الاثنين، 10 مارس 2014

في رثاء الكلمات


حلمتُ قبل عدة أيام بأني أحاول تلمس رأس طفلة في الثالثة أو الرابعة من عمرها. كانت بلا رأس، وكنت مذعورة وأنا أحاول عبثاً إمساك رأسها. أظن ذلك هو الجدوى، وأخشى حقاً أنه - كرأس الطفلة - غير موجود.

ترجمتُ قصيدة أحبها لشاعرة أمريكية معاصرة اسمها آندريا جيبسن، تقول في أحد مقاطع القصيدة: "سمعت في الأمس قصة فتاة من العراق، في السادسة من عمرها، لا تستطيع النوم لأنها حين تفعل لا تحلم سوى باليوم الذي رأت فيه كلبها وهو ينهش جثة جارها. إن أخبرتها أن الحرب انتهت، أتظنها ستنام؟" أنهيتُ الترجمة وكنت سعيدة إلى حدٍ ما بها وأتطلع إلى نشرها، ولكن ظل سؤال واحد يؤرقني: ها أنتِ ترجمتِ هذه القصيدة التي تذم الحرب وآثارها على الجميع، ثم ماذا؟ هل سيقرأ هذه الترجمة مجرم حرب ويقرر فجأة التوقف؟ ثم ماذا؟ هل ستقرأ الطفلة العراقية هذه القصيدة ثم تنام مطمئنة وغير خائفة؟ وهكذا ظلت محاولة البحث عن فائدة ملموسة ويمكن قياسها من وراء الكلمات والقصائد والروايات. ولهذا السبب بالضبط لم ألتزم بكتابة المقالات بشكل أسبوعي. رغم أني تعللت بمختلف الانشغالات والارتباطات إلا أن السبب الجوهري والباطني هو هذا السؤال عن الجدوى. نحن نشهد المجازر من حولنا فلا نملك إلا استخدام القلم كأداة حرب بدلاً من إشهار السلاح، نرى الجوع والفقر في بطون الأطفال ثم نرسم هذه البطون بمبالغات وأحلام السريالية ونعلقها في منازلنا، نقرأ عن أرجل مبتورة وأعين فقئت ثم نطبع القصائد عن هذه الأرجل والأعين ونجعلها خلفية لهواتفنا أو لصفحاتنا في الفيسبوك، نحن نحول الدم إلى أحرف الكترونية على الآيباد، البندقية إلى فرشاة ألوان، ونظن بذلك كله أننا أدينا واجبنا الإنساني بإظهار التعاطف والتآزر والدعم عبر هذه القصائد واللوحات، ولكن الحقيقة -الظاهرية على الأقل- تقول أن الأوضاع لا زالت كما هي ولم تتغير. أليست المثل العليا المتمثلة في الآداب والفنون والمعرفة والحضارة كلها تبدو تافهة مقارنة بهذه المآسي العالمية؟

هناك حكاية رمزية عن رجل في غابة، صادف أسدا فبدأ يجري هربا منه. وقع وهو يجري في بئر وتشبث بحبل، وفي قاع البئر كانت أفعى تنتظره. إن هو وقع التهمته الأفعى، وإن تسلق الحبل افترسه الأسد. وفوق هذه المأساة كان هناك فأران أحدهما أبيض والثاني أسود يقضمان الحبل الذي كان يتشبث به. إذاً هو هالكٌ لا محالة، ومع ذلك لمح شيئاً لزجاً على الحبل وحين ذاقه تبين أنه عسل، فالتهى عن الفأران والأفعى والأسد وأخذ يلعق العسل. لشرح الرمزية، فالأسد هو الموت والأفعى عذاب ما بعد الموت، والفأران هما الليل والنهار يقضمان من أعمارنا، في حين أن الحبل هو الحياة والعسل ملذاته. فمن ناحية أخرى، تعتبر كل هذه المكملات الحضارية من جماليات وملهيات الحياة، وهناك دوماً الأسد الذي ينتظر والذي يفتك بالجميع من غير استثناء.

إن كان غسان كنفاني نفسه، شهيد القضية الفلسطينية والذي أرعب السلطات الاسرائيلية بقلمه حتى اغتالوه، قال: "كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه عن غياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون من أجل شيء أحترمه"، فما عسانا نقول نحن؟ تكمن المأساة الحقيقية في أننا لا نعرف غير الكلمات، وفي أننا لا نحب السلاح. إذنً كلماتنا تعويض صفيق وتافه عمّاذا تحديداً؟ لا أعلم في حقيقة الأمر بديلاً عن السلاح. وها أنا أناقض كل ما كتبته عبر نشر هذا المقال الذي أعتبره أقرب إلى البوح من كونه ذا نفع. وسأستمر في الكتابة لا لشيء سوى لأجل الوصول، إلى أين تحديداً؟ لا أعلم ولكنه مكان مقدس، فليس لنا من خلاص آخر ولا لنا سلطة إلا على الحروف.

__________________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 10 مارس 2014
http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/91608

وفي جريدة آراء الإلكترونية بتاريخ 11 مارس 2014
http://www.araa.com/opinion/22038

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق