الاثنين، 31 أكتوبر 2016

"قصة مرعبة أمريكية" وما بعد الحداثة

لعل ظرافة مسلسل "قصة مرعبة أمريكية" المعروض في نِتفلِكس، تكمن في توظيف كافة كليشيهات أفلام الرعب الأمريكية لدرجة فكاهية، وإعتماد أسلوب المحاكاة الساخرة التي تجعل المشاهد يحاول ربط المسلسل بأفلام الرعب الكلاسيكية (من قبيل The Shining, Rosemary's Baby, Halloween إلى آخره)، فمثلاً، مع أول حلقة في الجزء الخامس، يربط المشاهد فوراً بين هذا الجزء وفيلم The Shining لستانلي كوبريك من حيث وجود الفندق المسكون، الممرات الطويلة بالسجاد الأحمر، الطفلين الأشقرين في الممرات، وغيرهم من الدلائل، وأيضاً في الجزء الأول: وجود شخصية مساعدة المنزل التي تظهر وكأنها شابة جميلة ومثيرة ولكنها في الحقيقة عجوز شمطاء. هذه المعارضة السينمائية التي تعتمد على تركيب عدة مشاهد وأنماط من أعمال سابقة هي إحدى سمات الأسلوب ما بعد الحداثي في السينما، وفيه تنحسر اللمسة الشخصية للمخرج أو الممثل ويصبح التقليد الفكاهي بديلاً ملائماً.

عامل الظرافة يأتي أيضاً حين يتم إدخال عوامل تفكك التركيبة المألوفة لأفلام الرعب الأمريكية ومن ثم تعيد بناءها حسب مقاييس مختلفة، ومن ذلك مثلاً توظيف الموسيقى في المسلسل. قلما نشاهد فيلم رعب يوظف موسيقى راب حديثة، مثلما يرقص ويل دريك مع أغنية المغني الأمريكي الشهير دريك "هوتلاين بلينغ" في أحد المشاهد المسلية - لاحظوا أيضاً أن اسم الشخصية مماثل لاسم المغني. وفيما عدا ذلك، قلما أيضاَ نشاهد توظيف فكاهي لوسائل التواصل الإجتماعي في أفلام الرعب. أكاد أزعم أن استخدام هذه الوسائل يكاد يكون غير موجود في أفلام الرعب التقليدية.

- تحذير (سبويلر آلِرت - ما كان فيني أبحث عن ترجمة ملائمة لهالكلمة) الفقرة التالية تتحدث عن الحلقة الأخيرة من الجزء الخامس بشكل خاص، مفترضة أن القارئ شاهد الحلقة -

المثال الأبرز، في وجهة نظري، لهذه العوامل الدخيلة هي في حكاية الشخصية البديعة سالي ماكينا، والتي تمثل دور شبح ومدمنة مخدرات ومتعطشة - إلى درجة اليأس - لحياة عاطفية سعيدة. تعاني سالي من توق حاد إلى الاهتمام والعناية من الآخرين (الرجال على وجه خاص)، وهي لذلك تكون كثيرة التشبث بمن يدعوه حظه البائس بأن يصبح شريكها، مما يستدعيهم في النهاية لهجرها، وذلك بدوره ساهم في تكوين عقدة هجران لدى سالي. مثال على ذلك هو حين تفرض سالي في أحد المشاهد رجلاً على الإفصاح بحبه لها وإلا سوف تقتله، وفي محاولة يائسة للنجاة، يتفوه الرجل بكلمات الحب لإمرأة يرآها لأول مرة! في الحلقة الأخيرة للمسلسل، ونتيجة لهجران شريكها الذي أحبته، تقع سالي في منحدر اليأس والكآبة بشكل أكثر حدية من السابق مما يجعلها تستأنس بقتل ساكني الفندق كوسيلة لتقضية الوقت. آيريس، صاحبة الفندق، ترى أن ذلك يسيئ لسمعة الفندق، وتشتري جهاز آيفون لسالي وتقنعها أن هذا الجهاز سوف يساعدها على التخلص من عقدة الهجران واليأس التي تعاني منها! تقول آيريس: "في عصرنا الحديث، لا أحد يجب أن يعاني من الوحدة أبداً، ولو لثانية!". في مشهد بديع وفكاهي إلى أبعد حد، نرى شخصية سالي التي عهدناها حزينة وباكية طوال الجزء الخامس وكأنها انبعثت للتو من ميتة طويلة - وهي، أذكركم، شبح ميت منذ زمن طويل - بعدما اقتنت هذا الجهاز الفاتن وحمّلت كافة برامج التواصل الإجتماعي من سناب تشات وإنستغرام إلى فيسبوك وتويتر. تركت إدمانها للمخدرات ورمت الإبرة التي كانت تستعملها من النافذة وأصبحت مدمنة وسائل التواصل الإجتماعي وأصبح لديها عدد هائل من المتابعين و"المهتمين" بصحتها وأمورها وحياتها الخاصة. وهكذا تحولت سالي من الشبح المرعب ذو العينين الباكيتين الذي يطارد الرجال إلى "فاشينستا" و"بلوغر" ونجمة وسائل التواصل الإجتماعي.

كون سالي "شبح بداخل آلة"، حرفياً، هو تقليد ساخر لفكرة الأشباح المخيفة في أفلام الرعب الاعتيادية. لعلها ليست المرة الأولى التي يتم فيها دمج الأشباح بالتكنولوجيا في أفلام الرعب (أستحضر مثلاً فيلم "الخاتم" الذي يصور بتكرار مشهد خروج الشبح من التلفاز)، ولكنها حتماً من المرات القليلة التي تصور هذا الدمج بفكاهية وسخرية مدهشتين - مما يجعل مشاهدة هذا المسلسل تسلية مضاعفة.


الاثنين، 4 يوليو 2016

(موضوع فيسبوكي) النسوية والليبروفاشية

عن الرجال اللي يفرضوا على المرأة معاييرهم الليبرالية أو العلمانية أو المدري-شو-إيّه من الأيديولوجيات اليسارية المختلفة... أود ممارسة ما يسمى بالنقد المزدوج، إذ أعتبر نفسي أيضاً ممن يميلون لليسار، ولكن بعض ما يُقال يثير حفيظتي واستنكاري، ولذا أكتب هذا الموضوع القصير. بالطبع، نفس النقد ينطبق على الرجال اللي يفرضوا معاييرهم الدينية على المرأة، اللي من قبيل "لو لبستي كيت وكات إنتي غير محتشمة"، "لو ضحكتي بصوت عالي إنت قليلة أدب"، والخ... ولكن هذا الموضوع كثر الكلام عنه فسوف أتجاوزه.

هنالك فئة من الرجال يدعوا أن ما يمارسونه من إقصاء بحق النساء قادم من إيمانهم بالنسوية وبحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، وأنا أحب أن أقول لهم أن فهمهم للنسوية والحريّة يتناقض مع أبسط المبادئ التي تنادي لها النسوية.

بعضٌ من الأمثلة، مما قرأت ومما سمعت:

"إنت مش أنثى لو ما تدخني وتشيشي وتشربي"
"شو عرفك بالأنوثة لو ما مارستي الجنس على الأقل مع خمسة رجال؟"
"عار عليك كلمة ثقافة وكلمة امرأة لو ما تمارسي الجنس"
"لازم تشيلي الحجاب والعباية ومرة وحدة تلبسي بيكيني لو بغيتي تكوني امرأة حقيقية"
"تزوجتي أول رجل طرق باب بيتك؟ تف عليكي وعلى انخضاعك للمجتمع"

مثل هذا النوع من التعليقات، وما يشابههم من تعليقات قد تكون أقل حدية ولكنها في نفس الإتجاه، إقصائية ومسيئة للمرأة لعدة أسباب، مثل:

أولاً: من أهم صفات النسوية هو الاحتواء. Inclusivity.

مثل ما نحتوي اللاتي يدخن ويشربن ويمارسن الجنس، ونؤمن بحقهن في الاختيار وحقهن في عيش حياة طبيعية بلا وسمهن بالعار والخزي وبلا ملاحقتهن أخلاقياً وقانونياً، نحتوي كذلك اللاتي لا يردن فعل كل هذه الأمور ونؤمن أيضاً بحقهن في الاختيار من غير وسمهن بالنقص وقلة الأنوثة والسذاجة. الاحتواء يا سادة يعني احترام رغبة المرأة مهما شفنا انها متأثرة بأيديولوجية دينية أو مجتمعية أو ثورية أو ماركسية. يعني اتركونا في حالنا نسوي اللي نريده من غير توصيات وإقصاءات وعاملونا كنساء لنا عقول تستطيع الحكم على الأمور بمفردها!

ثانياً: أحد المفاهيم المنتشرة في الثقافة النسوية هو مفهوم النظرة الإيجابية تجاه الجنس. Sex positivity. بشكل مبسط، يعني هذا المفهوم عدم إضفاء صفة اللاأخلاقية على الجنس ومعاملته كأي حاجة غريزية وعضوية أخرى وعدم وسم المرأة أو الرجل الذين يمارسون الجنس خارج منظومة الزواج بالعهر والخزي. هذا الموضوع مهم في بلادنا العربية بسبب قضايا الشرف، وقضايا الابتزاز الجنسي والمالي، وقضايا الإجهاض التي تُمارس بغير إشراف الأطباء، وقضايا فحوص العذرية والى آخره من قضايا يشيب لها الرأس. منبت هذه القضايا كلها هو النظرة السلبية تجاه الجنس. هذه الفكرة تقتضي بالضرورة أيضاً إلحاقها بتوعية جنسية عن الأمراض التناسلية وعن الحمل وعن الجنس الآمن وعن إعطاء القبول والموافقة (وهو ما يعرف في الانجليزية بال consensual sex، أي ضد الاغتصاب). عموماً، عودة للموضوع بعد هذا الانحراف البسيط، هؤلاء الرجال على الأغلب يؤمنون بفكرة عدم وسم المرأة التي تُمارس الجنس خارج منظومة الزواج بالعهر، ولذا يدعون (وفي بعض الأحيان يفرضون على) المرأة ممارسة الجنس بحرية، ولكن هنالك عنصر ناقص في الصورة: هذا المفهوم له معنى أعمق من الظاهر، هذا المفهوم يعني أيضاً احترام حقوق الناس غير المهتمة بالجنس، أو التي لا ترغب به، أو التي لا ترى فيه متعة، أو التي ترفض ممارسته لأسباب دينية أو مجتمعية أو مرضية أو حتى مزاجية! أن نملي على المرأة ما يجب أن تفعله بجسدها سواء كان بكشفه أو تغطيته يعبر عن رغبة في السيطرة والتسلط. هذه الاقصاءات مهينة لفئة كبيرة من الناس ومهينة لمبدأ الحرية الذي نتغنى به.

ثالثاً: hyper-sexualization of women

نظرة هؤلاء الرجال الذين يكتبون مثل هذه التعليقات نحو المرأة لا تفرق كثيراً عن كلام شيخ الدين الذي يتوعد الرجال المقبلين على الجهاد بسبعين حورية عذراء في الجنة ونعيم جنسي منقطع النظير. الطرفين يعاني من الجنسنة المبالغة للمرأة، والنظرة لها على أنها كائن جنسي وجد لمتعتهم وإشباع رغباتهم. هذا متجلي أيضاً في كثير من الإعلانات الغربية، فنرى إعلان عن سندويشة برجر على سبيل المثال والوجه الرئيسي في الإعلان إمرأة على الشاطئ بالبيكيني تأكل السنوديشة بكثير من الإغراء الجنسي المبالغ به، وكأنها أصبحت تساوي قطعة البرجر تلك في لذتها. للرجل الحق في أن يكون نشط جنسياً، وحتى أن يتباهى بذلك، ولكن ليس له الحق أبداً في أن يفرض معاييره على النساء لدرجة معاملتهن كأدوات جنسية فقط.

بالمختصر، وهذه ترجمة غير مباشرة للصورة أدناه، الاحتشام يمكن أن يكون مصدر قوة لبعض النساء، التعري أيضاً يمكن أن يكون مصدر قوة لنساء أخريات، وكذلك الأمر بالنسبة للجنس والشرب وعدم ممارستهما، وليس من حق أي أحد أن يملي على المرأة أي الطريقين تختار! مثل هذه الإقصاءات - التي سماها أحد الأصدقاء بالليبروفاشية - تساهم في نزع حق الاختيار من المرأة وتعاملها كأنها كائن لا يعقل ولا يمكنه الحكم على الأمور بنفسه، وهذا بأقل تقدير أمر مشين ومهين ولا يجب أن يحدث.


الخميس، 7 مايو 2015

عن السينما الثالثة


تحدثت الحلقة العاشرة من مسلسل "قصة الأفلام: أوديسة" عن أهم المخرجين حول العالم في السبعينيات، ومن ضمن ذلك تم ذكر إحدى أهم المقالات السينمائية التنظيرية لسينما العالم الثالث وأفلام ما بعد الاستعمار.
المقالة هي "نحو سينما ثالثة" للكاتبين الأرجنتيين فرناندو سولاناس وأوكتافيو جيتينو، وتعتبر المقالة مانيفستو لأفلام العالم الثالث، والسينما اللاتينية بشكل خاص، ولها أثرها أيضاً على السينما الإفريقية وتحديداً على المخرج السنغالي الشهير عثمان سيمبيني. تدعو المقالة إلى سينما مناضلة ومعارضة للإمبرالية الأوروبية والأمريكية بحيث تلعب دوراً أساسياً في الصراع والتحرير الوطني ضد الاستعمار وتمتد لمحاربة الفقر والظلم. يرى سولاناس وجيتينو أن الأفلام الهوليوودية والأوروبية هي عبارة عن أساليب تعبيرية للفردانية البرجوازية فدعو عوضاً عن ذلك إلى سينما سياسية تنهض بالوعي العام. قسموا الأفلام العالمية إلى ثلاثة أقسام: سينما أولى هي سينما التسلية التجارية متمثلة غالباً في هوليوود، وسينما ثانية والتي تعتبر فردانية وتعبيرية وفنية متمثلة غالباً في السينما الأوروبية لمخرجين مثل غودار وبرغمان وفيلليني، وسينما ثالثة وهي سينما سياسية ثورية تتحدث عن الهوية الجمعية لبلدان ما بعد الاستعمار.
وهناك أيضاً مقالة أخرى مهمة غير مذكورة في المسلسل، وهي "جماليات الجوع" لغلوبير روكا والتي دعت إلى سينما 'جائعة وقبيحة' تصور الفقر في الأحياء. هذه السينما يجب أن تكون معيبة تقنياً، وبمشاهد غير متناغمة، وثورية، وشاعرية. يعتبر روكا من أهم المخرجين البرازيليين لحركة "سينما نوفو" والتي صوّرت 'جماليات الجوع' في البرازيل.

للمهتمين بقراءة مقالة سولاناس وجيتينو:
https://ufsinfronteradotcom.files.wordpress.com/2011/05/tercer-cine-getino-solonas-19691.pdf

"تورليس الشاب"

شاهدتُ الفيلم الألماني "تورليس الشاب" للمخرج فولكر شلوندورف صاحب الفيلم الشهير "طبل الصفيح" المقتبس عن رواية غونتر غراس.
يعتبر فيلم "تورليس الشاب" أول فيلم ينتمي لحركة السينما الألمانية الجديدة التي أصبحت في السبعينيات والثمانينات من أهم الحركات السينمائية في العالم، ومن أهم مخرجيها راينر فرنر فاسبيندر وفيرنر هتزوج وفيم فندرز. بداية الحركة كانت عام ١٩٦٢ في مهرجان للأفلام في غرب ألمانيا حيث نادى ٢٦ مخرجاً وناقداً لسينما ألمانية جديدة مختلفة عن "أفلام الأنقاض" التي انتشرت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية والتي صورتها في حالة دمار ومختلفة أيضاً عن السينما الترفيهية التي كانت موجهة للجماهير بهدف نسيان الهزيمة. هؤلاء المخرجون الشباب الذين لم يعاصروا كل ويلات الحرب بل جزء منها ورأوا أن ألمانيا تأثرت بالإمبريالية الأمريكية خصوصاً بعد نهضتها الإقتصادية شعروا بشيء من الغربة السايكولوجية والثقافية وحاولوا لذلك تصوير هذه الغربة في أفلامهم.
أخذاً في الاعتبار هذا التاريخ المهم لفهم أفلام السينما الألمانية الجديدة، يمكن القول أن فيلم "تورليس الشاب" يعتبر استعارة لحالة ألمانيا قبل الحرب. يتحدث الفيلم عن شاب اسمه تورليس في مدرسة داخلية في بدايات القرن العشرين حيث يصادق شابين آخرين. يتميز تورليس بفكر متقد وفلسفة فريدة تجعله مختلفاً ومنعزلاً عن زملائه حيث يفضل التفكير في مسببات الأمور عن المشاركة الفعلية ويشعر بالإشمئزاز من كل ما يجده الآخرون طبيعياً - مثلما كتب في مذكراته. يكتشف زميله أن زميل آخر لهم، اسمه بازيني، سرق منه مبلغاً من المال فيهدده إما أن يخبر مدير المدرسة الصارم والذي سيطرده أو أن ينفذ كل أوامره وطلباته. بالطبع، يفضل بازيني ألا يخبروا مدير المدرسة فيقع ضحية لساديتهم وقسوتهم حيث يعذبونه ويذلونه نفسياً وجسدياً وجنسياً. يبرر زميل تورليس هذه القسوة ويقول: "لكي تتسامى عن هذا العالم، يجب عليك أن تقتل كل ما يجعلك عبداً له. المشاعر على سبيل المثال. سأشعر بالشفقة حتماً حين أعذب بازيني ولكن ذلك غير ملائم لأن بازيني إنسان غير مهم ومن يفعل مثل فعلته لا قيمة له. إذاً الشفقة في هذه الحالة هو شعور غير منطقي، وأنا أنوي قتل كل هذه المشاعر المفرطة بي". تورليس، والذي يشهد تعذيب بازيني من غير مشاركة أو تنديد، مهتم أكثر بالأسباب التي أدت بازيني إلى قبول هذا الذل والأسباب التي جعلت زملائه يستلذوا بالتعذيب. يستخلص تورليس من هذه الحادثة أن ما يبدو صادماً وسادياً وغير منطقي من بعيد يحدث هكذا بكل بساطة وطبيعية وأن الإنسان يجب أن يكون حذراً وعلى يقظة دائمة لكي لا يصبح ضحية للقسوة أو مشاركاً بها.
هذا الفيلم الذي يصور لنا حالة ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى يؤكد أنه لا يمكن الهروب من الماضي، وأن هؤلاء الشباب هم مستقبل ألمانيا، فمنهم المثقف والفيلسوف الصامت الذي يرى الويلات من حوله ويبني نظرياته عليها من غير مشاركة فعلية، ومنهم السادي الذي يريد قتل المشاعرغيرالضرورية فيه، ومنهم أيضاً المهان الذي يفضل قبول الذل عن المقاومة.

Young Törless (1966) by Volker Schlöndorff

أنصح حتماً بمشاهدته. تقييمي ٩/١٠.
وصلة الفيلم على الـ IMDb:

http://www.imdb.com/title/tt0060574/

الأحد، 1 مارس 2015

فيلم "كلوز-أب" أو "عن قرب"



فيلم "كلوز-أب" أو "عن قرب" للمخرج الإيراني القدير عباس كياروستمي من الأفلام القليلة التي تتحدث عن السينما والتي أعجبتني بحق ولامستني بشكل عميق وملهم.
هو فيلم وثائقي يتحدث عن رجل فقير اسمه حسين سابزيان مولع بالسينما وعلى وجه خاص أفلام المخرج الشهير محسن ماخمالباف. كان في الباص يوماً يتصفح سيناريو "راكب الدراجة الهوائية" والذي كتبه ماخمالباف لأجل فيلمه، وجلست بجانبه امرأة سألته عن الكتاب لأنها شاهدت الفيلم هي وابنيها وأعجبهم كثيراً. فقال لها بإمكانك أخذه فقد كتبته أنا، وبدافع الفضول والاستغراب، قالت المرأة هل أنت السيد ماخمالباف؟ فيكذب عليها ويقول نعم.
ومن هنا تبدأ علاقته المزيفة بهذه العائلة الميسورة الحال حيث يزورهم في منزلهم ويدعي أن المنزل مناسب لتصوير فيلمه القادم ويكون علاقة صداقة مع الأبناء الشباب حيث يقنعهم أنهم سيكونون أبطال فيلمه القادم. بعد حوالي أسبوع تكتشف العائلة أنه خدعهم، وتستدعي صحفي يعمل لصحيفة سورش الإيرانية والشرطة التي تعتقله وتودعه السجن لينتظر محاكمته.
يقرأ كياروستمي قصة هذا الرجل عبر صحيفة سورش، ويقرر فوراً وقف عمله الحالي والبدء في تصوير فيلم عنه، فيذهب لزيارة سابزيان في السجن ويسأله عما يستطيع فعله لأجله فيقول: "بإمكانك تصوير فيلم عن معاناتي"، ثم في نهاية اللقاء يوصيه سابزيان بإيصال الرسالة التالية إلى ماخمالباف: "فيلم راكب الدراجة الهوائية جزء مني".
يذهب كياروستمي إلى المحكمة ليطلب إذناً بتصوير جلسة المحاكمة وبتقديم الموعد، فيحصل على ما يريد، ونشهد جلسة المحاكمة الفريدة من نوعها والتي تعرفنا على شخصية سابزيان المهتم بالآداب والفنون والسينما والذي يقتبس في إحدى مشاهد المحكمة من ليو تولستوي دفاعاً عن نفسه! حتى أن كياروستمي نفسه يتدخل أثناء المحاكمة ليسأل سابزيان عن دوافعه ونواياه وحبه للسينما.


المثير والغير اعتيادي في هذا الفيلم الوثائقي هو الدمج بين المشاهد الحقيقية (غير التمثيلية) مثل المحاكمة والمشهد الأخير في الفيلم حين يلتقي سابزيان بماخمالباف - وهو مشهد جليل وعظيم - وإعادة تمثيل المشاهد التي حدثت قبل ذلك من قبل نفس الأشخاص - فمشهد لقاء سابزيان بالسيدة من عائلة آهانخاه في الباص على سبيل المثال هو مشهد تمثيلي. كل الأصالة والإبداع يكمن في هذا الكسر بين التوثيق والتمثيل والذي أدى إلى فيلم مدهش ليس فقط من ناحية الإخراج بل وحتى من ناحية القصة الإنسانية الملهمة التي تغطي مواضيع الهوية والفقر وحب السينما. حلل البعض الفيلم على أنه يرمز إلى أزمة ضياع الهوية الإيرانية والبحث عنها بعد الثورة وإثر الحرب مع العراق، وفي لقاء لاحق مع كياروستمي، لم ينكر أن الفيلم قد يعني ذلك ولكنه ذكر أيضاً أنه لم يكن واعياً بذلك أثناء تصوير الفيلم.

أنهي باقتباس من سابزيان أثناء المحكمة يلخص مدى جمال هذا الفيلم:

"في كل مرة أشعر فيها بالحزن في السجن أتذكر هذه الآية من القرآن "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" ولكني لا أشعر بالسلوى. كلما شعرت بالحزن والقهر أشعر برغبة بالصراخ للعالم حول معاناة روحي وكل العذابات والأحزان التي اختبرتها في حياتي - ولكن لا أحد يريد سماع ذلك. ثم يأتي رجل طيب ويصور كل عذاباتي في أفلامه بحيث أستطيع مشاهدتهم مرة تلو الأخرى، يصور الوجوه الشريرة التي تتلاعب بحياة الآخرين، الأغنياء الذين لا يكترثون لاحتياجات الفقير البسيطة. ولذلك شعرت بالاضطرار للتخفيف عن نفسي عبر قراءة ذلك السيناريو [يقصد سيناريو فيلم "راكب الدراجة الهوائية" لماخمالباف] أقرأه ليطمئن قلبي"




تقييمي 10/10 ، وصلة الفيلم على الـIMDb:
http://www.imdb.com/title/tt0100234/

الأحد، 22 فبراير 2015

روما، المدينة المفتوحة



فيلم "روما، المدينة المفتوحة" للمخرج الإيطالي روبرتو روسيليني من أوائل الأفلام للمدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة والذي يحكي قصة المقاومة الإيطالية الشيوعية ضد النازية أثناء الاحتلال الألماني لإيطاليا.
تم تصوير الفيلم بعد أسابيع قليلة من تحرير روما وأتت معظم مشاهده في شوارع روما من غير استخدام استوديوهات تصويرية مجهزة - وذلك بسبب تدميرهم أثناء الحرب - وقد أدى ذلك إلى إبراز الصورة الحقيقية للمدينة والمباني ومشاعر الناس بعد الحرب، كما أن المثير أن روسيليني قام بتصويره كفيلم صامت في البداية ثم قام بدبلجة أصوات الممثلين أثناء عملية المونتاج، وذلك لغرض السرعة في إنتاج الفيلم. يحتوي الطاقم التمثيلي على مجموعة بسيطة محترفة، وأما بقية الممثلين فكلهم غير محترفين - وقد أصبحت هذه الخاصية من أهم خواص المدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة بعد هذا الفيلم.
يحكي الفيلم قصة زعيم المقاومة الشيوعية جيورجيو مانفريدي الذي يكتشف الجستابو (الشرطة السرية النازية) مقر إقامته ويقومون بعملية واسعة للبحث عنه، ولكن صديقه فرانشيسكو وخطيبته بينا والقس الكاثوليكي دون بييترو يقومون بمساعدته وإخفاءه - ولكن ذلك لا يستمر طويلاً إذ يتمكن الجستابو من القبض على مانفريدي ودون بييترو، ولن أفسد بقية تفاصيل الفيلم على القارئ الذي قد يرغب بمشاهدته.
رغم أن الفيلم ليس مقتبساً بشكل مباشر عن قصة حقيقية إلا أن الكثير من الأحداث في الفيلم حدثت بالفعل في الواقع، حتى أن من شاهدوا الفيلم حين صدوره عام 1945 ظنوا أنهم يشاهدون تسجيلاً لأحداث حقيقية. تكمن أهميته في كونه تأريخاً مهماً لفترة الاحتلال النازي لايطاليا خصوصاً مع تصويره الواقعي وحسه الوثائقي كما أن مشاهدته مثرية من الناحية السينمائية إذ نرى الإمكانية الواسعة للسينما وهدفها الإنساني الراقي رغم المعدات المحدودة والظروف الصعبة والتحديات العديدة.


تقييمي للفيلم 9\10
وصلة الفيلم على الـ IMDb:
http://www.imdb.com/title/tt0038890/

الأحد، 15 فبراير 2015

المدرعة بوتمكين



بعد الثورة البلشفية في روسيا عام ١٩١٧ بقيادة فلاديمير لينين، كان الإتحاد السوفييتي منشق بين حرب أهلية بين الجيش الأحمر والجيش الأبيض والحرب العالمية الأولى ومجاعات وانهيار اقتصادي. كل ذلك أدى إلى حالة من الفوضى ولذا لجأ القادة البولشفيين إلى طرق مختلفة لجمع الشعب الذي كان أغلبه أمياً ومنقسم إلى عدة لغات مختلفة. من بين أهم الطرق التي اتخذوها هي الأفلام، فهي في النهاية أفلام صامتة ولا تحتاج إلى المعرفة لفهمها (في تلك الفترة طبعاً)، حتى أن لينين قال: "السينما بالنسبة لنا هي أهم نوع من الفنون". ذلك أدى بالطبع إلى إنتاج عدد كبير من أفلام البروباجاندا لعل من أهمها وأبرزها فيلم "المدرعة بوتمكين" والذي بالإضافة إلى اعتباره فيلم بروباجاندا فهو أيضاً من الأفلام الرائدة في المونتاج السينمائي. من أشهر المقاطع في الفيلم هو مقطع "مدرجات أوديسا":
http://youtu.be/laJ_1P-Py2k

مقطع ثوري في الإنتاج السينمائي من نواحي مختلفة. سيرجي آيزنستاين من أهم المخرجين السوفيتيين من المدرسة البنيوية السينمائية والمهتمة بالمونتاج بشكل خاص. مشاهدة الفيلم ضرورة لكل عاشق سينمائي.