الأحد، 26 يناير 2014

المغادرون نحو السلام





كانت ليلة بدرية كاملة، كانت ليلة غائمة وحمراء، حين ماتت جدتي.

كانوا يغسلونها ويكفنونها في الساعة الثالثة فجراً، أمي وخالاتي وجدتي المتوفاة خلف حجاب أبيض، ونحن نرى ظلالهم فقط. ظلال ترفع أيديها نحو السماء وتجهش بالبكاء وتدعو الله، ظلال تمسح بالكافور على جسد الميت، ظلال تمسح بالماء، ظلال تمسك المبخرة، ظلال تأخذ الكفن الأبيض وتغطي به جسد الميت، ظلال تخفف عن ظلال لتتوقف عن البكاء، وكل الظلال ترفع الصلوات والابتهالات نحو السماء: سبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر. كان المشهد جميلاً رغم النكبة، فأن ترى أرواحا استسلمت للبارئ و ودعت أثقالها وتعبها بين يديه آملة في الخلاص، وأن ترى الألم متجسداً أمامك لا يخففه سوى كلمات مذكرة برحمة الخالق، وأن ترى يقين الموت يقابله شك الحياة وتتأمل في الكون راغباً في الفهم والمعرفة، وأن ترى البدر بكامل سطوعه تارة تكشفه الغيوم وتخفيه تارة أخرى. كان المنظر جميلاً حد النشوة، وكنت أفكر، هذا الجمال لا يليق به سوى خالقه. كل ذلك يدعو إلى نوع من الطمأنينة، ولعل الطمأنينة هي كل ما نتوق إليه في هذه الحياة. فبعد كل تلك الأسئلة التي تغمرنا؛ أين هي الآن؟ هل ترانا أم ترى عدماً وتأسف للنهاية مثلما يقول درويش؟ هل ترى النور وملائكة تبتسم؟ هل تشعر بحزننا؟ ثم تنطفئ الأسئلة وتخمد، حالما ترنو إلى آذاننا صلوات بناتها.

ذكرتني طقوس غسل الميت بالفيلم الحائز على أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2008 "المغادرون" للمخرج الياباني يوجيرو تاكيتا والذي يتحدث عن عازف تشيلو اضطرت فرقته الاوركسترالية إلى الحل نظراً لإفلاسها، فيبحث عن عمل آخر ليعيل نفسه وزوجته. يرى إعلانا في الصحيفة عن "مساعدة المغادرين" ويذهب إلى المقر المذكور ليتقدم للوظيفة وهو يظن أنها تخص شركة طيران وسياحة، ولكنه يتفاجأ بأن الوظيفة تختص بإعداد الميت للكفن وهو تقليد ياباني قديم يقوم العامل فيه بغسل الميت وتطييبه وتجميله استعداداً لانتقاله إلى الحياة الأخرى. عندما تعرف زوجته طبيعة عمله تنقده وتنهره لأنها تريد له أن يعمل في وظيفة طبيعية، فيرد عليها "ولكن الموت طبيعي! كلنا سنموت وهذا طبيعي!". ولكنها لا تتصالح مع هذه الفكرة إلا حين تراه وهو يكفن جارتهم وصديقتهم وترى مدى الطمأنينة التي اجتاحت نفوسهم بفعل هذه الطقوس.

الموت هو دائماً الشخص الآخر بالنسبة لنا، هو مأساة الأحياء أكثر مما هو مأساة الميت، هو التأمل في طبيعة الناجين والباقين والمرابطين. لربما كانت الهاوية صعوداً إلى النور، وكانت الحفرة رحلة نحو الخلاص، والوادي طريق ممهد باتجاه الوطن السرمدي. ولأننا أتينا إلى هذه الأرض كزوار ولاجئين فحسب، فنحن نشعر بالتوق إلى شيء مجهول، ونحن نشيخ في لحظات سريعة لنشعر بأرواحنا مكهلة ومتعبة. فكل هذه المآسي التي نشهدها كل يوم تجعلنا نتساءل عن طبيعة النفس البشرية، أهي خيّرة أو شريرة، أم أنهما متطابقان والشيء ذاته؟ وهذا العالم الذي يبحث عن سبب للعراك والحروب، أهو نفسه العالم الذي من المفترض بنا كبشر أن نعمره؟ لم إذاً يقول العلم أنه لو اختفى الإنسان من على وجه الأرض فستزدهر الحياة فيها، في حين أن قرآننا يقول بأننا خلفاء الله في الأرض؟ إذن وجب علينا الإعتذار وطلب المغفرة والصفح لأننا فشلنا في مهمتنا. عندما نفجع بفقد من نحب، ليترك من بعده جرحا غائرا في الروح، ندرك حينها هذا الفشل. ولربما لا نصل إلى خلاصنا الروحي إلا حين نعترف بهذه الحقيقة المعتمة.

تقول بثينة العيسى في روايتها "عائشة تنزل إلى العالم السفلي": "الموت واضح، الحياة ملتبسة. الموت بسيط، الحياة معقدة. الموت عالم غريب يفتن الصغار، والحياة عالم مخيف يرعب الكبار." ولربما كان الأمر هكذا حقاً، فغربة هذه الحياة تجعلنا نتوق إلى الخلاص والراحة الأبدية، ولربما كان الموت هو السبيل نحو ذلك، هو بوابة الحياة الأخرى.

إلى روح جدتي، من كانت تنظر إلينا بعين حنونة، لا تنفك توصينا بالتعامل الحسن مع الناس وبعدم قطع الصلة، من اهتمت بتعليم أبنائها وبناتها رغم أنها لم تتعلم، رأينا الصغير والكبير يبكون فراقها، ممن نعرف وممن لا نعرف، وكان ذلك دليلا على محبتها في قلوب الناس. كوني في سلام.
______________________

نُشر المقال في جريدة الرؤية العُمانية بتاريخ 27 يناير، 2014

http://alroya.info/ar/citizen-gournalist/visions/86394---

وجريدة آراء الإلكترونية:
http://www.araa.com/opinion/20617

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق