الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

"راشومون".. المفهوم النسبي للحقيقة


بطاقة الفيلم:
راشومون (1950)
اللغة: اليابانية
إخراج: أكيرا كوروساوا
بطولة: توشيرو ميفيون، ماتشيكو كيو، تاكاشي شيمورا
الجوائز والترشيحات: فاز بجائزة الأوسكار الفخرية عن فئة الأفلام الأجنبية، وترشح لجائزة البافتا، كما فاز بجوائز أخرى في مهرجان الشريط الأزرق، ومهرجان البندقية السينمائية وغيرهم.

"ما الحقيقة؟!"
هو السؤال الأزلي للفلاسفة والمفكرين والباحثين، هو سؤال محمود درويش حين كان يمشي في جنازة الشخص الغريب، هو السؤال الذي يدعونا الله إلى البحث عن إجابته حتى نصل إلى اليقين (وهل من يقين ما عدا الموت؟!). هو أيضاً، بالإضافة إلى كل ذلك، السؤال الذي لا يخرج من دائرة تفكيرنا حين نشاهد فيلم "راشومون" وحتى بعد مشاهدته لأيام ربما، يطاردنا ويباغتنا حتى نقتنع أن الحقيقة مفهوم نسبي وغير مطلق، فحقيقتي مختلفة عن حقيقتك كما هي مختلفة عن حقيقتهم.
فيلم "راشومون" من إخراج المخرج الياباني القدير "أكيرا كوروساوا" الذي عُرف بتكنيكاته المختلفة ومجازفاته الإخراجية وأفلامه التي تحمل دوماً طابعها الخاص. "راشومون" من كلاسيكيات السينما فهو من إنتاج سنة 1950 ويُعتبر الحجر الأساس لكثير من تكنيكات الإخراج التي يستعملها المخرجون إلى اليوم. ومثل معظم المخرجين الكبار الذي ترتبط أسماءهم دوماً باسم ممثل معين في أفلامهم، ارتبط اسم كوروساوا بالممثل الياباني توشيرو ميفيون، الذي مثّل دور المتهم قاطع الطريق في فيلم "راشومون" – خامس عمل بينهما.
القصة بكل بساطة هي: أربعة أشخاص مختلفين، يسردون روايات مختلفة لحدث واحد حصل في الغابة، وهو جريمة قتل (أو انتحار) محارب ساموراي واغتصاب زوجته (قسراً أو طوعاً). تدور أحداث الفيلم في ثلاثة أماكن رئيسية، المكان الأول الذي هو المكان الحاضر، هو تحت سقف بوابة راشومون في يوم ماطر، المكان الثاني الذي هو في الماضي هو الغابة التي تحصل فيها الجريمة، والمكان الثالث الذي هو أيضاً حدث ماض هو ساحة المحكمة التي تُسرد فيها أحداث الجريمة من قبل الشهود والمتهم والمجنى عليهم. يبدأ الفيلم بمشهد رجلين تحت سقف بوابة راشومون يحتمون من المطر الشديد، يستفتح أحدهم الحوار وهو قاطع أخشاب ويقول للثاني وهو كاهن: "لا أفهم حقاً ما جرى، لا أفهم"، ثم يلحقهم بعد لحظات رجل من عامة الشعب أتى ليحتمي هو أيضاً من المطر، فيبدأ قاطع الأخشاب بسرد ما جرى عن طريق الفلاش باك قبل يومين في ساحة المحكمة. يبدأ المتهم الأول في قضية القتل وهو قاطع طريق بسرد ما حدث أمام القاضي، ثم تسرد الزوجة روايتها المختلفة جداً عن رواية المتهم، ثم يستدعي القاضي الزوج المقتول روحانياً ليسرد هو بدوره مجريات الجريمة التي تختلف أيضاً بشكل جذري عن الروايتين الأوليتين. أيهم الصادق؟ أو فلنقل، أيهم الأقرب إلى الحقيقة؟ قد يبدو هذا السؤال سهل الإجابة إن وجه كل واحد منهم إصبع الإتهام إلى الثاني، ولكن ما جعل القصة أكثر تعقيداً هو أنهم كلهم يعزون السبب وراء موت محارب الساموراي إلى أنفسهم – إذاً وبمعنى آخر، لا يوجد سبب اعتيادي يدفعهم إلى الكذب بغرض الدفاع عن أنفسهم. هنا مكمن الدهشة في الفيلم، فهو يناقش مسألة الوعي والإدراك من وجهة نظر ذاتية بحتة، فكأنه يرسل رسالة إلى المشاهد مفادها "لا توجد حقيقة مطلقة، الحقيقة تعتمد على مدى إدراكك بها فقط، وحقيقتك ليست حقيقة غيرك" يُقال أن حتى ممثلي الفيلم ظلوا يسألون كوروساوا عن "حقيقة" ما حدث، ولكنه ظل يقول أن هذا ليس فحوى الفيلم، بل هو رحلة استكشاف لحقائق متعددة، بدلاً من أن يكون عرضاً لحقيقة أحادية.
العامل الآخر الذي يبعث على الدهشة والإعجاب في الفيلم هو اختلاف شخصياته باختلاف الروايات، فهو يعرض كل شخصية حسب ما ترى نفسها، ثم حسب ما يراه الآخرون – وفي هذه الحالة، لكون وجود ثلاث روايات مختلفة، حسب ما يراه ثلاثة أناس آخرون. فمثلاً، إن تناولنا شخصية الزوجة، فهي حسب روايتها ضعيفة لا حول لها ولا قوة وشديدة التأثر وسريعة البكاء، وحسب رواية المتهم قاطع الطريق فهي قوية وشديدة وتستطيع الدفاع عن نفسها، وحسب رواية زوجها المقتول هي خائنة ومستبدة وآثمة، وحسب رواية قاطع الأخشاب الذي شهد الجريمة هي تجمع بين صفة القوة والضعف (وهذه النظرة قد تكون أكثرهم موضوعية ولكنها غير مستثناة من كونها حقيقة نسبية). هذا كله يجعلنا نتسائل في مدى موضوعية ونزاهة آراؤنا في أنفسنا، هل نرى أنفسنا بنظرة الإيجو التي ترفض سلبياتنا؟ هل نستطيع التحدث عن أنفسنا بغير تجميلها؟ ربما الحال مثلما يقول ذلك الرجل المستمع للروايات المختلفة في الفيلم: "يصعب على الإنسان أن يقول الحقيقة، حتى لنفسه".
فيلم "راشومون" فيلم استثنائي عالمي لأنه يصلح لجميع الأعمار والفئات ورغم كلاسيكيته إلا أنه لا يزال يبهر الأجيال الجديدة في ذكاءه وبراعة السيناريو والإخراج. الملاحظ السينمائي الدقيق سينتبه على تكنيكات الإضاءة وتحريك الكاميرا والموسيقى وكافة العوامل الأخرى في علم التصوير السينمائي، أما المشاهد الاعتيادي فستبهره قصة الفيلم وتمثيل الممثلين وذكاء السيناريو. في كل الأحوال، هو حتماً فيلم يستحق المشاهدة من جميع الجوانب، ليرجعنا بين كل حين وآخر إلى مفهوم الحقيقة ويجعلنا نتفكر ونتأمل به.

_______________

نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية بتاريخ 11 سبتمبر، 2012

هناك تعليقان (2):

  1. هذا الفيلم من أروع الأفلام التي شاهدتها في حياتي ، وزاده روعة مقالك عنه ،، أهنؤك على قلمك الفذ وذائقتك الرائعة .

    ردحذف
  2. هذا الفيلم من أروع الأفلام التي شاهدتها في حياتي ، وزاده روعة مقالك عنه ،، أهنؤك على قلمك الفذ وذائقتك الرائعة .

    ردحذف