الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

"سائق التاكسي".. حين يكون المرء هو الوحيد هنا وهناك!


بطاقة الفيلم:
سائق التاكسي (1976)
اللغة: الإنجليزية
إخراج: مارتين سكورسيزي
بطولة: روبيرت دي نيرو، جودي فوستر، سيبيل شيبرد
الجوائز والترشيحات: ترشح لأربع جوائز أوسكار في فئة أفضل فيلم، وأفضل ممثل رئيسي، وأفضل ممثلة ثانوية، وأفضل موسيقى.

بطل في مفهومه الخاص، وقاتل في مفهوم آخر: ترافيس بيكل، جندي بحرية سابق شارك في حرب فييتنام، ويعمل كسائق تاكسي في حواري مدينة نيويورك، ليقضي وقته في تأمل الليل وكل ما يحمله الليل من أسرار وحكايات وفواجع. هو وحيد ومنسي وفي حاجة ماسة [ويائسة] إلى إثبات وجوده.
يعد هذا الفيلم من ضمن سلسلة شراكات عديدة بين المخرج القدير مارتين سكورسيزي والممثل روبيرت دي نيرو، فهو ثاني عمل بينهما مما مهد لستة أعمال أخرى عظيمة مثل "رفاق طيبون" و"الثور الهائج" و"كاسينو". جميع هذه الأعمال تقع تحت تصنيف الجريمة والإثارة، وهو ما برعوا وتميزوا فيه. عامل الإثارة مهم أيضاً في فيلم "سائق التاكسي" ولكن برأيي العامل السايكولوجي هو أهم ما في الفيلم، لأنه على الرغم من أنه يتناول عدة شخصيات، إلا أنه تناول هذه الشخصيات بذاتية عالية، فجميعها تُرى من خلال عين ترافيس بيكل، فيشعر المشاهد بما يشعر به ترافيس بيكل، يحتقر ما يحتقر، ويتألم لما يتألم. وللسبب ذاته، قد يجد المشاهد نفسه يشفق على القاتل بدل المقتول، ويكره بذاءة مدينة نيويورك وليلها ونواديها، وينغمس في وحدته وتعاسته وعزلته واغترابه – تماماً كترافيس بيكل.
هذا الإنسان الذي يقول عن نفسه: "لقد تبعتني الوحدة طيلة أيام حياتي، في كل مكان، في الحانات، السيارات، الممرات، المحلات، في كل مكان. لا مجال للهرب، أنا ابن الله الوحيد" ما يفتئ يحاول أن يرتبط بمحيطه، أن يتمسك بخيط نجاة ينتشله من وحدته، ويتمثل هذا الخيط في حبيبة كـ "بتسي" الشقراء الجميلة، أو في فتاة صغيرة "آيريس" تعمل في الدعارة ويود انقاذها مما هي فيه، أو حتى من خلال مهنة سواقة سيارة الأجرة وتجواله المستمر في أنحاء المدينة. تفشل كل محاولات ترافيس بيكل للارتباط حتى يحدث نفسه في المرآه بغضب مبين حاملاً مسدسه في مشهد شهير "أتتحدث إلي؟  قل لي أتتحدث إلي؟ هل تتحدث إلي؟ أنا الوحيد هنا، فمع من تتحدث؟" وهو فعلاً الوحيد هنا، وهناك، وفي كل مكان.
للناقد السينمائي روجر إيبرت ملحوظة مهمة في معنى الفيلم، فعندما يتحدث ترافيس بيكل إلى بيتسي عبر الهاتف، وتعلمه غاضبة بأنها لا تود أن تراه بعد اليوم، تتحرك الكاميرا بشكل أفقي من مشهد بيكل على الهاتف إلى ممر طويل موحش بجانبه، وتثبت الكاميرا هناك، فيما يحاول بيكل عبثاً إقناعها بالرجوع. يصف سكورسيزي هذا المشهد بأنه المشهد الأهم على الإطلاق في الفيلم، لأنه يعامل المشاهد وكأنه لا يتحمل ولا يستطيع رؤية بيكل عندما ترفضه بيتسي، فشعور الرفض هنا أقوى من قدرة المشاهد على تحمله. أما في مشهد آخر، مغاير تماماً، مليء بالعنف والدماء ورائحة الموت، فقد تم تصويره كاملاً من غير أي قطع وبحدة مزعجة من غير أي مراعاة لمشاعر المشاهد في هذه الحالة، بل والأحد من ذلك، أن بعض مشاهد القتل تم تصويرها تصويراً بطيئاً من الأعلى لإغراق المشاهد في عنف التفاصيل. يبدو من الواضح من خلال هذين المشهدين أن المخرج يود إبراز معاناة الرفض والنبذ والوحدة على أنها أقوى بكثير من معاناة العنف والقتل، وهذا يساعدنا على فهم شخصية ترافيس بيكل أكثر بل والإبحار في عوامل وأسباب العنف المدني. ثيمة الوحدة وثيمة العنف لا يتمثلان فقط في هذين المشهدين، بل طوال الفيلم وذلك عبر موسيقى جاكسون براون البديعة. فتكرار عال لطبول متسارعة متلاحقة، تجعل المشاهد يشعر بالرهبة والجزع، في مقابل صوت آلة الساكسفون لموسيقى الجاز الهادئة التي تبعث على السكينة والعزلة والنوستالجيا.
فيلم "سائق التاكسي" ليس بمسل، بل هو غارق في السوداوية، فبين ترافيس بيكل الوحيد والمنبوذ، وترافيس بيكل العنيف والحاقد على كل شيء، يتسائل المشاهد هل تؤدي الوحدة إلى العنف؟ هل هي سبب رئيسي أو عامل مساعد ومحفز؟ هل نعتبره مجنوناً؟ أو ربما كلنا مجانين، حسبما يقول صامويل بيكيت في مسرحيته الشهيرة "في انتظار غودو": "جميعنا نولد مجانين. والبعض منا يبقى هكذا". ربما، بهكذا استنتاج، نستطيع أن نفهمهم أكثر – حاملي المسدسات الوحيدين.


وصلات خارجية:
http://www.youtube.com/watch?v=lQkpes3dgzg
المشهد الشهير الذي تحدثت عنه في المقال You Talkin' to Me
____

نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية.. بتاريخ 25 يوليو، 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق