإبادة عملية مقبولة ومبررة، ويعطينا القدرة على استيعاب كيفية عمل عقول القتلة.


في أحد مشاهد الفيلم، يقوم هؤلاء القتلة بإعادة تصوير أحد طرق قتلهم لضحاياهم حيث يتم وضع الضحية ممدداً على الأرض – في هذه الحالة قاموا بوضع ما يبدو أنه كيس من الطحين – ويضعوا إحدى أرجل طاولة مربعة على رقبته، ثم يجلسون كلهم على الطاولة ويبدأون بالغناء إلى أن يموت. وفي مشهد آخر قاموا بإعادة تمثيل ما حدث لإحدى القرى الاندونيسية التي اغتصبوا نسائها وقتلوا رجالها وأطفالها. من فظاعة المشهد قامت إحدى البنات الصغيرات بالبكاء حين انتهى التصوير، فعاطفتها الإنسانية لم تتحمل الهلع رغم علمها بأن ذلك كله تمثيل. نهرها أباها – وهو مناصر للقتلة – وقال لها أنها تحرجه وهو يريدها أن تكون شجاعة وألا تبكي. يقول أنور كونغو: "لم كان علي قتلهم؟ كان علي فعل ذلك لأن ضميري أمرني بالقتل" ذلك المفهوم المسمى الضمير والذي نستعين به في العادة لإعلان الحواجز الأخلاقية كالعطف والرحمة التي تمنعنا من ارتكاب الأذى، هو نفسه المفهوم الذي استعان به أنور كونغو لتبرير فعل القتل الجماعي. في مشهد آخر نرى أنور كونغو المحب لأحفاده والعطوف بالحيوانات، فيجبر حفيده الذي كسر رجل بطة بالاعتذار لها وطلب المغفرة منها. ونرى طوال الفيلم أيضاً حبه للموسيقى والأفلام وتأثره بشكل خاص بمارلون براندو وآل باتشينو وأفلامهم. يحكي في مشهد آخر عن الرؤوس التي قطعها ولم يغلق أعينها، ويقول أن هذه الأعين التي لم يغلقها تطارده في منامه. إذاً نحن أمام إنسان حقيقي، لا شيطان أو وحش أو شخصية شريرة من فيلم أكشن، أنور كونغو إنسان حقيقي وعادي وطبيعي بجميع انفعالاته وعواطفه ومنطقه شئنا أم أبينا تصديق ذلك. وهذا ما يرعبنا ويزعجنا؛ القدرة المذهلة للإنسان الحقيقي على فعل الشر الخالص والتبرير له لنجد أنفسنا غير قادرين بعد ذلك على التعرف على ملامح وجهنا بقدر ما أصبحت مشوهة وأصبحنا نشك في وجودها وإنسانيتها.


لا يزال الخوف سيد الموقف إذ لا يجرؤ أحد على انتقاد ما حدث في تلك السنة حتى لا يصنف على أنه شيوعي ويحدث له ما حدث لهم. يحكي أحد طاقم الفيلم قصته في ما وراء الكواليس، كيف أنه حمل جثة زوج أمه الصيني الشيوعي بعدما قتلوه ورماه في النهر بمساعدة جده، ورغم أن ذلك حدث وهو ابن اثنتي عشرة عاماً إلا أنه يتذكر تلك الليلة بكل تفاصيلها. ثم تم نفي عائلات الشيوعيين إلى قرية مقفرة قريبة من الأدغال وهناك عاش بقية حياته. في نهاية سرده لقصته هذه، حرص على القول أنه لا ينتقد ما فعل هؤلاء القتلة الذين كانوا يستمعون إليه، هو فقط يريد إضافة قصته إلى الفيلم. ثم يخبرونه أنهم لا يستطيعون إضافة كل قصة يستمعون لها وإلا لما انتهى الفيلم، كما أن قصته معقدة جداً وستحتاج لأيام لتصويرها. ولكنهم لا يعلمون أن قصته أصبحت بالفعل جزءاً من الفيلم ورفضهم دليل عدم تقبلهم للقصة التي لا تناسب هواهم وحقيقتهم هم التي ينظرون إليها من زاوية أحادية. مع نهاية الفيلم نرى الأعداد الكبيرة من مجهولي الهوية – وهم على الأغلب من الجنسية الاندونيسية – الذين شاركوا في إنتاج الفيلم وفضلوا عدم الإفصاح عن أسمائهم.

في مقابل كل هذا الهول، يتخلل الفيلم باستمرار مشاهد طبيعية فائقة الجمال، والتي تجعل عواطف المشاهد في رحلة متقلبة بين الرعب والجمال، وكأنها تذكرنا بحنان الطبيعة في مقابل قسوة الإنسان. لم أستغرب حين عرفت في نهاية الفيلم أن المخرج الألماني القدير فيرنر هتزوج هو مدير الإنتاج، فلمسته كانت واضحة بشكل خاص في اللقطات الطبيعية وفي ثيمة الفيلم عن الشر الخالص.
"كان ذلك... جداً، جداً، جداً" لعل هذه الجملة التي قالها أنور كونغو تلخص مدى بشاعة ما حدث وهي في رأيي من أبلغ ما قيل في الفيلم كله، ألاّ يعرف كيف يصف هذا الهول سوى بكلمة "جداً" لأن كل الكلمات تبدو غير كافية للوصف. وأتسائل، مثلما أسأل القارئ: إن كنت في موضعهم، هل تثق بأنك لن تفعل ما فعلوا؟ إن أجبت بسرعة "نعم، أثق بأنه يستحيل علي القتل" أطلب منك عزيزي القارئ – بغير تحمل أي مسؤولية عن أي نوع من الأذى النفسي الذي قد ينتج إثر هذا القرار – أن تشاهد الفيلم، وربما ستفكر مرتين قبل هذه الإجابة السريعة.

_______________________
نُشر المقال في جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 16 مارس، 2014:

وجريدة الرؤية بتاريخ 17 مارس، 2014:

هناك تعليق واحد:

  1. الأشد من القتل أن يفتخر القاتل بجرائمه وأن يعزوها إلى ضميره الذي دفعه إلى ارتكابها, وحين يكون هذا السلوك جماعياً فهذا دليل على خلل خطير ليس في ضمائرهم فقط ولكن في نفوسهم وطبيعتهم..
    صار من اللازم على علماء الإنسان (الأنثروبولوجيين) البحث عن تصنيف جديد يفصل البشر عن زمرة الحيوانات.. وقد تكون هذه الوحشية البشرية هي الدليل القاطع على بطلان نظرية التطور الداروينية!
    ستجدون في المقال ما يشير إلى مظاهر إنسانية في القتلة, مثل حبهم للسينما والموسيقى والحيوانات الأليفة, فلا تصدقوا, هذه مظاهر خادعة مثلها مثل الذين يتسربلون بالدين وبغيرها من الشعارات..

    ردحذف