الخميس، 29 يناير 2015

مقتطف من فيلم "أنا كوبا" وهواجس أخرى

لستُ متأكدة إن كان صمتي عن المآسي العربية خير أو شر.
أعيش معضلة حقيقية بشأن جدوى الكلمات، علاقة حب وكراهية في آن. ففي أقصى الطرف المحب، يهيأ لي أن الكلمات هي الجوهر والحل والحقيقة، وعلى الطرف الآخر أتخيل أنها مجرد أحرف مبعثرة لا توقف قنبلة أو تنقذ حياة. كلما هممت بكتابة شيء ما، أو وصف هول المجازر، أو شرح حالتي الشعورية الغاضبة والحزينة، أتوقف في المنتصف ليباغتني السؤال ساخراً مني ومن قلمي، وكلما ابتعدت عن القلم أتاني راكضاً ولاهثاً في ذهني يغذيه بتخيلات حالمة عن جدواه وقدرته.
قرأت اليوم تعليقاً لإحداهن، تقول فيما معناه أن دموع الأطفال قد أثقلت الأرض، وجعلتها تحوقل وتتحسب على كل متخاذل وجبان، وأتسائل، هل تكفي فعلاً إعلانات التضامن ونشر صور القتلى؟ ألا نعتبر نحن أيضاً متخاذلون؟

أتذكر اقتباساً أنقله من أحد أجمل الأفلام التي شاهدتها، "أنا كوبا" للمخرج السوفييتي ميكايل كالوتوزوف.



تقول الراوية، والتي تمثل صوت الوطن:

محدثة أحد المستعمرين:
"أنا كوبا
لماذا تفر هارباً؟ ألم تأتِ هنا لأجل المتعة؟
هيا تفضل، واستمتع!
أليست هذه صورة جميلة؟
لا تشح ببصرك عني. انظر!
أنا كوبا
بالنسبة لك، أنا الكازينو والبار والفندق وبيت الدعارة.
لكن أيادي هؤلاء الأطفال المتسولون والشيوخ هي أنا أيضاً."

محدثة فلاح اختار كرامته وموته على عبوديته:
"أنا كوبا
أحياناً تبدو جذوع نخيلي ممتلئة بالدم
أحياناً تبدو الهمهمات من حولي كغصات الدموع المختنقة وتنهدات البكاء
وليست صوت المحيط
من يجيب نداء الدم؟
من المسؤول عن هذه الدموع؟"

محدثة مجموعة من الطلبة الثوار:
"أنا كوبا
هنالك طريقين للبشر عندما يولدون
طريق العبودية والذي سيتداعى وينتهي
وطريق النجوم الذي يضيء ولكنه يحرق.
وأنت ستختار طريق النجوم
سيكون طريقك صعباً، وعلامته الفارقة الدم
ولكن في سبيل العدالة، عندما يذهب رجل واحد، الآلاف سينهضون
وعندما لا يكون هناك بشر آخرون
ساعتها سينهض الحجر."

محدثة فلاح بسيط اختار أخيراً أن يحمل السلاح:
"أنا كوبا
ربما اعتادت يداك على أدوات الفلاحة
ولكنك الآن تحمل بندقية
أنت لا تطلق النار لتقتل
أنت تطلق النار على الماضي
أنت تطلق النار لتحمي المستقبل"

إذاً تتغير الأسماء والأوطان والحكاية واحدة، لم نحن مصرون على تكرار أخطاء التاريخ؟

____

نُشر في الفيسبوك بتاريخ 14 يوليو 2014

السبت، 24 يناير 2015

فيسبوك - "سنسيت بوليفار"



شاهدتُ قبل عدة أسابيع الفيلم الأمريكي "سنسيت بوليفار" للمخرج بيلي وايلدر، وأعتبره من أجمل الأفلام الهوليوودية الكلاسيكية التي شاهدتها.

ينتمي الفيلم إلى جانرا فيلم نوار والذي ازدهر في هوليوود في فترة الأربعينيات والخمسينيات ويتميز بالحبكة الجرائمية عادة ووجود نموذجي الرجل المحقق والمرأة الجذابة والمدمرة (فيم فاتال)، كما لها خواص محددة في الإضاءة والإنتاج والبنية القصصية.

يبدأ الفيلم بصورة تحتية لرجل ميت في حوض سباحة، مصورة من قاع الحوض، ويحكي لنا الراوي/الميت جو غيليس عن الأحداث التي أدت إلى وفاته بهذه الطريقة!
(بالإمكان مشاهدة افتتاحية الفيلم هنا: https://www.youtube.com/watch?v=HduXGYkoc_w )
وبذلك يعود الفيلم إلى الوراء باستعمال تقنية الفلاش باك ونرى جو غيليس قبل ستة أشهر وهو يعمل ككاتب سيناريو مغمور في هوليوود، ومدان ومطارد من قبل دائنيه الذين هددوه بأخذ سيارته. في إحدى سلسلة المطاردات، يدخل غيليس في محاولة للهرب إلى باحة قصر بدا له لأول وهلة أنه غير مأهول، ولكن يستقبله الخادم ماكس والذي ظن أنه شخص آخر كان يتوقعه ويقوم بتقديمه لسيدة المنزل، نورما ديسموند. يتبين لغيليس أن نورما هي إحدى نجمات هوليوود خلال فترة الأفلام الصامتة. حالما تعلم أنه كاتب سيناريو، تقوم نورما بإجباره على قراءة نص كتبته في محاولة منها للعودة للشاشة الذهبية بعد غياب طويل. يرى غيليس أن هذه قد تكون فرصته لكسب المال وحل مشكلة ديونه فيوافق على مراجعة النص، ولكنه يقع تدريجياً في شباك معقدة من حياة النجمة التي خفت نورها وبهت ولكنها لا تزال تؤمن بحتمية عودتها للشاشة والشهرة وكثرة معجبيها.

يقدم لنا الفيلم صورة ساخرة وتهكمية عن الحياة الهوليوودية وأثرها على الممثلين والمخرجين والعاملين بها، إذ أن نورما ديسموند مفتونة بصورتها في السابق، ولا تشاهد إلا أفلامها هي، وقصرها مليء بصورها، وحين تلوح لها فرصة العودة للشاشة - أو تتوهم هي بذلك - تقوم بمجموعة من عمليات التجميل في محاولة يائسة للعودة إلى ما كانت عليه.
لا يصور لنا الفيلم نوستالجيا الفنانة إلى الزمن القديم والصامت فحسب، بل هو أيضاً يقدم لنا ثلة من المبتكرين والمبدعين خلال فترة الأفلام الصامتة - مشكلاً بذلك معاني مزدوجة من ناحية التمثيل والحقيقة. فعلى سبيل المثال، الممثلة التي أدت دور نورما ديسموند، غلوريا سوانسون، كانت حقاً نجمة خلال فترة الأفلام الصامتة، وشكّل هذا الفيلم عودتها للشاشة بعد غياب طويل، كما أنها تسعى في الفيلم إلى أن تعمل مجدداً مع المخرج الذي عملت معه في السابق سيسل ديميل (والذي أدى دوره سيسل ديميل بنفسه)، وهذا أيضاَ كان مخرجاً مهماً في فترة الأفلام الصامتة وأخرج العديد من الأفلام بتمثيل غلوريا سوانسون. كما أن الذي أدى دور الخادم ماكس، إريك فون شتروهايم، كان مخرجاً مهماً في فترة الأفلام الصامتة. في إحدى الجلسات التي تقيمها نورما ديسموند في قصرها مع زملائها وأصدقائها، نرى ظهور قصير للممثل والمخرج الشهير بستر كيتون إلى جانب عدد من الممثلين المشاهير أيضاً خلال فترة الأفلام الصامتة. كل ذلك أضاف إلى أصالة وإبداع الفيلم وجعل من تجربة مشاهدته متعة فائقة، بالإضافة طبعاً إلى الكوميديا الساخرة والتي تفوقت على العديد من الأفلام التي شاهدتها. دراما وكوميديا رائعة وأنصح بها للجميع.

تقييمي للفيلم: 9/10

الأحد، 7 ديسمبر 2014

الاثنين، 1 ديسمبر 2014

فيسبوك - "البيت أسود The House Is Black"


شاهدت قبل عدة أسابيع الفيلم الوثائقي القصير "البيت أسود" من إخراج الشاعرة الإيرانية القديرة فروخ فروخزاد.

قبل أن أبدأ بالحديث عن الفيلم أود التنويه على أنه فيلم صعب، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لذا هو ليس للجميع. (ألست أقول هذا عن كل الأفلام التي أشاهدها؟ عموماً...)

لم هو صعب؟ لأنه يتحدث عن القبح، يستفتح الفيلم بهذه الكلمات: "هذا العالم لا ينقصه القبح. لو أغمضنا أعيننا عنه، لرأينا منه المزيد." ثم يتبين لنا أنه يتحدث عن مستعمرة لمرض الجذام في إيران، ولا يخفى عليكم بكل تأكيد مدى قسوة هذا المرض على من يصيبه إذ أنه يسبب تقرحات وتشوهات جلدية شديدة، تصل في بعض الحالات إلى الإعاقة والعمى. كما أن تاريخ هذا المرض، وخصوصاً في القارة الأوروبية خلال العصور الوسطى، مرتبط بالسجون والعار.

ولكن يوضح لنا الفيلم من البداية أن هدفه هو محو هذه الصورة النمطية والتخفيف عن المصابين بالجذام. يصوّر لنا الفيلم نمط الحياة التي يعيشها هؤلاء المرضى من دراسة ولعب للأطفال إلى رتابة الحياة اليومية من طعام ونوم وغناء إلى مناسبات خاصة كالزواج وأخيراً محاولات وطرق العلاج، معتمداً في سرده على أكثر من طريقة، قصائد تلقيها الشاعرة فروغ فروخزاد وتلاوة من القرآن والعهد القديم (وجمال القصائد والآيات يشكل تناقض صارخ مع صور الفيلم الصعبة والمربكة) وسرد تثقيفي عن المرض.

أجده تحدياً بالنسبة لي أن أصف لكم ما الذي أعجبني تحديداً في الفيلم، وربما أعرفه تماماً ولكن لا أريد ذكره لدواعي عاطفية، ولكنه بصدق مسّني وأثر بي كثيراً وقدم لي صورة جديدة تماماً علي.

تقييمي له 10/10.

وصلة الفيلم على موقع IMDb:
http://www.imdb.com/title/tt0336693/

وصلة الفيلم على YouTube:
https://www.youtube.com/watch?v=5WL4w5ceO7w

وصلة الفيلم على Vimeo:
http://vimeo.com/11482249

_____________

I watched several weeks ago the short documentary film "The House is Black" directed by the great Iranian poet Forough Farrokhzad.

Before I talk about the film I'd like to say a disclaimer: this film is hard to watch, and is not for everybody. Why? Because it talks about ugliness, from the opening scene a man narrates: "there is no shortage of ugliness in this world. If man closed his eyes to it, there would be even more." Then it appears that the film is about a leper colony in Iran. Needless to say how leprosy causes skin disfiguration that may lead in some cases to blindness and physical disability. The history of this disease especially in Medieval Europe was associated with confinement and social stigma.

But the film declares from the beginning that its motive is to wipe out this ugliness - and thus this stigma - and to relieve the victims. The film is very minimal in the sense that it only shows the regular daily lives of the people living in this leper colony; from school and playing for children, to daily habits like eating and singing, to special occasions like marriage traditions, and it also shows the process of treatment. The film's voice-overs divides between Farrokhzad's own poetry, and some verses from the Quran and the Old Testament (which provides a stark contrast between the meaning of these verses and the disturbing images that appear on the screen) as well as some educational excerpts.

I find it difficult for me to say what I liked exactly about this film; perhaps I know it deep inside but I wouldn't want to reveal it. I would only say that it has deeply affected me, and watching it was an unforgettable experience.


الأحد، 9 نوفمبر 2014

حول ابتلاع العالم والقنابل الرمّانية - رواية "أطفال منتصف الليل"


لعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا حين نسمع اسم (سلمان رشدي) هو روايته التي سببت جدلاً كبيرًا في العالم العربي والإسلامي «آيات شيطانية» والتي أفتى بسببها آية الله الخميني بجواز قتل سلمان رشدي بسبب ما كتب في الرواية، ولا يزال الجدل قائمًا إلى يومنا هذا رغم مضي ستة وعشرين عامًا منذ صدورها. ولكن الرواية التي حازت على شهرة عالمية وجوائز كثيرة هي روايته «أطفال منتصف الليل» الني نشرت عام 1981م. حصدت الرواية جائزة البوكر لذلك العام، ثم حصدت جائزة أفضل البوكر، أي أفضل كتاب بين جميع الكتب الفائزة بجائزة البوكر منذ بدايتها، في الذكرى الخامسة والعشرين، ثم مرة أخرى في الذكرى الأربعين.

حين بدأت بقراءة الرواية، كنتُ متشككة إلى حد ما في إبداعها ومنزعجة قليلاً من طولها، حيث إني قرأتها لغرض جامعي – وربما سنتفق أننا نستثقل أي قراءة واجبة علينا – ولكن مع تقدم الصفحات والفصول وجدتني منجذبة إليها وأنتهز الفرص لقراءتها حتى أتممتها فتمنيت لو أنها كانت أطول! الرواية مدهشة على جميع الأصعدة في نظري، كقصة وسرد وشخصيات ولغة وعوامل المكان والزمان وصوت الراوي، حتى تفاصيلها الكثيرة والتاريخية التي تمنيت لو أنها أقل، تفهمت ضرورتها مع إنهائي للرواية. في نفس الليلة التي أنهيت فيها الرواية قررت مباشرة أن أشاهد الفيلم المقتبس عنها، إخراج ديبا مهتا وبإشراف وسيناريو سلمان رشدي نفسه. كان الفيلم متعة بصرية مدهشة إذ احتوى على عدد من المشاهد الجميلة مثل مشهد استقلال الهند ومشهد الزفاف، ولكنه مخيب للآمال قليلاً لأنه لم ينقل سحر الرواية وكانت أحداثه سريعة وغير متماسكة كما أن تطور الشخصيات لم يكن واضحًا مثلما وجدتُ في الرواية. كل هذا مفهوم من ناحية لأن الرواية فيها كثير من التفاصيل والأحداث المتشابكة وكأنها لوحة واحدة كبيرة، وهذا صعب نقله إلى فيلم مدته ساعتان ونصف تقريبًا – لا بد أن يضيع شيئًا ما في عملية النقل هذه. أود التركيز في هذا المقال على موضوعين مهمين تناولهم رشدي في «أطفال منتصف الليل»، وهما تصوير الدين، وذاتية الحقيقة.


لا بد أولاً من إعطاء مقدمة بسيطة عن «أطفال منتصف الليل» من غير سرد الكثير من التفاصيل التي قد تفسد إثارة القصة على القارئ الذي يود قراءة الرواية. تتحدث الرواية عن قصة سليم سيناي، الذي ولد في الخامس عشر من أغسطس عام 1947م، أثناء تشابك أيدي الساعة في المنتصف تمامًا، مرحبةً بقدومه مثلما يؤمن هو، أي الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل، اللحظة إياها لاستقلال الهند من الاستعمار البريطاني. كانت ولادته وولادة الهند الجديدة – توأمته – متزامنة، وهكذا هي أحداث الرواية: قصة حياته بالتوازي وأحيانًا التطابق مع قصة الهند التاريخية والسياسية. يمتلك سليم موهبة التوارد بالخواطر لأنه ولد في هذا اليوم التاريخي المميز، وكذلك أطفال منتصف الليل، الذين ولدوا ما بين الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الواحدة صباحًا وهم 581 طفلا، كل منهم يمتلك قوى خارقة فريدة وكلما كان موعد ولادتهم أقرب إلى منتصف الليل، كانت قواهم أشد وأعظم. شيفا، الذي ولد في نفس لحظة ولادة سليم، يمتلك موهبة الحرب والقوة، في حين أن بارفاتي التي ولدت بعد ثوان معدودة من منتصف الليل تمتلك موهبة السحر. بينما يكتب سليم سيناي قصته، يقرأها على بادما، صديقته التي تعتني به، وهي تمثل صوت القارئ المتشكك والساخر والعاقل، وهي تحاول غالبًا أن تجعله يسرع في سرد الأحداث ولا ينغمس كثيرًا في التفاصيل. في إحدى شكاويها المضحكة – والتي قالتها في الفصول الأولى حيث يسرد سليم قصة عائلته قبل ولادته – تلح عليه: «من الأفضل لك أن تسرع قليلاً، وإلا لمتّ قبل أن تكتب عن ولادتك!» ولكنه يؤكد لاحقًا ويكرر دائمًا أنه «مبتلع حيوات» ولكي نفهمه جيدًا يجب أن نبتلع العالم بأكمله.

الدين في رواية سلمان رشدي محرك أساسي في تسلسل الأحداث، فمنذ الصفحات الأولى نرى كيف أثر قرار آدم عزيز -جد سليم سيناي- على حياته وحياة أولاده وأحفاده من بعده. في إحدى الصباحات الكشميرية الباردة، أصاب آدم عزيز أنفه أثناء السجود في الصلاة، ونزف دمًا تجمد فورًا إلى كرات من الياقوت، ثم بكى وتجمدت دموعه وأصبحت كرات من الألماس. بعد هذه الحادثة قرر الجد ألا يسجد مرة أخرى لرب أو لإنسان، مما كوّن فجوة بحجم قبضة اليد في بطنه جعلته هشًا ومتشككًا طوال حياته. هذه الفجوة انتقلت إلى ابنته ممتاز –أو اسمها بعد الزواج أمينة سيناي– التي ستحمل معها شعورًا بالذنب، ورآها سليم بسبب قدرته على التوارد بالخواطر. هذه الفجوة لاحقت سليم سيناي حتى بعد وفاة جده لأنه الوحيد الذي استطاع أن يراها، وهي موازية في رمزيتها لاعتقاد سليم وإيمانه التام بأنه سوف يموت في عيد ميلاده الحادي والثلاثين في الذكرى الحادية والثلاثين لاستقلال الهند. من الفصول الأولى يعلل سليم رغبته بالكتابة عن حياته بإحساسه بأنه سوف يموت ويطلب من القارئ أن يقبل بأنه في النهاية القريبة سوف يتداعى إلى جسيمات ترابية منسية ولا صوت لها.

من أكثر المشاهد المروعة التي صوّرتها الرواية هو مشهد مقتل شهيد، صديق سليم وجندي باكستاني شاب. حلم شهيد بالشهادة، تحقيقًا لأمنية والده الذي أراد له أن يستحق اسمه. كان يحلم برمانة تحلق خلفه وهي تمثل موته ونيله للشهادة، إلا أنه شهد رمانة من نوع آخر –إذ سقطت قنبلة عليه أثناء الحرب الباكستانية الهندية وفقد رجليه إثر ذلك. حمله سليم إلى مئذنة قريبة، ليواجه حربًا أخرى لأن مجموعة من النمل انتقلت من التهام صرصار إلى افتراس دم شهيد وسط صراخه. همّ سليم إلى مساعدته وضرب مرفقه مفتاح كهربائي شغل مكبر الصوت الخاص بالمئذنة، وبعد ذلك «لن ينسى الناس كيف ارتفعت الصرخات المنددة بعذابات الحرب الفظيعة من المسجد». من خلال هذه الصورة المروعة، عبر سلمان رشدي عن استنكاره للحرب والموت اللامنطقي والعبثي، حيث أن هذه الصرخة كانت حقيقية وليست جوفاء ولامرئية مثل فجوة آدم عزيز، وهي تمثل الرفض القاطع لآلاف الفظائع التي شهدتها الهند وباكستان في تلك الفترة. شهيد الذي حلم بالشهادة كان موته عنيفًا ومأساويًا وكانت شهادته بلا معنى وكأن رشدي يريد عبر إيصال هذه الصرخة عبر المئذنة أن يرينا أن الموت واحد، سواء كان لمسلم أو هندوسي، وأن الكل خاسر في الحرب.

الثيمة الأخرى المتكررة في الرواية هي ذاتية وعدم موثوقية الحقيقة والذاكرة. في فصل «السلم والثعبان» يتحدث سليم عن حبه لهذه اللعبة وهو طفل صغير، وكيف أثرت في تفكيره ونظرته نحو الأمور. لعلنا جميعًا نعرف قواعد اللعبة: السلم يصعد بك إلى الأعلى وهو جيد ويجعلك تفوز، والثعبان يهبط بك إلى الأسفل وهو سيء ويجعلك تخسر. وقد أدرك سليم منذ الصغر أننا كلما صعدنا سلمًا وجدنا ثعبانًا ينتظرنا ليوقعنا. ولكن ما لا توضحه اللعبة هو عدم حتمية ومطلقية هذه العلاقة، إذ قد تكون السلالم ثعابين، وقد تكون الثعابين سلالم في الحياة. يقص علينا سليم كيف وهو صغير أصيب بحمى التيفوئيد وكيف عالجه جارهم الذي يسكن في غرفة في علية منزلهم وهو مختص بدراسة الثعابين عبر إعطائه سما مخففا لثعبان الكوبرا. أدرك سليم من خلال هذه الحادثة «غموض الثعابين»، أي عدم حتمية الشر وتلازمه مع الخير حد التماهي في بعض الأحيان. هذا الصراع ما بين قوتين خارجيتين الذي ما يلبث أن يتحول إلى صراع داخلي بين قوى متشابكة متكرر طوال الرواية ونراه في أوضح صوره عبر العلاقة بين سليم وشيفا، سليم الذي يؤمن بالأفكار والمبادئ وشيفا الذي يؤمن بالمال والقوة.

أخطأ سليم في تواريخ بعض الوقائع التاريخية مرتين، في حدث انتخابي وفي اغتيال غاندي، ولكنه لا يعتذر عن هذه الأخطاء بل يؤكد أنه يسرد قصته منطلقًا من ذاتية حياته وذاكرته. يقول: «الذاكرة لها نوعها الخاص، فهي تختار، وتمسح، وتبدل، وتبالغ، وتقلل، وتمجد، وتذم، ولكنها في النهاية تكون حقيقتها الخاصة، نسختها اللامتجانسة ولكن المتماسكة من الأحداث». في آخر فصل من الكتاب يضع سليم عدة أسئلة تجعل القارئ يتساءل عن صحة الأحداث، بل ويشك في حدوثها، مثل «لم احتاج سليم لحادثة لكي يكسب قواه الخارقة؟»، وأسئلة أخرى لن أضعها لكي لا أفسد على القارئ المفاجئات التي تخبأها الرواية. ولكنه ينهي هذه الفقرة بتأكيده على أن الأمور حدثت هكذا لأنها حدثت هكذا، ولا تفسير آخر غير ذاك. هنا مرة أخرى نرى عدم موثوقية السرد ونتذكر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، رائد النظرية التفكيكية، الذي يؤكد على لامركزية اللغة وعدم وجود مفاهيم كالذات والحقيقة والوعي لأنها جميعًا مختلقة ومصطنعة، كما أنه يعارض التفكير الثنائي الذي يقسم الأشياء والأفكار إلى متناقضات وبالتالي يؤدي إلى صفها في ترتيب هرمي، جاعلاً أحدها أفضل من الآخر، ويقترح بدلاً من هذا أن «نفكك» اللغة ونبين أن الأشياء في الحقيقة ليست متناقضة بل معنية ببعضها وربما أيضًا متطابقة. يؤكد سليم هذه اللاحتمية ويقول: «الحقيقة مسألة نسبية، لذا بقدر ما تنأى عن الماضي، يبدو لك هذا الماضي محسوسًا ومعقولًا أكثر، وبقدر ما تقترب من الحاضر، يبدو لك أبعد وأبعد عن المعقولية». مثلما ذكرت في بادئ المقال، عندما انتهيت من مشاهدة الفيلم كنت غاضبة لأنه غير دقيق، وغيّر من تسلسل الأحداث، ومسح بعض الأحداث المهمة، وأهمل بعض الشخصيات الرئيسية، إلى أنني وبعد مضي فترة من الزمن، أدركت أن الرواية بأكملها ليست مطلقة، وأن سلمان رشدي لا يريد لنا أن نتقبلها بالضبط كما هي، لأن سليم بنفسه شك في حقيقية بعض الوقائع. ولكن ما يهم في النهاية هو إدراكنا أنها «رغم كل شيء نابعة عن حب»، مثلما يؤكد سليم في نهاية الرواية.

ومرة أخرى، مقالي هذا يتناول موضوعين فحسب من الرواية، وفي الحقيقة هي نظرتي الذاتية والنسبية التي جعلتني أركز على هذين الموضوعين خاصة دون الأخرى. يمكن قراءة الرواية في سياقها التاريخي وتحليل الكثير من أحداثها مثل الانتخابات، والحروب بين الهند والباكستان، واستقلال البنغلاديش، ودور رئيسة الوزراء إنديرا غاندي التي تعتبر محورا أساسيا في الرواية (وفي تاريخ الهند الحديث أيضًا)، كما يمكن قراءة الرواية من منطلق صراع الطبقات الاجتماعية ما بين البرجوازية والبروليتارية والاستعمارية، وأيضًا من زاوية أنها بأكملها ترمز إلى الهند بكافة شخصياتها وعوالمها السحرية والواقعية. لكي نفهم الرواية، كما يبدو لي، يجب أن نبتلع الهند بحدودها الحديثة والقديمة، وهذا حتمًا شيء مدهش وساحر.


————————-

*تُرجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية، وأصدرتها دار الجمل بترجمة عبدالكريم ناصيف.


————————-

نُشر المقال في مجلة أكثر من حياة بتاريخ 09 نوفمبر، 2014:

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

فيسبوك - "Who's Afraid of Virginia Woolf?"

I thought to myself: 'I wanna watch a light film for tonight, not heavy as most of my films are'. I chose "Who's Afraid of Virginia Woolf?" because genius Wikipedia decided it's black comedy and drama, which I normally love and enjoy.

This turns out to be one of the most devastating films I've watched in a long time. Think Bergman plus a lot of shouting/cursing/drinking. God, this was so uneasy. I'm almost glad it's over because I'm emotionally drained. But now that I'm thinking about it, it is completely powerful and marvelous. Highly recommended but not for the fainthearted.


عن كتاب "معذبوا الأرض" لفرانز فانو


أنهيت قراءة كتاب "معذبوا الأرض" لفرانز فانو والذي يعتبر من أهم ما كتب عن نظريات ما بعد الاستعمار، إلى جانب كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد.
يعرض الكتاب تحليلاً سيكولوجياً عميقاً للجوانب المختلفة للاستعمار التي تؤثر بشكل مباشر على المستعمَر والمستعمِر. على رغم أني قرأته على عجالة، لأن علي تقديمه في الفصل بعد يومين، إلا أني استمتعت به كثيراً. فصله الأخير، بشكل خاص، كان مؤثراً وقوياً بالنسبة لي. سرد فيه فانو حالات كثيرة شهدها خلال عمله كطبيب نفسي في إحدى مستشفيات الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، من طرفي الصراع: الجزائريين والأوروبيين، ونرى فيه سايكولوجية الضحية والجاني، بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم السياسية وتصنيفاتهم المجتمعية.

مثلاً: المراهقين الذين قتلا صديقهم الأوروبي رغم أنه لم يفعل شيئاً لهما، ولكنهما شهدا مآسي الحرب على أهليهما وكان فعلهما ذاك انتقاماً طفولياً محضاً.
أو المحقق البوليسي الأوروبي الذي كان يعذب المقاومون وأدى ذلك إلى إصابته بنوبات غضب وهستيريا أفقدته أعصابه حتى أمام زوجته وأطفاله.
أو الشاب الجزائري الذي لم يرد أن يخوض الحرب وأراد التركيز فقط على دراسته وتخصصه التقني، ولكن نظرات الناس له وتصنيفهم له بأنه خائن جعله يسمع هلوسات لثلاث ساعات متواصلة في الليل، أصوات في رأسه تشتمه وتصفه بالخيانة والجبن، مما قاده إلى حافة الجنون.
أو الفتاة الأوروبية المصابة بالقلق والهوس لأن أباها كان يعذب المقاومون في سرداب منزلهم، وكانت تسمع صرخاتهم دائماً.

هذا الفصل الأخير على وجه خاص كان متعباً ولكنه ضروري لنفهم ضراوة الحرب وأثرها السايكولوجي العميق على طرفي الصراع، ومنه فهمت قول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر واصفاً هذا الكتاب: "يجب أن تتحلى بالشجاعة لكي تقرأ هذا الكتاب."