الأربعاء، 29 يناير 2014

طائر النار الأرمني



بورتريه
لعل منحوتة الفنان فازا ميكابيريدز في ساحة تبليسي القديمة تقول أكثر مما نستطيع قوله عن المخرج الأرمني سيرجي باراجانوف. ليست المنحوتة لباراجانوف واقفاً مكتفاً يداه ويتطلع إلى السماء، ولا تصوره وهو يمسك في يده عصا وينظر إليك متأملاً، بل هي منحوتة معلقة على الجدار، إن نظرت إليها من زاوية مستقيمة ستظنه يطير. يمد فيها يديه فتبدو أكمام قميصه كجناحين، وترى رجليه وكأنهما في وضعية الطيران، وتظهر على وجهه ابتسامة دافئة.
ستُعجب بهذا المخرج أكثر إن علمت أن المنحوتة مأخوذة من صورة فوتوغرافية لباراجانوف وهو يقفز وسط حارة قديمة في تبليسي. هناك منحوتة أخرى أمام متحف يريفان في أرمينيا تصوره واقفاً باسطاً يديه أمام صدره ويحمل حمامة، ورافعاً يده الأخرى كتحية سلام وحول يده برواز بلا صورة. كما أن هناك صورة فوتوغرافية مدهشة، من تصوير الفنان يوري ميخيتوف، تصوره وهو ينظر مباشرة نحو الكاميرا بعينين ثاقبتين، ويحمل في يده مزهرية ورود، وفي رأسه قبعة سوداء، وفوق القبعة قفص دائري، وفوق القفص يقف عصفور.

مذنب لأنه متفرد
حين حُكم على باراجانوف بالسجن لخمسة سنوات في مخيم للعمل الشاق في سيبيريا بفعل أفكاره التي اعتبرت شاذة في وقتها عن الإتحاد السوفييتي، كتب آندريه تاركوفسكي إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوكرانيا قائلاً: "في السنوات العشر الماضية، أخرج سيرجي باراجانوف فيلمين فقط: ظلال أجدادنا المنسيون، ولون الرمان. ولقد أثرا على السينما أولاً في أوكرانيا، ثانياً في هذا البلد ككل، وثالثاً في العالم بأسره. هناك عدد قليل جداً من الناس في هذا العالم ممن يستطيعون مجاراة مواهب باراجانوف الفنية. هو مذنب، مذنب لأنه متفرد. ونحن مذنبون لأننا لا نفكر فيه يومياً ولأننا فشلنا في استكشاف أهمية هذا الفنان." وقد احتج مجموعة من الفنانين والسينمائيين وقتها رفضاً لهذا الحكم، من بينهم جان لوك جودار وفرانسوا تروفو وايف سان لوران وفيديريكو فيليني ومايكلانجلو انتونيوني ولويس بونويل.


متعة غير تقليدية
لجأت في مقدمتي عن هذا المخرج الأرمني إلى مجموعة من الصور تحكي لنا عنه أكثر مما قد نقرأه في كتب السيرة، وإلى إقتباس من أحد أكبر وأهم صناع السينما في العالم. أفلام سيرجي باراجانوف بصرية بامتياز، تحمل أقل قدر ممكن من الحوار، وتبهر المشاهد بتصويرها للتراث والثقافة الاوكرانية والأرمنية. هي ليست أفلام ممتعة بمعنى المتعة التقليدي، ولكنها أفلام ذكية وتتحدى المشاهد بقصصها وصورها غير الاعتيادية.

ثلاثة أوطان
ولد باراجانوف في مدينة تبليسي في جورجيا في التاسع من يناير عام 1924، ويقول عن نفسه: "يعرف الجميع أن لي ثلاثة أوطان، فقد ولدت في جورجيا، وعملت في أوكرانيا، وسأموت في أرمينيا"، لذا احتفاءاً بأعماله الخارجة عن المألوف دوماً، ورغبة في تعريف المشاهد العربي بمخرج عالمي بعيد كل البعد عن الإنتاج الهوليوودي، جاء هذا المقال. سأركز فيه على ثلاثة عوامل مهمة ومتكررة في أفلامه، وهي توظيف الألوان والبراعة التصويرية، والتراث الاوكراني الشعبي والديني، واللغة الشعرية، وسأعرض أمثلة من فيلمين على وجه التحديد، هما أهم أفلامه القليلة التي أخرجها؛ "ظلال أجدادنا المنسيون"، و"لون الرمان". قصة الفيلمين بسيطة؛ فكلاهما يتحدثان عن رجل وُلد وعاش وأحب وحزن ومات. في "ظلال أجدادنا المنسيون" الرجل هو إيفان، رجل بسيط يسكن في قرية تابعة لشعب الهوتسول في جبال الكاربات في أوكرانيا، يقع في حب فتاة تدعى ماريتشكا منذ صغره، ولكن تاريخ عائلته وعائلة الفتاة شائك، فأباها قتل أباه، ولكنهما رغماً عن ذلك يصران على البقاء معاً إلا أن الأقدار تمنعهما فيتفرقان. أما فيلم "لون الرمان" فهو يحكي سيرة حياة الشاعر الأرمني سايات نوفا (وهذا الإسم يعني ملك الأغنية) من طفولته إلى مماته، ولكن بطريقة بصرية وشعرية أكثر مما هي ذاتية أو حرفية، ومقسم إلى ثمانية فصول، يمكننا تسميتها لوحات حية لكونها تتمتع بأقل قدر ممكن من الحركة وتبدو وكأنها لوحة فنية، ويتخلل الفصول أبيات شعرية من كلمات الشاعر.

رمزية اللون
برع باراجانوف في توظيف الألوان بطريقة رمزية لصالح معاني أفلامه، ورغم أن الفيلمين تم إنتاجهما في الستينيات من القرن الماضي، أي بتقنيات بصرية محدودة، إلا أنه استطاع إخراجهما بطريقة سابقة لعصره. في النصف الأول من فيلم "ظلال أجدادنا المنسيون"، النصف السعيد والمغمور بالحب، كانت الألوان حادة وصارخة وكان اللون الأحمر طاغياً ومتمثلاً في الثياب التقليدية والنار، وأيضاً جاء استخدام الألوان الأرضية – الأصفر والأخضر والبني – كثيراً، دالاً بذلك على أهمية الطبيعية لدى شعب الهوتسول. يتحدث باراجانوف عن هذا الفيلم ويقول: "الطبيعة هي التي أنجبتنا وهي من سيعيدنا ثانية إلى حضنها. ينبغي أن نبجل الطبيعة: حقيقتها، مثلها العليا، أمومتها، ومنشأها." أما في النصف الثاني وبعد حادثة مريعة جعلت إيفان صريعاً للكآبة، فقدت الألوان حيويتها وأصبحت كلها باهتة وخافتة بل وأصبح الفيلم أقرب إلى الأبيض والأسود منه إلى الملون. تقع أحداث الفيلم في جبال الكاربات الباردة والمكسوة بالثلج في معظم أيام السنة، ولكن المشاهد لا يشعر ببرودة الأجواء إلا حين تحولت الألوان وأصبحت رمادية ومعها أصبح الجو يبدو لنا قارساً وقاسياً أكثر. وصف أحد مراجعي الفيلم في موقع قاعدة بيانات الأفلام العالمية IMDb تجربة مشاهدته بركوب لعبة أفعوانية بها خلل، وأجد ذلك الوصف دقيقاً بسبب الحركة المستمرة للكاميرا وزوايا التصوير غير الاعتيادية. ينصدم المشاهد في أول مشهد من الفيلم – على سبيل المثال – بشجرة تقع على أحد الرجال وترديه ميتاً، تم تصوير هذا المشهد من زاوية الشجرة فنشهد وقوعها وكأننا نحن من وقعنا على الرجل. وكذا الحال أيضاً مع فيلم "لون الرمان" فمن العنوان نعرف أن هذا الفيلم يستخدم الألوان بطريقة رمزية، ومن بداية الفيلم، يرى المشاهد فاكهة الرمان على قطعة من القماش الأبيض وكأنها تنزف دماً. يختبر باراجانوف براعته مع الكاميرا كطفل يلعب بدميته ويعاملها كصديقة، فيدخل المشاهد في جو مشحون ومليء بالحركة إلى درجة الإبهار.


تقاليد أوكرانيا
غالباً ما تكون الأفلام العالمية مقدمة تعريفية للثقافات والشعوب المختلفة، وما أدهشني في أفلام باراجانوف هو عمق وتجذر الثقافة الاوكرانية فيها. فمن خلال هذين الفيلمين، أخذت نظرة حول تقاليد الولادة والزفاف والوفاة وتعرفت بشكل مقرب إلى الأغاني والرقصات الاوكرانية الشعبية، حتى صرت أنشدهم بلا حفظ للكلمات ولكن بحب للحن. كغرابة الصورة الفوتوغرافية لباراجانوف التي تحدثت عنها في بداية المقالة، أتى فيلم "لون الرمان" بصور سريالية متعددة وكأنها خارجة للتو من حلم أحد المجانين. يكفينا أن نكتب اسمه في محرك البحث غوغل ونفتح على صوره لننصدم بعجائبيته. صورة للشاعر وهو مغمض العينين ويحمل جمجمة عليها خوذة محارب، صورة لرجل نائم على سرير أسود، بجانبه الأيمن طفل يحمل كرة ذهبية، وبجانبه الأيسر طفل آخر بجناحين على ظهره يشبهان قرون الأيل، صورة لسقف منزل مرصوف عليه مجموعة كبيرة من الكتب المفتوحة. يُعتبر الشاعر سايات نوفا من أهم شعراء أرمينيا في القرون الوسطى، وقد نسب إليه ما يقارب 220 أغنية، كتبهم بعدة لغات منهم الفارسية والأرمنية والجورجية، ولكن معظمهم باللغة الأذربيجانية. وهو يعتبر من شعراء التروبادور أو "عاشيق" وهم شعراء متجولون وعازفون للعود. أصبح قسيساً في أواخر سنين حياته وقُتل وهو في الكنيسة من قبل قوات الشاه الإيراني آغا محمد خان قاجار لرفضه الدخول إلى الإسلام وتمسكه بالمسيحية. لذا جاء الفيلم مليئاً بالصور الرمزية المسيحية والأناشيد الدينية، ففي أحد المشاهد البديعة، على سبيل المثال، والتي تستفتح ببيت شعري لسايات نوفا: "كمجموعة من الضحايا البريئون، أتينا إلى هذا العالم لنقدم لك القرابين يا إلهي" يغني مجموعة من الأطفال في كنيسة وهم يحملون مختلف القرابين والرموز، كصورة المسيح، وقرون الأيل، ومنحوتة حمامة، وكأس، ويحملون معاً قطعة قماش بيضاء عليها نقوش مخرمة، فيما يحفر الشاعر قبر كاهن توفى، ثم تدخل الكنيسة مجموعة كبيرة من الخرفان. ينتهي هذا المشهد ببيت شعري آخر: "طلبت كفناً أبيضاً لتغطية الجسد الميت، ولكنهم بدلاً عن ذلك أعطوني نوبات جنونية مضطربة من أجسادهم الحية، من أين لي بحب غير أناني؟". في مشهد آخر، من فيلم "ظلال أجدادنا المنسيون" نرى تقاليد الزفاف الأوكراني. يدخل البطل الذي سيتزوج لابساً ثياباً تقليدية الكنيسة، لتستقبله نسوة يغنين بفرح، ثم تقترب منه أحدهن وفي يدها قطعة قماش لتغطي بها عينيه ثم تقوده إلى كرسيه. بعد ذلك تأتي الزوجة، معصوبة العينين أيضاً، لتجلس بجانبه. تأتي النسوة بسلم خشبي صغير وتضعنه على رأسيهما كدلالة على ارتباطهما معاً. يقول باراجانوف عن هذا الفيلم: "لقد ركزت فيه على الجانب الأثنوغرافي: على الله، على الحب، وعلى المأساة. وهذا هو ما يعنيه الأدب والسينما بالنسبة لي."


شعر
على الرغم من قلة الحوار في أفلام باراجانوف، لاعتمادها الكبير على الصورة البصرية، إلا أن اللغة الشاعرية تجبرك على التوقف قليلاً وأنت تشاهد الفيلم لتقول "آه، يا للجمال!" وقد فعلت ذلك مراراً أثناء مشاهدة هذين الفيلمين. لذا رأيت أن أعرض بعض الاقتباسات منهما بلا تعليق على المشهد حتى يتسنى للقارئ استكشاف الفيلمين بنفسه.

- إيفان وماريتشكا يتحاوران بالغناء. ماريتشكا: غني إيفان طالما تستطيع الغناء! وسأغني لك حتى لا تفهمني. إيفان: أخبريني، أخبريني يا فتاتي، أين فقدت عقلي؟ أو ربما خبأته بين شجرات البتولا أو الحور. ماريتشكا: حين وقعنا في الحب، حتى شجرة السنديان الجافة بدأت بالإزدهار، وحين افترقنا ذبل الليلك. إيفان: آه يا حلوتي ماريتشكا، يا عصفورتي الثرثارة، لو قدر لنا فقط أن نحب بعضنا لصيف واحد! ماريتشكا: تذكرني يا إيفان، ولو مرتين يومياً، فأنا أتذكرك سبع مرات في الساعة الواحدة. تبرعمت شجرة التفاح، ونحن أحببنا بعضنا منذ الصغر. إيفان: ذهبت إلى المرج، ورأيت عصفوراً هناك، ماذا تفعلين الآن يا ماريتشكا ذات الشعر الأسود؟
- يجب أن نحافظ على الكتب ونقرأها، لأن الكتب أرواح وحياة. دون كتب، لن يرى العالم شيئاً فيما عدا الجهل.
- صلاة: إلهي دع الأرواح الضائعة تنضم إلينا، تلك المجروحة في الرحلات الطويلة، أو تلك التي غرقت في مياه عميقة.
- كنا نبحث عن ملجأ لحبنا، ولكن بدلاً عن ذلك، قادنا الطريق إلى أرض الأموات.
- كيف أحمي قلاع حبي الشمعية من وهج نيرانك المفترسة؟

مغامرة
حين سألوا باراجانوف كيف أصبحت مخرجاً؟ أجاب: "أعتقد أنه ينبغي على المخرج أن يولد مخرجاً. الأمر مثل مغامرة طفل، أن تأخذ روح المبادرة وسط أطفال آخرين وتصبح مخرجاً، مبتكراً بذلك لغزاً. عليك أن تصوغ الأشياء في شكل ما وتعيد خلقها من جديد. أن تعذب الناس بموهبتك الفطرية، أن ترعب والدتك وجدتك في منتصف الليالي. أن ترتدي ثياباً أشبه بثياب عمنا شابلن أو مثل هنس كريستيان أحد بطال أندرسون. أن تستخدم الريش المخبأ في صندوق الثياب، أن تحّول نفسك إلى ديك أو طائر النار. هذا هو ما كان يشغلني ويستحوذ علي دائماً، وهذا هو الإخراج." وكان هو هكذا، طائر النار، مجنوناً وعبقرياً وساخراً وأرمنياً جداً. كتب علي كامل مقال عنه في صحيفة إيلاف، وكان من جملة ما ذكر أن باراجانوف أراد الإحتفال مرة بعيد ميلاده، فخرج إلى الشوارع وهو يصرخ ويدعو الجميع إلى حضور الحفل. حضروا مئة، وشقته الصغيرة لم تكن تكفي سوى لعشرين منهم، فأدخلهم وأجلس البقية على سلالم وممرات المبنى السكني من الطابق الأول وحتى الطابق الخامس، بلا استئذان من سكنة المبنى. وكان يستقبلهم بفرح وهو يرفع نخبهم وينتقل بين الطوابق كطفل. أصيب بسرطان الرئة عام 1989 وتدهورت صحته مذاك، وفي أواخر أيامه كان يتوسل الطبيب أن يمدد في عمره ولو لستة أيام فقط حتى يكمل كتابة سيناريو فيلمه الأخير "الإعتراف"، ولكن وافته المنية قبل تحقيق أمنيته ومات في 21 يوليو عام 1990، تاركاً وراءه قصة حياة عظيمة وأفلام خلدت تاريخ أوكرانيا وتراثها وثقافتها.


___________________________________

نُشر المقال في صحيفة آراء الإلكترونية بتاريخ 29 يناير، 2014:

http://www.araa.com/article/84384

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق