الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

"84، شارع تشيرينج كروس"... رحيق لفراشات الكتب!


بطاقة الفيلم:
84، شارع تشيرينج كروس (1987)
اللغة: الإنجليزية
إخراج: ديفيد هيو جونز
بطولة: آنثوني هوبكينز وآن بانكروفت
الجوائز والترشيحات: فاز بجائزة البافتا لأفضل ممثلة، وبجائزة أفضل ممثل لمهرجان موسكو السينمائي

إلى جميع عشاق الأدب، وملتهمي الكتب... قد تستغربون إذ أن هذا النداء لا يليه في العادة إلا دعوة إلى معرض كتاب أو إعلان افتتاح مكتبة، وأنتم تعلمون أن هذه مقالة سينمائية، ولكن فيلم هذا الأسبوع "84، شارع تشيرينج كروس" هو بالضبط لهذه الفئة من الناس، وسوف نكتشف في السطور التالية السبب وراء ذلك.
"لقد قال لي صحفي منذ زمن أن السياح يذهبون إلى انجلترا بأفكار مسبقة، لذا هم دائماً يجدون ما يريدونه هناك، فرددت عليه قائلة: "إن ذهبت أنا إلى انجلترا، فسأبحث عن انجلترا الأدب الإنجليزي" فقال لي إذا ستجدينه بالضبط كما تريدين" – هيلين هانف
فيلم "84، شارع تشيرينج كروس" هو من إخراج ديفيد هيو جونز ومقتبس عن مسرحية مقتبسة عن رواية لهيلين هانف. الرواية المقتبسة عن قصة حقيقية مكتوبة بشكل سلسلة من الرسائل بين الكاتبة الأمريكية وصاحب مكتبة بريطاني اسمه فرانك دويل. تبحث الكاتبة عن مجموعة نادرة من الكتب الأدبية التي يصعب الحصول عليها بسعر منخفض في الولايات المتحدة، ثم تنتبه إلى إعلان في جريدة عن مكتبة في بريطانيا تبيع كتب نادرة وأثرية مستعملة، فتراسل المكتبة مرفقة مع رسالتها قائمة بـ"أكثر مشاكلها إلحاحاً" وهي تقصد بذلك أكثر الكتب التي تريدها بشدة، ولحسن الحظ تجد غايتها في هذه المكتبة ثم تبدأ سلسلة مراسلات بينها وبين صاحب المكتبة تتمخض على إثرها صداقة تدوم لـ 20 عاماً... صداقة بريدية على الورق والقلم، وبمعية الكتاب الأدبي دائماً.
يعتمد الفيلم على فكرة الحد الأدنى للمكان وللشخوص، فهو بالكاد ينتقل بين المكتبة في بريطانيا وشقة هيلين في نيويورك، كما أنه لا يتعدى حدود الشخصيتين الرئيسيتين بالإضافة إلى بعض أصدقائهما حولهما. وهو أيضاً يعتمد بشكل كبير على السرد لا الحوار، لأنه يدور بين قارتين وسيلة التواصل الوحيدة بينهما هي المراسلة! فنرى هيلين في نيويورك تكتب لفرانك وتقرأ رسالتها بصوت عالِ، ثم يرد عليها فرانك بنفس الطريقة – موجهاً نظره نحو عدسة الكاميرا وكأنها هيلين ويخاطبها عبر رسالته (وهنا يتجلى ذكاء الإخراج إذ لم يتقيد بأسلوب واحد لإيصال فكرة الرسائل). لا يوجد صراع حقيقي في الفيلم، وحتى مواضع المأساة، مثلاً، لم تصوّر بتلك الدرجة من الحدة بل صوّرت على أنها تكملة اعتيادية لمجريات القصة. ورغم أن علاقة الشخصيتين ببعض قد تُفهم على أنها علاقة رومانسية، إلا أننا بإمكاننا اعتبارها علاقة حب عذري لبعد المسافات بينهما ولعدم الإشادة بذلك صراحة في الفيلم – أراه كحب ناتج عن الاهتمامات المشتركة أكثر من أن يكون عشقاً وولهاً. كما أننا نرى تفاوت الشخصيتين واختلافهما فهذا صاحب مكتبة تكاد تكون حياته كلها رسمية وجادة، وهذه كاتبة عفوية في رسائلها وتحب المرح والدعابة، ويمثل تباينهما الاختلاف النمطي بين الشعبين البريطاني والأمريكي، وهذا واضح وجلي في الرواية كما هو في الفيلم. ولكنهما يلتقيان في نقطة واحدة وهي عشقهما اللامتناهي للأدب وكلاسيكيات الأدب الإنجليزي – روائياً وشعرياً. كل تفاصيل الفيلم هذه، قد يجعل المشاهد يتسائل، ألن يكون فيلماً مملاً؟! إن كنتَ من هواة أفلام الإثارة ولا تطيق صبراً على المشاهد الحوارية فلا أنصحكَ بمشاهدة هذا الفيلم، وإن كنتِ من هواة أفلام الرومانس والدراما التي تنتهي دوماً بـ "وعاشا سعيدين معاً" فلا أنصحكِ أيضاً بمشاهدة هذا الفيلم. فهو مختلف.
عندما شاهدتُ الفيلم أول مرة، كان ذلك في الجامعة قبل ما يزيد عن السنة، فبعد قراءتنا للرواية المكتوبة على هيئة رسائل، أراد لنا البروفيسور عبدالسلام البهبهاني أن نشاهد الفيلم. وهنا أغتنم الفرصة لأوصل شكري وعظيم امتناني له لتعريفي على مثل هذا العمل الرائع، ولكل ما قدمه لي من علم طوال سنين الجامعة. أول ردة فعل لي كانت "آنثوني هوبكينز... هانيبال لكتر؟! ذلك السيكوباتي السادي المضطرب عقلياً يمثل دور صاحب مكتبة بريطاني بشخصية جادة؟!" لم أستطع تخيل ذلك ولكن تبين لي أنه أتقن دوره وبجدارة وما زلتُ إلى اليوم أرجع إلى أحد مقاطع الفيلم في اليوتيوب حين يقرأ فرانك قصيدة ويليام بتلر ييتس: "هو يتمنى أثواب الجنة" – وذلك لإتقانه قراءة القصيدة ولكون القصيدة محببة إلى نفسي. الفيلم مليئ لمحبي الأدب بنقاشات حول مواضيع أدبية عديدة لعظماء الأدب الإنجليزي من أمثال ويليام بتلر ييتس وجون دون وجيفري تشوسر وهوريس وغيرهم. هو حتماً فيلم لمدمني الكتب والأدب... أو – مصطلح أحب استعماله – لفراشات الكتب!



وصلات خارجية:
http://www.youtube.com/watch?v=lNeq7Dakv_k
قراءة فرانك دويل لقصيدة ويليام بتلر ييتس "هو يتمنى أثواب الجنة"..
_________

نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية بتاريخ 2 سبتمبر، 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق