الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

"بركة".. الصورة والموسيقى كمرآة لوجه كوكبنا


بطاقة الفيلم:
 (1992) بركة
إخراج: رون فريك
كتابة: رون فريك ومارك ماجيدسون
موسيقى: مايكل سترنز
الجوائز والترشيحات: فاز في مهرجان مونتريال السينمائي بجائزة ال FIPRESCI

إذا سافر الإنسان عبر الكواكب وزار تلك الأوطان البعيدة عن الأرض وأخذ معه فيلم واحد يُعبر عن الإنسان والعالم الذي يعيش فيه ليكون هذا الفيلم مرآة الكائن الفضائي للتعرف على الأرض، لاستطعت القول، من وجهة نظر شخصية بحتة، أن هذا الفيلم من الممكن أن يكون فيلم "بركة". كيف قررتُ ذلك؟
فيلم "بركة" فيلم وثائقي من غير حبكة أو قصة أو سيناريو أو ممثلين أو حتى من غير تعليق صوتي أو حاشية كتابية. لكم أن تتخيلوا مدى اعتماد هذا الفيلم البصري على عاملين فقط: الصورة والموسيقى. تم تصوير الفيلم باستخدام تقنية التصوير المسرع (وقد اخترع المخرج كاميرا مجهزة بنظام التصوير المسرع  خصيصاً لهذا الفيلم) في ٦ قارات و٢٤ دولة و١٥٢ موقع مختلف حول العالم. رغم أنه قد يبدو مضجراً للبعض من الوهلة الأولى إلا أن الفيلم استطاع أن يتجاوز حاجز اللغة والجغرافيا ليقدم صورة سيمفونية بديعة لهذا العالم ومفهوم روحاني للثقافات والديانات المختلفة حوله. كلمة "بركة" كلمة صوفية من أصل عربي تعني النعمة أو جوهر الحياة، وفي الإسلام هي تلك النعمة المعطاءة من الله للإنسان والتي تستوجب الشكر والحمد، وهي كلمة موجودة في أكثر من لغة مثل اليهودية والفرنسية والسواحيلية وبنفس المعنى تقريباً، وهكذا يأتي الفيلم ليقدم رسالة واحدة عبر وسائط مختلفة تتمثل في ثقافات العالم وتتمحور كلها حول ماهية الحياة بالنسبة للإنسان والبيئة.
يتكون الفيلم من ثلاثة عناصر متشابكة: العنصر الأول هو الطبيعة غير الممسوسة من قبل الإنسان ويتجلى ذلك في مشاهد الغابات والبراكين والحيوانات والثلوج والشلالات وغيرها من مشاهد الطبيعة، أما الثاني فهو عنصر التكنولوجيا وأثره على الطبيعة والبيئة ويتجلى ذلك في كافة مشاهد المدن والحياة الصناعية، والعنصر الثالث وهو الأكثر إثارة بالنسبة لي هو الطقوس والعادات الدينية والمجتمعية المختلفة لشعوب العالم من جميع القارات. يقول المخرج رون فريك أن فيلم "بركة" هو: "رحلة لمعاودة الاستكشاف عبر الغوص في الطبيعة والتاريخ  والروح الإنسانية وأخيراً عبر الممالك السرمدية". وهو بالفعل من تلك النوعية من الأفلام التي يستحيل أن تخرج منها كما دخلت إليها إذ لابد على الأقل أن تسعى إلى معرفة المزيد.
قد يتساءل المشاهد في نهاية الفيلم تساؤلاً ينم عن الدهشة وحب الاستكشاف ويقول مثلا: أين هي تلك القبيلة الآسيوية التي تصلي جماعة عبر الانحناء والجلوس والوقوف بشكل متناغم في دائرة حول تمثال ويغنون معاً أغنية يكررون فيها كلمة "كاك" ولا نفهم نحن معانيها وقد لا نستسغيها ولكنها تثيرنا؟ ومصنع البيض ذاك الذي ينتج المئات، أين هو في الخارطة؟ وماذا تفعل تلك المرأة في ذلك المشهد الصامت إذ تبدو وكأنها ترقص ثم تصرخ وهي في "الكيمونو" بكامل زينتها؟ كل هذه الأسئلة لا نجد لها جواباً بمجرد مشاهدة الفيلم، ولكن يدفعنا لاحقاً حب المعرفة لنبحث في محرك البحث "جوجل" ونقرأ عن تلك الرقصة الجماعية حول التمثال مثلاً لنعرف أنها رقصة الكيكاك في جزيرة "بالي" والتي تصور معركة "رامايانا" في الملحمة الشعرية السنسكريتية. وسيخرج المشاهد أيضاً بفكرة سامية عن الكون والتعايش الإنساني إذ تترسخ فكرة أن الأرض للجميع مهما اختلفت الأعراق والديانات، وأن رقصة الدراويش الصوفية هي ذاتها رقصة الكيكاك، وأن الباليه هي ذاتها رقصة قبيلة الماساي الإفريقية - كلهم هدفهم واحد وهو الإرتقاء بالذات الإنسانية ومحاولة التقرب إلى الذات الإلهية عبر التناغم الطبيعي.
إذاً ماذا سيقول هذا الكائن الخارج من منظومة الكرة الأرضية إن شاهد هذا الفيلم؟ أننا - أي البشر - مذهلين باختلافاتنا وتنوع أعراقنا وعاداتنا وأن الأرض بديعة بتضاريسها وغضبها وحلمها؟ قد يقرر أن عالمنا عالم رائع حسب ما شاهد من مناظر خلابة وقد يقرر آخر أن المآسي التي تواجهنا من مجاعات وحروب كثيرة ويعتبر بذلك أن أرضنا تفتقر إلى الجمال والحب. لن يفهم عالمنا تماماً كما لا نفهمه نحن، ولكنه قد يصل إلى الاستنتاج الكوني وهو أن عالمنا - كما هو كوكبه بالضبط - عالم متوازن يحوي القبيح والجميل معاً وما علينا سوى التعايش بانسجام لتحقيق غاياتنا وأهدافنا.

______

نُشر المقال في صفحة سينما في جريدة الرؤية بتاريخ 3 يوليو، 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق