الأحد، 12 أغسطس 2012

"شجرة الحياة"... الإنسان الحائر بين طريق الرحمة والطبيعة


بطاقة الفيلم:
شجرة الحياة (2011)
اللغة: الإنجليزية
إخراج: تيرينس ماليك
بطولة: براد بيت، شون بين، جيسيكا تشاستين
الجوائز والترشيحات: ترشح لثلاث جوائز أوسكار كأفضل سينماتوغرافيا، وكأفضل فيلم، وكأفضل إخراج

قد تحبه كثيراً، أو تكرهه كثيراً. ربما ستفهمه وتحلل تفاصيله وتصل إلى مرحلة اقتناع أنك قد فهمت الفيلم، أو ربما ستجد أنه بلا معنى وبلا منطق وبلا حبكة. تباينت حوله الآراء بشكل كبير وذلك لاختلافه الواضح من التيار الهوليوودي الاعتيادي.
فيلم "شجرة الحياة" من إخراج تيرينس ماليك، وهو مخرج معروف بقلّة أفلامه وبإبداعها واختلافها في ذات الوقت. فقد أخرج الفيلم الشهير "الخط الأحمر الرفيع" بتعاون أيضاً مع الممثل القدير شون بين، وأخرج فيلم "أيام الجنة" الذي أنوي مشاهدته قريباً. لأفلام تيرينس ماليك طابع نفسي فلسفي بأسئلة لا متناهية عن الوجود والنفس الإنسانية، وهذا هو في الحقيقة ما جعلني أكون من فئة الذين أحبوه كثيراً.
يحكي فيلم "شجرة الحياة" عن عائلة أمريكية من تكساس مكونة من أب (براد بيت) وهو مهندس ومخترع وأم (جيسيكا تشاستين) وهي أم محبة مرحة وأولادهم الثلاثة في فترات مختلفة من حياتهم، بتركيز أكبر على فترة المراهقة. يبدأ الفيلم بسرد من الأم عن الطريق الذي يختاره الإنسان لنفسه في هذه الحياة، فهذا الطريق إما أن يكون طريق الرحمة أو طريق الطبيعة. طريق الرحمة لا يحاول إمتاع نفسه، ويتقبل النسيان والكراهية والإهانات بغير ضغينة، هو طريق العدالة والإنسانية، في حين أن طريق الطبيعة يحب السيطرة ودائماً ما يبرر الأحزان ويجد طريقاً لها حتى لو كان من حوله محباً ومضاءاً، وهو الطريق الذي يتبع قانون الغاب "البقاء للأقوى". في أحد مشاهد الفيلم يقول الأب عن نفسه، موضحاً طريق الطبيعة الذي اتخذه: "أنا لا شيء، انظروا إلى الألق من حولي، انظروا إلى الطيور والأشجار، أنا أهنتهم جميعاً ولم أعر لهم انتباهاً، أنا لم أنتبه إلى البهاء". هذه المقدمة المستوحاة من الفلسفة المسيحية تمهد المشاهد لشخصيات الفيلم التي تنقسم إلى هذين الطريقين، ومنذ البدء يعرف المشاهد أن الأم تتبع طريق الرحمة وأن الأب يتبع طريق الطبيعة، وأن الفتيان مشتتين بين هذا وذاك وبين صرامة الأب ووداعة الأم.
للفيلم جوانب عدة سأتناول كل منها على حدة، رغم ارتباطهم ببعضهم البعض، فهناك الجانب النفسي السايكولوجي، وهناك الجانب التجريدي الانطباعي، وهناك الجانب الفلسفي الوجودي. فمن الجانب النفسي يتجلى في الفيلم بوضوح مفهوم "عقدة أوديب" لمؤسس علم التحليل النفسي سيجموند فرويد، والمستوحاة من الأسطورة الإغريقية. فالإبن الأكبر "جاك" مفتونٌ بوالدته ومتعلق بها وممتعض من والده بل ويصل في أحد مشاهد الفيلم إلى أنه يتمنى لوالده الموت. وفي مشهد آخر يصرخ الإبن في وجه أبيه مشيراً إلى أمه: "هي الوحيدة التي تحبني" وهكذا يعيش الإبن في صراع مع نفسه طوال الفيلم ويبدأ يكتشف مساؤى أبيه ويحب أكثر فضائل أمه. أما من الجانب التجريدي والانطباعي فالفيلم يكاد يخلو من حبكة خطية بنقطة بداية ونقطة نهاية واضحين، ويستطيع المشاهد أن يلتقط أي مشهد قصير في الفيلم ويخلق منه قصة سردية متكاملة وطويلة. هنا أشير إلى بوستر الفيلم المصمم بشكل فسيفسائي عبر وضع عدة صور إلى جانب بعضها البعض، فالفيلم أيضاً يتكون من عدة صور بصرية بديعة يستطيع المشاهد أن يختار أي منها ويطلق لخياله العنان. كما يتداخل مع قصة الفيلم عدة صور لتكوين الأرض والفضاء والجزئيات والحياة الأولية للأرض والبحار، فكأن المشاهد ينتقل بشكل سلس من قصة هذه العائلة الأمريكية إلى فيلم آيماكس وثائقي عن تكوين الأرض والفضاء والبحار، بل وحتى عن حياة الديناصورات، ويمتد هذا الفيلم لحوالي عشرون دقيقة من مجمل الفيلم، ويأتي مع سرد فلسفي لأسئلة وجودية كثيرة من قبيل: "أين أنت؟ هل كنت تعلم؟ هل تشاهدنا؟ أين تعيش؟" وهنا يتداخل الجانب الفلسفي مع الجانب البصري للفيلم ويخلق تحفة بصرية بديعة. من ضمن العناصر الأساسية لتكوين الفيلم أو الثيمة الرئيسية هي ثيمة الموت، إذ يشكل علامة الإستفهام الأكبر في سلسلة الأسئلة المتكررة، ومن الجدير بالذكر أن كل الاسئلة السردية الموجهة إلى الله تأتي بصوت همسي لا عال، فتبدو الشخصيات وكأنها تناجي نفسها وتحدث ربها في السر، وتسأله ما قد يطري على ذهن أي إنسان في حالة المصيبة والموت.

_________________
نُشر المقال في صفحة سينما، جريدة الرؤية، يوم 5-يونيو-2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق