يقول فرانز كافكا: "أظن أن علينا أن نقرأ الكتب التي تجرحنا وتطعننا. إن قرأنا كتاباً لا يوقظنا بضربة على رأسنا فلم نقرأ إذن؟ نحن بحاجة إلى الكتب التي تؤثر بنا ككارثة، تجعلنا نحزن بعمق، كموت شخص نحبه أكثر من أنفسنا، كنفي في غابة معزولة عن الجميع، كإنتحار. الكتب يجب أن تكون الفأس الذي نكسر به البحر المتجمد في دواخلنا."
لربما حقق هو ذلك عبر روايته "المسخ" والتي تحمل فاتحة هي من الأشهر في تاريخ الأدب: "استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم."، قد يبدو ذلك ككابوس مرعب بالنسبة لنا، وهو بالفعل كذلك، فأن تستيقظ وترى أنك تحولت إلى مسخ، هكذا بكل بساطة تنقلب حياتك رأساً على عقب، فذلك هو الرعب بعينه. ولكن الكتاب الذي وجدتني أتذكره حين قرأتُ هذا الإقتباس لا يحتوي على كائنات متحولة أو مسوخ، بل الرعب كامن في شخصياته الإنسانية بكامل إنسانيتها، هو مسرحية الباب للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني.
منذ الصغر يكبر الإنسان على مجموعة من المفاهيم والمبادئ والأفكار التي غرست فيه من أهله ومدرسته ومجتمعه، وهي تشكل قواعد أساسية ليمضي بها في هذه الحياة. منذ الطفولة نسأل الأسئلة فلا نتوقع إلا أجوبة مطلقة من ألسنة الحكماء والكبار. وبيقين الأطفال نؤمن أن هذا هو الطريق الذي يناسبنا وهو الطريق القويم. لذا حين نكبر نقمع تلك الأسئلة التي تنبش في حقيقة الأجوبة المطلقة، لأنها -أي الأجوبة- آتية من الحكماء الذين لا يمكن أن يخطئوا. ثم يحصل في بعض الأحيان، وقد لا يحصل هذا للبعض، أن يأتي الفأس الذي يكسر البحر المتجمد في دواخلنا حين نصادف موقفا ما، نشاهد شيئا ما، نقرأ كتابا ما، تتزعزع هذه الأفكار وتدحض، حينها فقط تبدأ رحلة البحث عن الحقيقة، والمطلق، والله، والخلاص، والوطن والذات. حينها فقط يدرك الإنسان على أي أرض يقف، وإلى أي سماء يطمح، وربما يدرك أن أرضه وسمائه غير ثابتة فيبحث عن الثبات. وربما يدرك أن الأجوبة ما عادت مطلقة، بل كل شيء هو إحتمال، والإحتمالات لا تحصى. ولربما لا يصادف الإنسان في حياته كلها أي موقف أو كتاب أو سؤال يهزه ويغير قناعاته، فذلك هو الإنسان المطمئن أبد الدهر، فهنيئاً له. (ولكن ماذا لو كان كل ما يؤمن به هو خطأ كبير؟)
يطرح غسان كنفاني عبر مسرحيته أسئلة أزلية: ما الغاية؟ ومن أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟ ومتى الخلاص؟ ولماذا؟ ذات الأسئلة التي تؤرق الإنسان منذ بداية الزمان. يطرحها عبر القصة الموجودة في الديانات السماوية عن ملك عاد وابنه شداد ومدينته إرم ذات العماد. ولكننا نقرأ رأي الطرف الآخر، رأي عاد وشداد وليس رأي الله: "ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد... الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب". فنرى عاد الذي أراد أن يبني الجنة في الأرض وابنه شداد الذي يتوق إلى الخلاص ويبحث أبداً عن الإجابة. نعيش مع أسئلتهم وهواجسهم حول الحياة والموت والله، وربما نتعاطف معهم رغم كبريائهم وتمردهم. هو درب التيه، وكل إنسان يمشي فيه وحيداً. فهل نستطيع حقاً الحكم على الباحث والمتسائل؟
ما الحياة إلا سؤال واحد كبير، يؤمن البعض بأنهم لقوا الإجابة ولكن لكل إنسان جوابه الخاص به، رحلته الخاصة، وما إن يتوصل إلى جواب سينام الليل بعين قريرة وقلب مطمئن. ولربما تختلف الإجابات باختلاف القلوب، لربما لهذا يقول الله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" ربما الهدف الأسمى هو التعارف وما البحث إلا وسيلة للتعارف. ولذا لا أجدني متصالحة مع فكرة اليقين أو أنها بالأحرى تربكني وأشعر إزاءها بالريبة، اليقين الآتي من كافة الأطراف والأيديولوجيات بشكل سواء؛ اليمينية أم اليسارية، المحافظة أم الليبرالية، الدينية أم اللادينية، وهكذا إلى آخر قائمة الثنائيات. ربما تحدث الحروب والمآسي حين يؤمن فرد أو جماعة أن جوابهم الذي توصلوا إليه هو الحقيقة المطلقة ولا حقيقة غيرها، فكل فرد منا يظن أن بإمكانه الوصول إلى الكمال الإنساني والمجتمعي إن طبق الجميع بفرض منه مجموعة من القواعد التي يؤمن بها هو، ولكم أن تتخيلوا مدى إختلاف هذه القواعد عن بعضها البعض ورغبة الجميع في فرضها على الآخرين. هنا تحدث الفوضى، ولفوضى وعبثية الحياة قصة أخرى.
إذن ما الحل؟ لستُ أدري، فأنا، كأنت، أبحث وأتوق.
___________________
نُشر المقال في جريدة الرؤية بتاريخ 06 يناير 2014:
http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/83658---
مقالة رائعة
ردحذفالطلاق